الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإشادة بالأطفال المُتْعِبين

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 7 / 15
التربية والتعليم والبحث العلمي


يبكي الطفل الذي ضيّع طريقه لكن مع ذلك يبقى يستمتع باصطياد الذباب المضيء. الشاعر يوشيدا رايوسُوي
في حضارة تعجُّ بفرص التنافس بغزارة، أصبح من السهل أن نجد بين الشباب المراهق نجوما في موسيقى البوب، وأولادا يتميزون ببراعتهم الأكاديمية، وشبابا يافعا يشغلون مناصب مدراء تنفيذيين كبار.
إلا أن هناك قصصا أخرى لا ترد دائما في الأخبار. إنها قصص أولئك الأولاد الذين تعوّق نموهم وتركوا مدارسهم وصاروا أولادا جانحين. وهناك معاناة صامتة لكل ولد بدين أو غريب الأطوار أو بطيء. وهناك وباء الحركة المفرطة للأطفال، والأطفال المُعالَجون بالأدوية، والأطفال المكتئبون. ويفتقر العديد من الأطفال إلى الأمل، وليس بالضرورة بسبب وجود أي غلط فيهم، وإنما ببساطة لأن الناس جعلوهم يشعرون بأنهم خاسرون.

ولم تكن الطفولة سابقا بمثل هذه الرحلة المغمومة وبمثل هذا الشعور بالوحدة مثلما نراها اليوم بالنسبة إلى الكثيرين. ويكاد المرء يقول إنّ الطفولة بحد ذاتها صار يُنظر إليها في يومنا الحاضر كمرحلة مشكوك فيها من مراحل نمو الإنسان. أما الأطفال فصار يُلقى باللوم عليهم بجميع أعمارهم، سواء كان ذلك في ملاعب الحدائق أو في الصف، لمجرد أنهم يتصرفون كما ينبغي للأطفال أن يتصرفوا. وبسبب تشخيص ميزات الطفولة العادية على أنها مصحوبة بالـ «مشاكل» – كالاندفاع والحيوية والعفوية والجرأة – نرى أن الملايين من الأطفال يجري تشخيصهم على أنهم حَرِكين زيادة عن اللزوم، وبالتالي يعطونهم العقاقير لتهدئتهم من أجل حملهم على الإذعان والطاعة. وأشير هنا بطبيعة الحال إلى الاستخدام الواسع الانتشار لحبوب الريتالين Ritalin وغيرها من العقاقير المماثلة، والى اِنبهار الناس وهوسهم باستخدام الأدوية كوسيلة لحلّ أي مشكلة بل لحلّ جميع المشاكل.

وما الريتالين سوى دواء واحد من بين العديد من الأدوية المستخدمة حاليا للسيطرة على الأطفال وإيقاف اندفاعهم، فهناك عقاقير أخرى يجري وصفها للأطفال أيضا لكنها مثيرة للقلق بالدرجة نفسها كما لدواء الريتالين (حتى أنها أكثر سُمِّيَّة منه)، مثل: عقاقير مضادة للاكتئاب Antidepressants، وعقاقير مثبتات المزاج النفسي Mood stabilizers، وعقاقير مضادات الذهان Antipsychotics المهدئة للأعصاب.
والأدوية التي تُعطى بتذكرة طبية قد تكون مناسبة لبعض الحالات المرضية المعينة، لكن لو أخذنا بنظر الاعتبار الانفجار الحاصل في مجال التشخيص الطبي لوجب أن يتساءل المرء فيما إذا لم يتمّ الإفراط في استعماله. (إذ يشكل سكان الولايات المتحدة خمسة في المئة من سكان العالم، إلا أنهم يستهلكون خمسة وثمانين في المئة من استخدام العالم لدواء الريتالين.) ويتلقى الكثير من الأطفال هذا الدواء كخيار أول، بدلا من أن يكون الملاذ الأخير. ومتى ما استعملوه فغالبا ما يستمرون في استعماله. وعندما يحصل الأطفال على مثل هذه الأدوية التي يصفها لهم الطبيب، تراهم يصبحون عرضة لخطر الإدمان عليه طوال حياتهم. وبالإضافة إلى ذلك، تطلب العديد من المدارس إعداد فحوص طبية للكشف عن المرض النفسي المسمى اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط Attention–deficit hyperactivity disorder والذي يُرمز له بالتسمية المختصرة ADHD لدى الأطفال والمراهقين، وبذلك فهم يفتحون بابا جديدا للمزيد من مبيعات العقاقير.

ويؤكد النقاد أمثال بيتر بريجن Peter Breggin على أن مرض ADHD هو في كثير من الأحيان مجرد ردّ فعل تلقائي من الأولاد كوسيلة دفاعية ضد تعسُّف النظام المدرسي المنظّم زيادة عن اللزوم الذي يقيّدهم ويضيق الخناق عليهم – وهو ردّ فعل طبيعي كان يسمى سابقا فشة خلق أو تصريف طاقة أو تنفيس – والاحتمال الثاني قد يكون أعراض ناتجة عن حاجات نفسية في داخل الطفل لم يتم معالجتها. ويكتب بيتر بريجن الذي هو أخصائي في طب الأطفال ما يلي:

يدعو الناس الأدوية مثل الريتالين هدية من السماء، لأنها تعالج المشكلات النفسية والسلوكية . . . . لكني أرى أن الإفراط الحاصل في استعماله مروِّع حقا. وعندما سألني المعهد الوطني للصحة أن أكون أحد الخبراء المتحدثين حول آثار هذه الأدوية في أحد المؤتمرات التي تم تنظيمها، قمت بقراءة معظم المراجع الهامة، ووجدتُ أن هذا الدواء عندما يعطى للحيوانات، فإنها تتوقف عن اللعب؛ ويتوقف حبّ الاستطلاع عندها؛ وتتوقف عن الاحتكاك بغيرها من الحيوانات؛ وتتوقف عن محاولة الهرب. فالريتالين دواء جيد لجعل الحيوانات تسكن الأقفاص . . . . وها نحن جيدون في جعل الأولاد يسكنون الأقفاص. أما التحدث عن التربية ومشابهتها بما يتضمنه المثل الأفريقي المعروف «تحتاج تربية طفل واحد إلى قرية بأكملها» فهو أمر حسن، إلا أننا في الواقع نتصرف وكأننا نؤمن بأنّ العملية كلها لا تحتاج إلى أكثر من حبة دواء واحدة.

لا ندري بالأساس إن كان مرض ADHD هو التشخيص الطبي الصحيح لتصرفات الأطفال المشار إليها، فالموضوع مستمر مثار جدل؛ فهناك فئة تنظر إليه على أنه مرض، في حين تقول فئة أخرى أنه من السهل جدا رؤية التشخيص موجودا لدى جميع الأطفال العاديين تقريبا. إلا أنه مهما كان الجواب على هذا السؤال، فالواقع هو أن معظم الآباء والأمهات والمعلمين الذين يتعاملون مع هذه الحالة على صعيد يومي وفي احتكاك مع الأطفال المتعِبين لا يترددون في وصفها بأنها صعبة ومرهقة. وليس هناك من شك في أن تشخيص مرض ADHD يعيل صناعة طبية بمليارات الدولارات تتألف من الأطباء النفسانيين والأخصائيين في المعالجة بالعلاج الطبيعي بالإضافة إلى الشركات المصنعة للدواء. إلا أن هناك حقيقة مريرة أخرى وهي أن أعدادا متزايدة من الأطفال يسلكون سلوكا تخريبيا على صعيد يومي بحيث يندفع على أثره الآباء والمعلمين إلى الأطباء طلبا للمساعدة، لأنهم لا يستطيعون الحصول على المساعدة في أي مكان آخر.

فلو أخذنا بنظر الاعتبار عدد الأطفال الذين يصارعون اليوم لإيجاد استقرار نفسي، فسوف يلزمنا التوصل إلى نهج جديد للتدخُّل المبكر لحل المشكلة في التربية التمهيدية وإصلاحها. وأعلم أن تشخيص صعوبات الطفل وتفهُّمها يشكلان مصدر
ارتياح بالنسبة إلى الآباء والأمهات. وتُعتبر تسمية المشكلة بداية الحصول على المساعدة في بعض الأحيان. غير أنها تلعب دورا مؤثرا في أحيان أخرى في إزاحة أطفال أذكياء ومقتدرين وضمّهم إلى صفوف ذوي الاحتياجات الخاصة أو صفوف البطيئين في التعلُّم. وبسبب العدد المتزايد لتشخيصات الحالات المرضية للتلاميذ أصبح من الصعب لمعظم المعلمين حتى المتفانيين منهم تحديد مواهب كل طفل وحدود قابلياته.

ولو تمّ تضليلنا إلى الاعتقاد بأن السلوك التخريبي للأطفال يمثل نوع من أنواع المرض دائما، وبأننا ينبغي إعطائهم الأدوية التي يحتمل أن تكون خطرة عليهم، فمعنى ذلك أننا نتخذ الحلّ السهل للخروج من الأزمة. فبدلا من ذلك، يمكننا أن نلقي نظرة إلى بيوتنا ومدارسنا لنكتشف مدى تأثير انشغالاتنا الذاتية والماديّات في منع الأطفال في أغلب الأحيان من الحصول على السلام الروحي والاستقرار النفسي. وتروي لنا سارة بارنيت Sara Barnett، العاملة في مجال الخدمات الاجتماعية، هذه القصة:

عندما كنت أعمل في العيادة الطبية، فغالبا ما كان الآباء والأمهات يجلبون أطفالهم ويتشكون من أمور عادية وعامة مثل: «إنه لا يستمع إلى توجيهاتنا» أو «تنتابه العديد من نوبات الغضب.» وهناك حالة رضية تُلصق بالأطفال تسمى «اضطراب السلوك التخريبي» وما تعنيه مجرد أنهم يسيئون التصرف، أو لا يسمعون الكلام.

وجزء من العلاج القائم على الأدلة العلمية والبحوث لهذه الحالة يسمى «تدريب الوالدين على إدارة السلوك» وهو برنامج يدرب الوالدين على إدارة مشاكل أطفالهم السلوكية في المنزل أو المدرسة. فيطالب الجزء الأول من العلاج الوالد والوالدة قضاء خمس دقائق من كل يوم ليلعبوا مع طفلهما. خمس دقائق في اليوم! وكان الكثير من الآباء غير مستعدين لذلك، وسمعت قائمة كاملة من الأعذار عن سبب عدم إمكانية ذلك. ومن أحد الأسباب الرئيسية الذي جعلني أترك هذا العمل، بعد ولادة بنتي، هو أنني لم أكن أفهم بل لم أكن أعقل كيف لا يمكن للآباء أن يقضوا خمس دقائق في اليوم مع طفلهم.
ولو تحدثنا بمنطق الطب السريري الذي يبني استنتاجاته على الفحوص الطبية العملية وليس على النظريات، فيمكن تتبع السلوك التخريبي لدى الطفل واكتشاف السبب الكامن ورائه وهو: عدم وجود ارتباط سليم للطفل مع الأهل. فلن يستمع الطفل إلى والديه لو لم يوجد حوار بينهم ولو لم تُبنى علاقة حميمة. فيفكر الأطفال كالآتي: «لماذا يجب أن أستمع إلى توجيهاتك لي؟ فهي لا تعني أي شيء؛ وليس لها أي سلطة عليّ.» فأشرح هذا الموضوع للوالدين فيقولون: «نعم، نعم، نعم.» غير أنهم لا يريدون القيام بالعمل المطلوب منهم؛ فيريدون جلب طفلهم لي لإصلاحه. فكم يُحزن هذا الأمر ويسحق القلب!

هناك العديد من المسببات لعدم استقرار الأطفال. وبما أنه ليس في وسعنا حلّ جميعها في آن واحد، إلا أننا لدينا حقّ السلطة التربوية للسيطرة والتأثير في عائلاتنا أو فصولنا الدراسية. لذلك دعونا نبدأ من هناك. فالبداية جيدة دائما حتى لو كانت خمس دقائق في اليوم. ولن تكون عملية إصلاح وعكس التوجهات السلبية لدى أولادنا سهلة بالتأكيد، لكن كلما ترددنا في المباشرة في العمل ازداد صراع الأطفال وهم يكبرون تحت وطأة العبء الثقيل للحالة المرضية. وعندما نلصق عليهم ميزة معينة تقترن بذلك العبء المرضي فلا يساهم ذلك في تخفيف حمله على الطفل دائما؛ بل على العكس، فيمكن أن يسبب في الواقع مشكلة: إذ يأخذ الآباء والأمهات والمعلمين والأقران من الأصدقاء والتلاميذ أيضا في معاملته على أساس أنه مريض بدلا من التعامل الطبيعي معه كطفل عادي.

ويجب أن نساعد كل طفل على فعل ما بإمكانه تأديته رغم حالته الصحية، في الوقت الذي نساعدهم من ناحية أخرى على تخطي صعوباتهم. فخذوا على سبيل المثال قصة كايل Kyle كما روتها والدته آيرين Irene كما يلي:
كان عمر كايل ست سنوات عندما تم تشخيص مرض ADHD عنده. وعندما قرأنا قائمة أعراض المرض، علمنا أنها كانت مطابقة لتصرفاته، وكانت كالآتي: سرعة سهوه وشرود ذهنه، وصعوبة في اللعب بهدوء، ويحكي كثيرا، ولا يصبر لغاية مجيء دوره، ويستعجل في الإجابة قبل الانتهاء من إكمال السؤال، ومندفع وعفوي، ولا يستطيع الجلوس بثبات، وتلعب يديه باستمرار بالأشياء من حواليه، أو يقفز على مقعده عند الجلوس، ولديه مشاكل في التركيز – فهذا كان ابني كايل بشموليته، لكن هل يعني هذا أنه معاق؟ فأخذنا نتساءل: من ذا الذي يرسم هذه الخطوط الغامضة بين المعاقين والطبيعيين؟

وُلِد كايل قبل أوانه، وكان دائما نعسانا لم يكد يفتح عينيه. وفي عمر ثلاثة أشهر استيقظ وبدأ حياة ذات طاقة عالية من الحيوية والنشاط. وكان يقلب الدنيا لو كان في مهده ما لم نعطِه لعبة جديدة أو نشرة للأطفال. ولم يحضن مطلقا الحيوانات القطنية ولم يحب الجلوس في الأحضان. وبدأ يخطو في عمر تسعة أشهر ويركض عندما صار سنة واحدة. وعندما نعطيه لعبة ترتيب الصور المقطوعة، فتراه يقلب كل شيء على الأرض ويبدأ بترتيبها وإكمالها بسرعة مستعملا كلتا اليدين.

وصارت كلمات وجمل كاملة تتدفق من فمه وكأنها شلال. وكان دائما مشغولا، ويتدخل في كل شيء، ويستولي على لعب الأطفال الآخرين. وقالت لنا معلمته في الروضة: «لو لم أرَ ما يجري وأسبق كايل بخطوة لسبقني بخطوتين.» ولما كان عمره ثلاث سنوات، ركض قبل أطفال صفّه وتسلق شجرة عالية جدا لاستكشاف بيت صغير خشبي مبني على شجرة، فصارت معلمته تبحث عنه في كل مكان. ولأنه كان دائما يركض أو يقفز أو يتسلق فكسر عظمة الترقوة التي في أعلى الصدر مرتين......... يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم


.. على رأسها أمريكا.. 18 دولة تدعو للإفراج الفوري عن جميع المحت




.. مستوطنون يقتحمون موقعا أثريا ببلدة سبسطية في مدينة نابلس


.. مراسل الجزيرة: معارك ضارية بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال




.. بعد استقالة -غريط- بسبب تصدير الأسلحة لإسرائيل.. باتيل: نواص