الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من هو يوحنّا الذهبيّ الفم

سيمون العيسى

2019 / 7 / 27
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وُلد يوحنّا في أنطاكية بين سنة 344 و354. ترمَّلت أمُّه أنتوزا وهي بنت عشرين سنة. فاهتمَّت بتربية ابنها الأولى بشجاعة ما بعدها شجاعة. فعلَّمت ابنها بشكل خاصّ، طراوة القلب مع الآخرين، أمانة لا تتراجع مع الأصدقاء، حبًّا كبيرًا للفقراء.

تعلَّم يوحنّا الفلسفة في مدرسة أندراغاتيوس، والبلاغة لدى ليبانيوس الذي علَّمه فنَّ الخطابة فدُعيَ بحقّ "خريوستحومس" أي صاحب الفم الذهبيّ، لما كان يخرج من فمه من أقوال تجعل المؤمنين يسمعون ويسمعون ولا يملُّون. ما تطلَّع الذهبيّ الفم إلى المحاماة يمارسها، ولا إلى المدرسة يعلِّم فيها أو يديرها. فقد فضَّل سريعًا، العلوم الإلهيَّة على الحكمة البشريَّة. فرافق الأسقف ميليتيوس وتقبَّل العماد المقدَّس سنة 372. ودرس الكتاب المقدَّس مع ديودور أسقف طرسوس، ومؤسِّس مدرسة أنطاكية التفسيريَّة. كما كان رفيق تيودور، أسقف المصيصة، الذي دعاه السريان "المفسِّر" فترجموا كتبه إلى لغتهم. حين رُسم "قارئًا" في الكنيسة، عاش حياة النسك في منزله، ثمَّ مضى إلى الجبال المجاورة، على مثال معلِّمه الذي مضى إلى البرِّيَّة قبل البدء برسالته. ولكن ضعفت صحَّتُه فعاد إلى أنطاكية. رسمه ميليتيوس شمّاسًا سنة 381. وخلف ميليتيوس، فلافيان. رسمه كاهنًا سنة 386. فلبث يوحنّا خلال اثنتي عشرة سنة، الواعظ في الكنيسة الكبرى، في أنطاكية.

حين مات نكتار، بطريرك القسطنطينيَّة، في 27 أيلول 397، اخير يوحنّا لكي يخلفه. فشهرته كخطيب سبقته إلى العاصمة. رُسِم أسقفًا في 26 شباط سنة 398، بيد تيوفيل بطريرك الإسكندريَّة الذي سيكون عدوَّه حتّى الموت.

منذ البداية، شرع يوحنّا في إصلاح كبير، فتعلَّق به الفقراء، وقسم من الكهنة والمجتمع. ولأنَّه ما أراد أن يساوم، تكاثر المتآمرون حوله. ودخلت الإمبراطورة أوكسية معهم، فشابه سميَّه يوحنّا المعمدان حين ندَّد بالسلوك المشين في القصر. قال: "مرَّة ثانية تغضب هيرودية. مرَّة ثانية تسخط. مرَّة ثانية، ترقص، مرَّة ثانية تطلب رأس يوحنّا على طبق" (مر 6: 17-29). ذاك هو النبيّ الذي يقود كلمة الحقّ ولا يتراجع. فأُرسل إلى المنفى مرَّة أولى ومرَّة ثانية وبقي الذهبيّ الفم هو هو حتّى مماته.

حين طُلب منه أن يذهب إلى المنفى، قال للأساقفة الحاضرين: "إذا كنتم تحبّون المسيح، فلا يترك واحدٌ منكم كنيسته بسببي... فالتعليم لم يبدأ معي ولن ينتهي معي". وفي زمن المنفى، كتب إلى أولمبيا والأرامل (خادمات في الكنيسة) أن يبقين حول البطريرك الذي يخلفه. "فالكنيسة لا تعيش بدون الأسقف". أمّا نهاية حياته، فجعلت بلاديوس يقول فيها: كما أنَّ التفاحة حين تنضج لا تبقى متعلِّقة بالأغصان، بل تستعجل كلي يقطفها يدُ سيِّدها، هكذا القدّيسون: حين يتولّّعون بجمال السماويات، يرغبون في البلوغ إلى الموعد، قبل الموعد المحدَّد... وحدهم يفهمون ويعرفون، أولئك الذين يسيرون في الطرق الروحيَّة".

2- آثار الذهبيّ الفم

لم يترك أحدٌ من الآباء اليونان ما ترك يوحنّا من آثار. ولا بقيت لأحد مخطوطات بقدر ما بقي ليوحنّا. آلاف المخطوطات في اليونانيَّة. ترجمات إلى اللاتينيَّة والسريانيَّة وعدد آخر من اللغات. دوَّن المقالات في مواضيع عمليَّة مثل الكهنوت والتربية... كما كتب الرسائل. ولكنَّ أكثر آثاره كانت العظات، التي لا يجاريه فيها أحد إلاّ القدّيس أوغسطين في الغرب. وبسبب هذا النجاح الكبير، استعار الكثيرون اسمه ليقدِّموا كتاباتهم بحيث يحتاج الباحثون إلى جهد كبير لكي يميِّزوا ما هو ليوحنّا وما هو لغيره.

في عظاته، يوحنّا هو طبيب النفوس. يتفحَّص المرضى. يتفهَّم الضعف البشريّ، يجد في الإصلاح من الأنانيّة والكبرياء والزنى وسائر الرذائل. كانت بعض مواعظه تصل إلى الساعتين، فلا يملّ السامعون، بل يصفِّقون. هو ما كتب العظات، ولكن نُشرت عن طريق الاختذال (sténographie).

عظات حول الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد. في أنطاكية، سنة 386-397. فيها يقرأ النصّ ويكتشف المعنى الروحيّ ويطبِّقه على الحاضرين. عظات في سفر التكوين، في المزامير، في أشعيا. وفي العهد الجديد، إنجيل متّى، إنجيل يوحنّا، أعمال الرسل والرسائل البولسيَّة كلِّها. قال في الوعظة الأولى حول الرسالة إلى رومة:

"كلَّ مرَّة أسمع قراءة رسائل بولس المطوَّب، مرَّتين على الأقل في الأسبوع، بل ثلاث أو أربع مرَّات، حين نحتفل بتذكار الشهداء القدّيسين، حين أسمع أشعر بالبهجة وأسكر على أصوات هذا البوق الروحيّ. ويهتزُّ قلبي ويشعل لرنَّة هذا الصوت المحبوب. أتمثَّله حاضرًا وأعتبر أنَّني أسمعه. وأتألَّم وأبكي أن لا يَعرف الجميعُ هذا الرجل كما يستحقّ أن يُعرَف: فعديدون يجهلونه فلا يعرفون عدد رسائله. هذا لا يعني أنَّهم لا ينالون من التعليم ما يكفي، بل هم لا يريدون أن يتجاوبوا مع هذا الرسول القدّيس".

عظات حول العقيدة. لاإدراكيَّة الله. لا يستطيع العقل البشريّ أن يصل إليه بقواه الشخصيَّة. نحن ندخل في سرِّه حين يسمح لنا. عظات حول المعموديَّة. عظات خلقيَّة، حول الأعياد الموزَّعة على السنة، حول قدّيسي العهد القديم (أيّوب، أليعازر) والشهداء المسيحيّين. وهناك سبع عظات حول القدّيس بولس جعلت ناقلَها إلى اللاتينيَّة يعلن: قام الرسول من الموت فصار مرَّة أخرى مثالاً حيًّا للكمال المسيحيّ.

وترك الذهبيّ الفم كتبًا ألَّفها: حول الكهنوت، حياة النسك، البتوليَّة والترمُّل، تربية الأولاد، الألم. قال في الكهنوت مثلاً:

"في الحقيقة، يمارَس الكهنوت على الأرض، ولكنَّه يأخذ مكانته وسط المراتب السماويَّة. والسبب في ذلك هو أنَّه لا الإنسان ولا الملائكة ولا رئيس الملائكة ولا أيَّة قوَّة مخلوقة، هو صاحب هذه الوظائف السامية، بل البارقليط نفسه. له وحده أن يفعل بحيث إن كائنات عائشين في الجسد البشريّ، يقبلون في قلوبهم خدمة الكهنة. فيجب بالضرورة على الكاهن أن يكون طاهرًا وكأنَّه يقيم منذ الآن في وسط القوّات العقليَّة (المرتبطة باللوغس، أو الكلمة الإلهيَّ)"...

"لو أعطيَ لنا أن نفهم أنَّه أعطيَ لكائن مائت، لابس حتّى الآن غلافًا مادّيًّا، مدفونًا في اللحم والدم، أعطي له، أن يكون بجانب الطبائع العليَّة، وسكّان السماء السعداء، عند ذلك نعرف إلى أيِّ درجة من الكرامة رفع الروحُ الكهنة. تلك هي الخدمة التي سُلِّمت إليهم، ويمارسون خدمًا أخرى لا تقلُّ عنها سموًّا، وموضوعُها كرامتنا وخلاصنا. إذ هم عائشون على الأرض، يفتحون كنوز السماء...

وأعطي الكهنة، أجل الكهنة، أن يعدُّوا لله أولادًا جددًّا بالمعموديَّة، بهم نلبس المسيح، ننزل معه إلى القبر، نصبح أعضاء جسده السرّيّ، الجسد الذي هو الرأس. لهذا يجب علينا أن نحترمهم أكثر من الملوك والرؤساء. ونكرِّمهم أكثر ممّا نكرم والدينا: ها ولدانا بحسب الدم وإرادة البشر، أمّا هم فسبب ولادتنا الإلهيَّة. نقلوا إلينا السعادة الحقَّة والحريَّة الحقَّة، والنبيّ السماويّ الذي يجد مبدأه في النعمة".
مسيرة يوحنّا الروحيَّة

يقوم الكمال في اقتراب الإنسان من الله، قدر استطاعته. ولا يكون هذا الاقتراب بحسب المكان، أقتربُ من الكنيسة، من موضع جدٍّ وظهور إلهيّ. بل بحسب الفضيلة. فحياة الإنسان تكون في مسيرته إلى الله في طرق الفضيلة.

فالكمال هو لقاء بين نعمة الله وإرادة الإنسان: "ينبغي أن تكون نفس الكاهن أنقى من شعاع الشمس، لئلاّ يتركه الروح القدس فيستطيع القول: "لست أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيَّ" (غل 2: 20). فالذين يقيمون في البرّيَّة، بعيدًا عن المدينة والساحة العامَّة (أغورا) وبلبلاتها، وينعمون دومًا بهدوء المرافئ، لا يستندون إلى طمأنينتهم في تلك الساعة، بل يضيفون أكثر من حذر، فيغلقون على نفوسهم ويجتهدون في كلِّ الأحوال بأن يتكلَّموا ويعملوا بغيرة عظيمة بحيث يقفون أمام الله يثقة كبيرة وطهارة تامَّة، بقدر ما يسمح بذلك الوضع البشريّ. والذي ارتدى الكهنوت، أيّ عزم وأيَّة قوَّة يحتاجهما لكي يحفظ نفسه من كلِّ ذبول، ويحفظ جماله الروحيّ بدون وصمة" (الينابيع 272، ص 306-309).

توازن كبير عند يوحنّا. ليس هو من يكتِّف يده وينتظر كلَّ شيء من الله في كسل مريب. بل ذاك الذي تكوَّن في الفكر الرواقيّ حيث العمل أساس الحياة، وتوَّج تكوّنه في قراءة الأناجيل الإزائيَّة بشكل خاصّ. فالذهبيّ الفم صاحب العقليَّة اليونانيَّة فهم أنَّ من أراد استطاع. وعرف أيضًا أنَّ كلَّ شيء نعمة من لدنه تعالى، منذ بداية خلاصنا حتّى نهايته.

لا شكَّ في أنَّ يوحنّا ذاك الواعظ الذي يدعو إلى إصلاح الأخلاق، شدَّد على دور الإرادة في مسيرة الإنسان. قال: "نستطيع إن أردنا". وهي عبارة يردِّدها الذهبيّ الفم مرارًا. ويردِّد كلام أشعيا: "لو شئتم وسمعتم لي... إن لم تشاؤوا وتسمعوا لي" (أش 1: 19). في العظة الخامسة (الآباء 62: 428 ج د) على الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، يقول: "كلُّ شيء هو في الإرادة واللاإرادة. ذاك هو أساس الثواب والعقاب. وفي الرسالة إلى الكولوسيّين (العظة 8، الآباء 62: 352-352): "هي الحرّيَّة التي تصنع الإنسان، أكثر من الطبيعة. فالطبيعة لا ترمينا في جهنَّم ولا تدخلنا إلى الملكوت، بل القرار الحرّ".

وحاول يوحنّا في مقطع شهير من عظته حول امتلاك الروح (الآباء 51: 271-282)، أن يشرح دور الله ودور الإنسان في مسيرة الخلاص. قال: انطلق بولس من "روح الإيمان" ليبيِّن أنَّ الإيمان هو عطيَّة الروح. غير أنَّ "الإيمان بالقلب" بحسب الرسالة إلى رومة (10: 10) هو أيضًا عمل الإنسان، "ويحمل فضيلة لدى الذي يؤمن" (276ب). وهذا ينتج أيضًا عن رو 4: 5 الذي يؤكِّد أنَّ إيمان إبراهيم حُسب له برًّا. إذًا في البدء، يرتبط الإيمان والطاعة بإرادة الإنسان الطيِّبة" لأنَّه "لا الله ولا نعمة الروح القدس يسبقان حرِّيَّتنا". فالله يدعو وينتظر أن نعود إليه طوعًا وبملء حرِّيَّتنا. وحين نقوم بهذه المسيرة، يقدِّم لنا عونه كلَّه. عند ذاك يحاربنا الشيطان. فإن كان أحد لا يقدر أن يقول "يسوع ربّ" فبالأحرى لا يقدر أحد بأن يحافظ على الإيمان بدون معونة الروح القدس (276د).

وتجاه إبراز الإرادة، نقرأ يوحنّا وهو يشرح تي 2: 11: "ما نحن الذين اكتشفنا النور في ختام أبحاثنا، بل النور ظهر لنا. وبعد أن أورد يو 15: 16؛ 1كو 13: 12؛ فل 3: 12 قال: "تبيِّن هذه المقاطع أنَّ خلاصنا ليس ثمرة فضيلتنا، بل أنَّنا خُلِّصنا كلُّنا بنعمة الله".

إرادة الإنسان. نعمة الله. هناك تبرز مكانة الصلاة: "لا شيء يساوي الصلاة. فهي تجعل اللاممكن ممكنًا، الصعب سهلاً. والإنسان الذي يصلّي يستحيل عليه أن يخطأ" (الآباء 54: 666ب). فالصلاة ينبغي أن تكون حالة مستمرَّة لدى المسيحيّ. وحاول يوحنّا أن يوفِّق بين عبارتين. قال مت 6: 7: "حين تصلّون لا تُكثروا". ثمَّ "صلّوا بدو ن انقطاع" (1تس 5: 17). فالصلاة المتواصلة تمتدُّ، لا بأقوال نكرِّرها ونكرِّرها، بل في عمق القلوب وحرارتها واعتدال الفكر: "تلك في شكل خاصّ الصلاة، حين يرتفع الصراخ من قلب صميم، لا بالقلب والصوت، بل بحرارة الروح. فالصلاة هي "المرفأ في العاصفة، والمرساة للمهدَّدين بالغرق، وعصا الذين يترنَّمون، وكنز الفقراء... والملجأ في الشرور، وينبوع الحرارة، وعلَّة الفرح، وأمّ الفلسفة" (الردّ على الأمونيّين 3، الآباء 48: 768أ ب).

والصلاة هي أيضًا استنارة مباشرة من لدن الله. فإن كان التعليم يجد امتداده في الصلاة، فالصلاة تستطيع أن تستغني عن التعليم. "فإن اعتدت على الصلاة بحرارة، لن تحتاج أن تتعلَّم... فالله نفسه يضيء عقلك بدون وساطة. فمدرسة الله المباشرة هذه، تكشف لنا بعض ما في الخبرة الروحيَّة التي تحاشى يوحنَّا الكلام عنها إلاّ قليلاً.

وصلاة الجماعة في الليتورجيّا؟ "سواء وجدتَ نفسك في ذلك الوقت، على الساحة العامَّة أو في بيتك أو وسط أعمال لا يمكن تأجيلها.. أمّا ينبغي أن تقطع الرباطات التي تقيِّدك... وتشارك في التوسُّلات المشتركة؟ فالملائكة في ذلك الوقت... يدعون الربّ من أجل الطبيعة البشريّة فيقولون تقريبًا: نتوسَّل إليك من أجل الذين أهَّلتهم أنتَ أن يتحدَّثوا عن حبِّك الذي دفعك لكي تهب ذاتك. من أجلهم نريق دعاءنا كما فعلتَ من أجلهم فأرقتَ دمك. من أجلهم نصلِّي وأنت قدَّمتَ جسدك هذا ذبيحته" (حاشية 8، ص 255).

صلاة وصلت إلى الإفخارستيَّا، فامتدَّت إلى الصوم وحياة من التوبة، بأنظارنا الموجَّهة نحو الآخرة. قال: الحياة المسيحيَّة "لا تتوقَّف هنا". فهناك دهر آخر ينتظرنا بحسب استحقاقنا. فالحياة الحاضرة سفر فوق الأمواج العاتية. وسفينتنا ما صنعت بالخشب بل بكلمات الكتاب المقدَّس التي جُمعت جمعًا متينًا. والمسيح شمسُ البرِّ هو النجم الذي يقودنا. والذي يدفعنا، يحرِّك شراعَنا هو الريح، نسمة الروح القدس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة