الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرب والتراث: معضلة وجودية

فارس إيغو

2019 / 6 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


سواء أحببنا أو كرهنا، علينا أن نتعامل مع التراث ونشتغل عليه بطريقة تاريخية بعيداً عن العواطف والروح التمجيدية، وكذلك دون اللجوء الى جلد الذات، وهذا شيئ طبيعي، لا يمكن لأي إنسان أن ينفصل كلياً عن تراثه، لكن المشكلة هي أننا، اليوم، نحيا في التراث ولا يحيا التراث فينا كما يقول المفكر المغربي عبد الله بلقزيز. فلذلك، علينا أن نتخلى عن عقلية التأصيل التي تنخر وتشل التفكير المبدع والخلاق، كلما طرحت مسألة معينة، يبدأ العقل الجمعي العربي في البحث عن نظائر وأشباه لتلك المسألة في تراثنا، فإن لم يجد تأصيلاً لها في التراث، حكم بالتبديع والتجهيل والتكفير على كل من يقترح حلولاً من خارج هذا التراث (1).
كيف نتعامل مع التراث
هناك معضلة كبرى في الجواب عن هذا السؤال، وهذه المعضلة تتمثل في أن لنا إرثاً ثقيلاً عجزنا عن تدبيره وتدبره بعقلانية ووفقاً لحاجاتنا المتجددة والمعاصرة على مدى قرنين ونيف منذ لحظة الوعي بـ (الفارق) الحضاري الذي يفصل حالنا وحال أوروبا الناهضة والصاعدة بقوة.
ويمكننا تصنيف الإجابات الى ثلاثة كبرى:
(1) بين من يقول بالقطيعة المطلقة مع التراث والاندماج بقيم الحضارة الجديدة (أدونيس، عبد الله العروي)؛
(2) ومن يقول بفرز وغربلة التراث، فالقطيعة عند هؤلاء غير ممكنة لا في اتجاه الماضي ولا الحاضر الذي تهيمن عليه قيم الحداثة الغربية، وعلينا الاستناد الى مواقف وأفكار في الماضي تعتبر نويات ودرجة من درجات تطور المفاهيم الحديثة، مثل العقلانية والكونية والتأويلية؛ والأسماء في هذا الخط الفكري في التعامل مع التراث، منهم من المغرب المفكر الراحل محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز، ومن تونس هناك ناجية الوريمي، وآخرين غيرهم.
(3) وهناك أخيراً، الاتجاه الديني الذي يقول باستعادة التراث كاملاً قبل أن يجري تحريفه على يد السلطة السياسية، وإعادة انتاجه وتفعيله لأسلمة منتجات الحداثة وليس لتحديث الفكر الإسلامي؛ ويختلف أصحاب هذا الاتجاه في تحديد لحظة الانحراف عن الخط العقائدي السليم، بين عام 656 م وتحول الخلافة الى ملك عضوض مع الخليفة الاموي الأول معاوية بن أبو سفيان بالنسبة للبعض، وعام 1924 وقرار الغاء الخلافة العثمانية من قبل مصطفى كمال أتاتورك بالنسبة للآخرين.
لكن، بالرغم من وجود الخيارين الاولين على الساحة الثقافية، يبقى الخيار الثالث هو المهيمن بالرغم من لاتاريخيته ولاعقلانيته وبقاؤه يتلاعب بمشاعر المؤمنين البسطاء، وبقي العرب والمسلمون في قراراتهم المصيرية أسرى للماضي ومستهلكين شرهين للسلع والمنتجات على موائد المنتجين الكبار في العالم، وأولهم وليس آخرهم الغرب....

الماضي يلقي بظلاله على حاضرنا
يتطلب فحص ضميرنا التاريخي أن ندرس تراثنا بطريقة موضوعية وناقدة، وليس بصورة انبهارية ذاهلة. إن أولى المراجعات وأصعبها هي المراجعة التاريخية للتراث، ومن دونها سنظل عالقين بثياب الماضي، وسيبقى الماضي شبحاً يطل علينا في كل لحظة. من هنا أهمية إعادة كتابة التاريخ، ليس فقط كأمجاد ومفاخر وكشوفات، بل أيضاً، تاريخ حروب وفتن كبرى وفتن صغرى وغزوات للشعوب الأخرى ومجازر في حق القريب منا والبعيد عنا وامتحان للعقول والضمائر واستتابات ونفي وتهجير وقتل للمخالفين في السياسة وفي العقيدة وفي الرأي أحياناً، وعندها ترتاح روح السهروردي القتيل (1154 ـ 1191) صاحب "حكمة الإشراق" في مستقرها الأخير، والذي قتلته وشاية فقهاء عصره وكان المؤدب والمعلم لإبن القائد صلاح الدين الايوبي، فكتبوا اليه رسالة يقولون فيها: "ادرك ولدك وإلا تتلف عقيدته"، فأمر صلاح الدين باحضار السهروردي وقتله في قلعة حلب، وهو القائل:
أبداً تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوبٌ أهل ودادكم تشتاقكم
والى لذيذ وصالكم ترتاحُ
يا صاح ليس على المحبّ صباحُ
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنما الغرام فباحوا
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباحُ.....
الحاضر هو المعبر الضروري بين الماضي والمستقبل
تعتقد الباحثة التونسية ناجية الوريمي صاحبة الأطروحة الشهيرة في "الإئتلاف والإختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكر الإسلامي القديم" (2004)، بأنه يجب أن تقوم علاقة وطيدة بين الماضي والحاضر، بين التراث والحداثة، وهذه العلاقة لا يمكن أن تكون صحية، ولا يمكن أن تكون منتجة، إلا إذا قمنا "بتشريح" هذا التراث، إلا إذا قمنا بتفكيك نصوص التراث التي لا تزال الى اليوم تتحكم فينا، تتحكم في قسمٍ هام من المعاصرين المسلمين والذين يحاولون أن يفرضوها علينا، على اعتبار أنها تنتمي الى فترات من التاريخ اعتبروها مرجعية، وهذه الفترات التاريخية تمارس سلطاتها على المعاصرين بأشكال متعددة. علينا أن نفكك الأسس التي تقام عليها هذه السلطة، إن كل الاختيارات الماضية التي ما تزال تتمتع بالسلطة الى اليوم، هي في نهاية الأمر منتج تاريخي، منتج بشري أنتج في سياقات تاريخية معينة أدى وظائف معينة، وعندما ننبه الى هذه الأبعاد الي تُغيب، كل ما نفعله أننا ننبه الى تاريخيتها، نحن نحاول فهمها ضمن سياقاتها التاريخية، نحن نعترف بها على اعتبارها اجتهاداً بشرياً في نهاية الأمر، ولا نريد أن ننقص من قيمتها، ولكن لا نريد أن تمارس علينا سلطة ما أنزل الله بها من سلطان (2).
وفي الخلاصة، الحاضر الذي هو معبر المستقبل الضروري، وهو أيضاً الجسر الذي لا بد منه للعبور الى الماضي وكشف أغواره.
(1) محمد الشيخ "هاجس التأصيل في الفكر الفلسفي العربي المعاصر"، محاضرة موضوعة على اليوتوب بتاريخ 06/06/2016، على الرابط التالي:
https://youtu.be/GahIusNSx-E
(2) حوار مع د. ناجية الوريمي، حاورها د. نادر الحمامي، وتم نشر هذا الحوار لأول مرة في آذار 2018، موجود على الرابط الالكتروني:
https://youtu.be/tLB2pbdfCtI








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - صلاح الدين و السهروردي
ثائر ابو رغيف ( 2019 / 6 / 20 - 12:18 )
عزيزي فارس
كنت ارجو لو إستشهدت بشخصيات عربية لتبيين مقالك العرب والتراث غير صلاح الدين الكردي والسهروردي الفارسي ربما كانا سيصلحان كامثلة على الدين الاسلامية, الثقافة الاسلامية ولكن من منحى عربي لم يكن الخيار موفقاً
مودتي

اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات