الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حروب الآلهة -2
محمد ابداح
2019 / 7 / 16العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لايوجد أبدا في التاريخ ما يدل على أن شيئا ما فيه قد حسم مسبقا، وسواء أكانت الحقائق التاريخية وأصحابها مؤنسة أو موحشة، ملهمة أو محبطة، عادية أو مدهشة، فإنها تعرض نفسها بثقة مع مرور الزمن كمنجزات للتأمل فيها، بيد أن هذا التأمل لا ينبغي له الإفلات من قبضة النقد، ولا ريب أنه تاريخ رُسم بريشة مدفوعة الأجر وغالبا من قبل بلهاء متصنعين، ونحن نرغب على الأقل في مسائلة أشخاصه قديمهم وحديثهم، فربما يتنبّه نفرٌ من الشعوب العربية إلى أولئك الذين يرونهم ويقدّسونهم حتى العبادة من دون أن يفكروا بهم، إنه لمن الصعب أن نرى الحقيقة كاملة، فالنور يقرضُ من العتمة جيبا يُخفي فيه رجال الدين والسياسة أسباب سذاجتنا، ورغم البون الشاسع بين ما كان وما هو كائن يضاف إليه تواضع المؤهل فلا يضمن السقوط بشرك المعارف التاريخية والدينية.
إن أول قبلة علومنا التاريخية كانت الكهوف والمقابر وما تحويه من عظام وآثار و نقوش ونفائس، دلت على أن القدماء يهيئون الأموات لمتابعة حياتهم بعد الموت، أما أولاتنا فيُهيئون الأحياء منا للموت، والأنا الخاصة بهم محصنة جيدا بدرجة التحنيط، كان التحنيط لضمان عودة الروح للجسد، وكان التجسيد ( التماثيل) لتخليد الذكرى، وأصبح موقع التمثال مزارا للمُريدين ومقدمي القرابين، وعليه بات يوجد في الصور أكثر مما يوجد في أصاحبها، ذلك حال حكامنا، إن الحياة الحقيقية لدي الشعوب العربية المسحوقة تكمن في الخيال لا في الواقع ، والوحيدون الذين يعيشون الواقع ويتنفسون من كل مسامة فيه هم ذوو السلطة والنفوذ.
إن الموت أولا وقبل شيء هو أمر حتمي وسيظل كذلك، وهذا الأمر لم يرق لرجال الدين باعتبار أن الموت هي رحلة عبور لعوالم أخرى، ورغم أنها فكرة متأخرة جدا في الزمن وقبل ظهور الرسالات السماوية، التي كرست مفاهيم الجهاد في سبيل الإله والإستشهاد والخلود بالجنة، إلا أن الموتى باتو يموتون فقط في زمننا المعاصر، وهو ما لم يكن بحسبان الحكام ورجال الدين. إن حيلة القرابين البشرية لقمع وتركيع الشعوب لاسترضاء الآلهة لم تجدي نفعا مع تطور المجتمعات وتسببت بالثورات الشعبية فكان لابد من ظهور الأنبياء. إن الخلود قبل التوراة كان ببقاء الجسد -التحنيط - وبعد التوراة بات الخلود بالإستشهاد والحروب المقدسة، إن الميت لايلتقط لنفسه أو مع رفقاءه في الموت صور سيلفي ولا يخطب فيهم في كنيسة أو مسجد، الأحياء وحدهم من يلتقطون الصور.
قديما كانت توقد شعلة بكهف فوق جثة الميت ويتسمّر الأحياء حوله في حزن عميق، وبمرور الوقت تحولت الكهوف لمزارات للتأمل وممارسة الطقوس ثم تحولت لدور عبادة تماما كمقابر القديسين وقد أضيف لها سقفا وجدران فظهرت الكنائس. وتجنبا لقلق التأخير لنقم بكشط رماد حرق الموتى عن جدران كهوف العصور الحجرية وسنجد المواد الأولية للإله، صور الشمس والكواكب والنجوم والنار والقرابين البشرية المقدمة لها على المذابح، وعلى جانب آخر صور ثيران ووحوش ترمى بالرماح والنبل، وآدميين يتراشقون بالسهام والفؤوس، وفي الأرضية بقاياعظام الموتى، القتل من أجل الحياة تحول للقتل من أجل الإله، أمر لم يستطع حتى أصحاب الكتب السماوية مقاومة إغراءات مآلاته (من اجل شر تلك الامم يطردهم يهوه إلهك من امامك)- تثنية 5/9 رغم كثرة التحريم في شرائعهم للتميّز عن الوثنية (بهذه كلها تنجَّست الامم التي انا طاردها من امامكم)- لاويين 8/1 ارميا 5/3
إن أمعاء التاريخ تحوي إشارات عصبية صاعقة من بينها معضلة وضع الإنسان إسما لما لا يُسمّى، إن كل القارات تُجمع على إسم البحر والنهر والسماء والأرض وغيرها لكنها اختلفت في اسم الإله، وهنا ينبغي أن لا نخلط بين تعدد الالهة والإختلاف على التسمية، قديما كان ثمة إله لكل شيء، للمطر وآخر للبرق وإله للشمس وكان له أبناء وبنات وزوجات جميعهم آلهة أو أنصاف آلهة، إبنة الإله تتنازل عن الإلوهية للتزوج بآدمي أحبته، بمرور الزمن فقدت الآلهة هيبتها وآليات عملها وثار الشعب على الآلهة، فكان لابد من توحيد الآلهة، ظهر التوحيد من ظلام تاريخ ما قبل الدعوة الإبراهيمية لكن هذا الأمر تعلق برهان خطير على السلطة، فإله واحد يجمع الصفات والأسماء كلها، وحاكم واحد (ملك أو سلطان أو خليفة) يحصد الألقاب كلها، غير أن هذا الرهان الذي شكل أسس المقايضة في التعامل الدائم بين الحاكم والمحكوم سقط مبكرا أمام قاعدة الخارق أي اللامرئي وإليكم الصورة: لاريب أن تاريخ مجتمعاتنا الديني كان مشكلا من الأموات أكثر من الأحياء، فمئات الألوف من البشر قضو أثناء بناء المقابر الملكية ولنا في المقابر الفرعونية أسوة سيئة، معظم الخطب الدينية تتناول سير الصالحين وغيرهم من الأموات، التماثيل والنصب التذكارية المقامة على شرف الأموات، إن الموت أمر لامرئي وكل لامرئي خارق وغامض، فكان من مصلحة البشر محاولة التواصل مع اللامرئي لاتقاء غضبه ونيل رضاه، فهو الذي توهب منه الأشياء وإليه تعود، فكان لابد من تشخيصه والتفاوض معه ومن ثم تمثيله، تصدى رجال الدين والحكام لتك المهة النبيلة ، لكن على خلاف اللامرئي باتت الأشياء توهب لهم ولا تعود بل يطلبون المزيد وبقسوة غالبا. إن ما نطلق عليه مجازا -الأثر النفسي للدين- هو في ببساطة فن سياسي يقوم به الضعيف (رجل الدين أو الحاكم) لخداع القوي ( الشعب) ليقلب الكفة.
والخلاصة يرتهن رجل الدين والحاكم بتمثيل قوى لامرئية يضمن لشعبه رحمتها وكرمها ويتقي غضبها، بدأ الأمر بأضاحي بشرية، ثارت الشعوب على هذا الإله المتعطش لسفك الدماء وعلى دينه فاستبدلت الأضاحي البشرية بالحيوانات، كثرت الأله أو قلَت فلكل حاكم أو رجل دين إله وديانة يعرف كيف يحكم البشر بهما. إن كلمتي (الدين- الدنيا) لهما نفس الأحرف، ويا لها من عدالة لمن ينشدون العدالة، فليس ثمة سوى تفسير وحيد للدين وهو أن كل ما نراه في الدنيا هو تشخيص للخارق اللامرئي، ولأن الدنيا مُلزِمة في حساباتها مطلقا فإنها أقل تسامحا وليونة من الدين، لذا فالدين هو نداء استغاثة من شر الطبيعة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. أضرار إثر حريق في كنيس يهودي بملبورن الأسترالية
.. من هم المانحون الذين ساهموا في ترميم كاتدرائية نوتردام؟
.. ماهي فرضيات استعادة تنظيم الدولة الإسلامية نشاطه في سوريا؟
.. كاتدرائية نوتردام في مهب رياح التاريخ • فرانس 24 / FRANCE 24
.. كاتدرائية نوتردام في باريس.. عمق أدبي وفني يكاد يضاهي الأهمي