الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو علمية التاريخ ( من التاريخ السردي إلى الاشكالي )

الهيلالي محمد
(El Hilali Mohammed)

2019 / 7 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


نحو علمية التاريخ ( من التاريخ السردي إلى الإشكالي )

ظل التاريخ لعصور عدة مجرد أساطير وقصص تتداولها الأمم , فيها وصف سردي لأحوال الدول وتعاقب الحكم على مر التاريخ بين الأسر والسلالات وما يتخلل ذلك من معارك وحروب ... كان يتم الاعتماد في روايتها على معاصرة الأحداث من طرف المؤرخ أو على الرواية الشفوية في ظل صعوبة الاعتماد على المصادر غير المكتوبة ( الرسوم والنقوش... ), حيث يرى روزنتال أنه كان من الطبيعي " أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي أمام النقوش الهيروغليفية والمسمارية لعدم معرفة فك رموز هذه اللغات أنذاك " ( روزنتال , علم التاريخ عند المسلمين ), وقد حاول المؤرخون في العالم الإسلامي اقتباس قاعدة "الجرح والتعديل" من رواية الأحاديث النبوية لإعطاء المتن التاريخي مصداقية وموضوعية أكبر , وهذا ما نوه به المؤرخ الوضعاني أسد رستم الذي اعتبر هذه القاعدة " الجرح والتعديل " مطابقة في مبادئها وضوابطها وشروطها لقواعد المنهجية التاريخية الحديثة التي جاءت بها المدرسة التاريخية الحديثة في القرن 19 م وكما درسها في الجامعات الأمريكية خلال ثلاثينيات القرن الماضي, وفي هذا الصدد يقول رستم : " ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين لما تأخروا في تأسيس علم الميتودولوجيا حتى أواخر القرن 19م " ( أسد رستم , مصطلح التاريخ 1939 ) هكذا استفاد التدوين التاريخي العربي كثيرا من قواعد علم الحديث فكما تحرى عالم الحديث سلسلة الإسناد وأعمل النقد طبق المؤرخون المنهج نفسه في الأخبار المتناقلة , رغم هذا التطور الذي عرفه التاريخ على مستوى المنهج فإن ارتباطه بالعلوم الشرعية بشكل كلي جعل العلامة ابن خلدون ينتقده كثيرا حيث دعا إلى ضرورة استقلال التاريخ بذاته كعلم له المناهج والقواعد التي تؤطره حيث يقول في هذا الصدد " هذا العلم مستقل بنفسه فإنه ذو موضوع وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني " (المقدمة ص 38 ) فنقد الأخبار حسب ابن خلدون يتجاوز الجرح والتعديل في رواية الحديث ليرتكز على مبدأ مطابقة الخبر لأحوال الاجتماع البشري كما يتجاوز موضوع الخبر في التاريخ لتلك الصور التي شهدتها الكتابة التاريخية العربية ( السير , المغازي ...) ليتناول أحوال الاجتماع البشري وما يعرض لهذه الأحوال من تحولات على مستوى الملك والتغلبات وعلى مستوى الصنائع والعلوم وعلى مستوى انتحال المعاش ( الشؤون الاقتصادية ) أي بعبارة أخرى ليوسع حقل الموضوع إلى شتى جوانب الحياة البشرية .
هكذا عرف التاريخ تطورا مهما خلال القرن 19 م مع المدرسة الوضعانية ( الوثائقية ) والتي ركز روادها من أمثال أوغست كونت وسينوبوس على أهمية الوثيقة المكتوبة في الرواية التاريخية حيث يقول في هذا الصدد جورج ليفيفر " لا تاريخ بدون وثائق " كما اعتمد رواد هذه المدرسة في تمحيص الوثائق على أسلوبي النقد الداخلي والخارجي من أجل إعطاء مصداقية أكبر للوثائق المعتمدة , بيد أن ما يؤاخذ على هذه المدرسة المنهجية هو تركيزها على الوثيقة المكتوبة وارتباطها بشكل كلي بالأمة والدولة لذلك اقتصر تأريخها على الجانب السياسي وهذا ماجعلها محط انتقادات حادة من لدن مدرسة الحوليات التي وسعت من مفهوم الوثيقة ( الآثار , المعتقدات والمشاعر ) وموضوع التاريخ ( الانتربولوجيا , الذهنيات ...) فلا معطى الوثيقة مقدس بذاته ولا الواقعة التي تشير إليها الوثيقة هي الحقيقة التاريخية بذاتها فلابد من قراءة الوثيقة بذهنية أوسع ومن زوايا مختلفة فلا يكفي النقد الداخلي والخارجي وإن كانا ضروريين حيث لابد من التفسير والتأويل واستدخال علوم أخرى لا على مستوى المساعدة فحسب بل على مستوى التكامل وباتجاه منهج تكاملي للعلوم الإنسانية والاجتماعية داخل علم التاريخ , إلا أن مدرسة الحوليات بتأسيسها لما سمي ب " التاريخ الشامل " الذي تمثل بظهور أعمال تاريخية كبرى اتسمت بالشمول واستخدام مناهج ومعطيات الاختصاصات الإنسانية المتعددة ( الاقتصاد , الديمغرافيا ... ) لم تستطع أن تستمر طويلا في العطاء على نفس المنوال والمستوى والمنهج ( مستوى المؤسسين الكبار ) كلوسيان فيفر ومارك بلوخ وفرنان بروديل , حيث عرفت هذه المدرسة مع بداية الثمانينات أزمة معرفية بدت معالمها في ظاهرة يسميها أحد المؤرخين المعاصرين فرنسوا دوس" التاريخ مفتتا " حيث تحولت الفروع الإنسانية التي انتظمت في عمل التاريخ الشامل إلى أعمال جزئية معزولة ( مونوغرافية بلدة أو قرية ...) .
من خلال الانتقادات التي وجهت لمدرسة الحوليات حاول ثلة من المؤرخين المعاصرين المنبثقين من هذه المدرسة خلق توجه جديد يضمن استمرارية مدرسة الحوليات مع بعض التعديلات تحت مسمى " التاريخ الجديد " والذي يعد جاك لوغوف من أبرز رواده حيث حاول هذا الاتجاه إعادة بناء الماضي من خلال علاقته بالحاضر و من شتى أوجه الحياة البشرية ( التاريخ العام ) عبر منهج تحليلي يروم التوصل إلى رؤية تركيبية تعتمد على وثائق ( عبد الله العروي , مفهوم التاريخ ) وانطلاقا من مسألة مطروحة مسبقا ( التاريخ الإشكالي ) حيث تأتي الإشكالية كمرحلة أولية في كل نهج تاريخي وتتضمن في طياتها كل القضايا التي تؤطر البحث من بواعث وأهداف وانشغالات وتساؤلات ومشاكل بالإضافة إلى كونها تعبر عن شخصية المؤرخ ومن خلالها عن وسطه وحقبته , وتتأطر بأبعاد ثلاثة هي الزمن والمجال والمجتمع ويتم من خلالها تشكيل تساؤلات ووضع افتراضات باعتماد الوسائل التي تمكننا من بلوغ الوقائع والحقائق التاريخية .
ينبغي أن نشير إلى أن كل إشكالية تتضمن تصور للحدود التي يضعها المؤرخ لموضوعه انطلاقا مما يتمثله عن المجتمع الحالي , كما أن تأطيرها يحتاج إلى عمل معقد ومعرفة وإرادة حتى يكون المشروع متلائما مع خطوات المنهج التاريخي ( أندري سيجال 1992 ).
وجب أن نشير في الأخير إلى أن المنهج التاريخي يبقى محدد بالزمان والمكان ومطوق بسلسلة من الإشكالات كما أشار إلى ذلك الأستاذ عبد الله العروي , حيث لابد أن يرى المؤرخ المنهج في إطار التحولات التاريخية ليقدم لنا دراسة ذات طابع تاريخي محض .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قال النائب الفرنسي الذي رفع العلم الفلسطيني في الجمعية


.. لا التحذيرات ولا القرارات ولا الاحتجاجات قادرة على وقف الهجو




.. تحديات وأمواج عاتية وأضرار.. شاهد ما حل بالرصيف العائم في غز


.. لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية الفرنسية تعقد اجتماعها الخام




.. إياد الفرا: الاعتبارات السياسية حاضرة في اجتياح رفح