الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية: فلسفة إنسانية نحن في أمسّ الحاجة إليها [4]

إبراهيم جركس

2019 / 7 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


[13]
نيتشه يُعلن موت الإله:
مع أنّ أغلب الناس يقولون عن كيركجارد، وأنّه مؤسّس الفلسفة الوجودية، إلا أنّ تصوّر وجودها من دون الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) قد يكون أمراً في غاية الصعوبة. فأغلبهم قد ينسبون إليه فضلاً كبيراً في تأسيسها وإيجادها وترسيخ مفاهيمها. إلا أنّه أقصى نفسه عن الحركة التي ساعد في إنشاءها. وقيل سابقاً أنّ وصف نيتشه أنّه وجودي يشبه وصف يسوع المسيح بالمسيحي: فكلاهما يشكّلان الأرضية التي التي يقوم عليها كل شيء جاء لاحقاً، لكنهما يتعاليان عنها في نفس الوقت.
يعتبر فريدريك نيتشه واحداً من أهم المفكّرين في تاريخ الجنس البشري، بل وأعظمهم على الإطلاق. وبالتأكيد يمكننا القول عن الوجودية أنّها ابنته العزيزة، لكن في الحقيقة لديه الكثير من الأبناء، الكثير من الأبناء إلى جانب ميراث فكري ضخم.
=========================================
[14]
كان نيتشه ابناً لقسيس لوثري، الذي كان بدوره آخر رجل دين لسلالة طويلة من رجال الدين الملتزمين ضمن العائلة. وكان نيتشه يسير على خطا أجداده ليمضي نفس حياة الرهبنة، حتى أنّه اعتنقها وكرّس نفسه لتعاليمها خلال فترة شبابه. لقد انتقد نيتشه الدين من الداخل، كابن لهذا الدين، كمؤمن ملتزم سابق، أو كشخص يعرف كل شيء عن الديانة المسيحية ومكانتها وتأثيرها أكثر من أي أحدٍ آخر ينتمي إليها. وعلى غرار الكثيرين مِمّن فقدوا إيمانهم بالعقيدة المسيحية، قضى نيتشه معظم حياته موجّهاً نقده إلى الكنيسة للأخطاء الذي لقّنته إياها والزيف الذي زرعته فيه منذ صغره.
==============================
[15]
لم يقصر نيتشه نقده على الكنيسة والديانة المسيحية، بل كان ناقداً اجتماعياً مهمّاً أيضاً، حتى أنّه لم يدع شيئاً ينجو من مِبضَع نقده. لقد عمل على تقويض كل ما رآه خاطئاً ومزيّفاً، مضلّلاً، ومؤذياً للوعي البشري.
لكنّ نيتشه لم يكن هَدّاماً فقط، أو مِعولاً للهدم، كما سمّاه بعض الكتاب، فقد تحدّث في كتاب "العلم الجذل" عن أنّه ينتظر لكي يصبح "موافقاً" لكل شيء، أن يجد سبيلاً لتأكيد كل شيء في الحياة. لهذا تستقي الوجودية تفاؤلها العميق من فلسفته. فقد رأى أنّنا بعد أن نكون قد قوّضنا وهدّمنا كل شيء خاطئ ومضلّل بنيناه لأنفسنا، سيكون بإمكاننا أن نحبّ العالم كما هو على حقيقته، وأن نخلُق معنىً خاصاً نضفيه عليه، لنعيش حياتنا بامتلاء وتحقّق وسرور حتى.
=======================
[16]
إلى هذا الحد، حوّل نيتشه أعماله إلى تُحَف فنيه من الرقص الهَدّام، ثم خلق من جديد، وأخيراً الاحتفال بعملية الخلق هذه. فنراه أحياناً محتدّاً غاضباً، وفي أحيان أخرى شاعرياً، لكنه في معظم الأوقات نراه لَعوباً متجنّباً التأويلات السهلة، مبتعداً عن النمطية والنسقية. كتب نيتشه بأسلوب غير تقليدي أكثر من أي فيلسوف وجودي آخر. حتى انّه كتب أعماله على شكل شذرات انطباعية عميقة وقصيرة نسبياً. وفي خِضَم هذا الاضطراب الفكري والفوضوي والمتناسق بطريقة عجيبة، تظهر عدّة سمات بشكلٍ متكرر في أعماله، متآلفة مع مقاطع أخرى، لتشكّل ببطء أفكاراً أكثر ترابطاً ورسوخاً. من تلك الأفكار، سنركّز أساساً على تلك التي شكّلت قاعدة الأساس للوجوديين اللاحقين، وبالأخص تلك التي تقول أنّ العالم يظهر نفسه لنا خالياً من أيّ معنى أوهدف أو غاية، وأنّ عملية الخلق _خلق القيم، وخلق الذات، وخلق المعنى الخاص بحياتنا_ هي مهمّتنا الأساسية الوحيدة في هذه الحياة.
================================
[17]
كان نيتشه هو مَنْ نادى بفكرة "موت الإله"، وكما سنرى لاحقاً بتفصيل أكبر عن هذا المفهوم، ونفهمه بشكلٍ أعمق، نكتفي هنا بالقول أنّه كان القاعدة الأساسية الذي تنطلق منها الفلسفة الوجودية، وحتى فلسفة كيركجارد نفسها وكل مَنْ جاء بعده من الفلاسفة الوجوديين.
==========================================
[18]
هيدغر: يجعل من الوجودية فلسفة منتظمة
على غرار يوحنّا المعمدان، كانت صرخات الفلاسفة الوجوديين ونداءاتهم شبيهة بالصراخ الفوضوي في صحراء شاسعة. إذ كانت كتاباتهم مقروءة من قبل عدد قليل من الناس، أمّا الذين فهموها فكانوا أقل بكثير. وبسبب هَزلهم ومرجهم، وأسلوبهم غير التقليدي بالكتابة، والمضمون الشخصي في كتابات سورين كيركجارد بالأخص، ظلّ الوجوديون مجهولين ومُهملين من قبل العامة بشكلٍ عام، ومن قبل التيار الأكاديمي بشكل خاص، حتى جرى تهميشهم وتجاهلهم عن عَمَد، ثم تناسيهم.
هؤلاء المجانين لا ينفكّون يثرثرون عن الألم والمعاناة وإضفاء المعنى... هُراءٌ بهُراء!
وكانت الفلسفة تتابع مسيرتها في طريقها التقليدي والعقلاني. أي استمرت محاولات المزاوجة بين العلم والفلسفة، بين الموضوع والكُل، وليس بين الفردي والشخصي.
=================================
[19]
ظلّت الفلسفة في أمريكا وبريطانيا كما هي سائرةً على مسارها التقليدي حتى يومنا هذا. أمّا في أوروبا، تزايدت أعداد الناس الذين أدركوا أنّ هذا المسار لم يصل بهم إلى أيّ إجابات. فالشيء الوحيد الذي كان يفتقر إليه الوجوديون هو الاحترام الأكاديمي. وكانت الفلسفة الوجودية تحتاج لمعالجة أسسها: أي تحتاج إلى التطوير الفلسفي لأفكارها ومفاهيمها إلى أعمال فلسفية منتظمة وموسّعة يتعامل معها الأكاديميون كأعمالجديرة بانتباههم واهتمامهم وأبحاثهم واحترامهم. وقد تحقق ذلك ليس لمرّة واحدة فحسب، بل مرّتين: الأولى مع الفيلسوف مارتن هيدغر في تحفته الفلسفية الكبرى "الكينونة والزمان"، والمرة الثانيى مع تلميذه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في عمله الضخم "الكينونة والعدم".
==========================
[20]
من بين جميع الفلاسفة الوجوديين، كان مارتن هيدغر (1889-1976) هو الفيلسوف الوجودي الأكاديمي الوحيد بامتياز. ومع أنّ معظم الأفكار والمفاهيم ضمن أعماله راديكالية ومتشدّدة، بل وثوريةً أيضاً، إلا أنّه قدّمها في أعماله بصورة نمطية نسقية أكاديمية ومنتظمة. وعلى غرار معلّمه وأستاذه، إدموند هوسّرٍل" حاول هيدغر توصيف وتحليل الوجود بطريقة تشبه صَرامَة واكتمال الفيزياء النيوتونية، بل شرع من الداخل أيضاً، من وجهة نظر ذاتية-إنسانية. ولكنّ الأمر الذي جعل معالجة هيدغر أمراً مختلفاً كان الاهتمام الجاد الذي أولاه للسمات والخصائص الوجودية كاللاعقلانية، وأهمية التأويل، والعيش بأصالة، ومكانة الموت في تحديد أوجه الوجود الإنساني.
=============================
[21]
كان هيدغر هو أول مَن أدخل مفهوم "الموجود exist" إلى الفلسفة الوجودية. كان هيدغر مهتماً ليس فقط بموضوع كيف نعيش، بمعنى أن "نكون" (كمعاكس لمفهوم "لا نكون" أو العَدَم). بمعنى، أنّه حوّل الوجودية إلى "علم الكينونة". إلا أنّه، انطلاقاً من وجهة نظر ذاتية، إنّه العلم الذي لم ولَن يحوّل الذات البشرية إلى موضوع. طبعاً، كان هيدغر يسعى لتجنّب ذلك النوع من التنميط والنسقية التي تفقد فيه الأشياء هويتها. وهناك عنصر هام يتخلّل فلسفته يتمثّل في الطريقة التي يصنّف فيها الناس خبراتهم وتجاربهم باستخدام الكلمات، التجربة التي غالباً ما تكون سبباً في شعورهم بالعُزلة والاغتراب. من هنا نكتشف أنّه لن يعترض أحد من الشخصيات التي نطلق على أصحابها صفة "وجوديين" على مقولات هيدغر.
إنّ عمل هيدغر يمضي لأبعد بكثير ممّا نقول عنها أنّها "مشاغل وهموم وجودية"، كما يُنظَر إليه بوصفه واحداً من أعلام الحركة وكبارها، إضافةً إلى غيرها من الحركات الأخرى، كالظاهراتية أو الفينومينولوجيا ومابعد الحداثة. إنّ توضيحه وشرحه للسمات الوجودية الجوهرية وتأثيره على الوجوديين اللاحقين، جعله شخصية محورية وهامة في تاريخ الفلسفة، والفلسفة الوجودية على وجه الخصوص.

يتبع......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-