الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هويّة المُقدّس

محمد ابداح

2019 / 7 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يمكننا بالتأكيد التحدث دوما عن لغة العرب أو القرآن كما يتحدث الشعراء عن لغة الضاد تلطفا، لكن تبقى القدرة التواصلية والتعبيرية الحضارية تصلنا بطرق أخرى غير اللغة، فعلى سبيل المثال لا يمكن للمرء أن يجد نفسه وحيدا أمام أيقونة قتبانية أو بابلية أو كنعانية، حيث أن الوظيفة العقائدية ذات مضامين جماعية، أما في الفكر الديني المعاصر تقف وحيدا أمام قيما مشوّهة، ويلزمك تشريح أمعاء التاريخ كي تصل إلى جوهره، ذلك أن الوظيفة الدينية فقدت دالّتها بشكل ممنهج لصالح النماذج التي يتم السعي لمحاكاتها، وكل عصر من عصور العالم العربي ما قبل خط المُسند وحتى اليوم عرف طريقة معينة لقراءة الدين، كما كان له طريقته بتوظيفه سياسيا واقتصاديا، وكل عصر يقدم نفسه باعتباره الأفضل وبأنه الطبعة المنقحة الأخيرة، تلك هي رمزية المُقدس الذي لاينضب معينه.
قد لا نتمكن من قول كل ما نرغب في قوله، لكن ليس ثمة فهم من غير تفسير، لذا سنستعير من خصوبة الإيحاء جسرا للعبور بين نقيضين، إن المنطق الذي يجمع بين الجذر التكعيبي لرقم ما وبين طعم رغيف خبز ساخن حماقة فردية وليس بمنطق، لكن لغة منطوقة ومتداولة بين مجموعة بشرية تشكل رمزا مشتركا فذلك منطقي، لذا لا يمكن للرمزية البشرية أن تكون فردية، وتكمن المأساة في جعل الفردية تتجاوز الواقع التعبيري لمجموعات بشرية تجمعها رموز مشتركة بحيث يتم تدوير العلاقات بطريقة الطرد المركزي لمجال الهوية الإجتماعية للمجموعات المجاورة، فتصبح الهوية كسفينة تأوي لشواطيء لا تنتمي لها. تلك أعراض مرض غير قابلة للإنكار ولابد من علاجه.
في مأوى الهوية كل شخص فينا يحمل معه خيِّره وشرّه، لذا فيمكن القول أن رجال الدين لهم كامل الحق في افتراض أن الخطوات الأولى للإنسان كانت ترافقها ترانيم إلهية. فالدين هوية مشتركة لأية مجموعة بشرية، والهوية تجمع بين غريبين اشتركا في رمز مالي أو سياسي فما بال من يجمعهم أكثر من ذلك، إن من بين أهم شمائل الرمزية أنها تعيد لم شمل المشتت، فللمسيحي هوية ولليهودي هوية كما للمسلم ولا يحق لأحد الطعن في هوية أحد، وان لم يكن للعلماني هوية او رمز، فالعلمانية مبدأ وكفى بالمبدأ هوية.
إن الملوك والأمراء نصّبتهم تنبّؤات العرافين وجمّدتهم في قصورهم فتاوي رجال الدين، فباتو يرتدون عباءة القدسية، لكنها لاتعادل قدسية بائع فجل في سوق خضار عاصمة دولة عربية، لأن الأول يعتبر ذاته أسمى، والثاني اعتاد غض البصر، نحن نتسائل دوما أمام مشاهد دموية جرت ولازالت في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن وغيرها من أقطار الدول العربية، أمن أجل الحفاظ على أمن إسرائيل أو أمن الحكام العرب، أم لنهب الثروات الطبيعية، أم لتدمير الهوية العربية والإسلامية، الجواب لاشي أو نفسه، فالإثنان مترادفان في آخر الأمر، فليس ثمة شيء لذاته إلا مالم يكن فقط لذاته. إن المقدس كلمة عقلانية لكنها لم تعد مقبولة تحت نار الموت والذل والفقر، وقد يبدو لنا وصف أمر بالعادي أكثر قبولا من وصفه بالمقدس، إن هالة المقدس التي أسفت ملايين الأرواح على ضياعها من أجله لم تتلاشي في الهواء لكنها اتخذت طابعا شخصيا، لقد بات رجل الدين فنانا متجولا، والمواطن تائها على مدى بصره، إنها لقاعدة ثابتة أنه كلما زاد العرض قل الطلب، وما أكثر المعروض أمامنا اليوم في أسواق المقدّس.
لا ريب أننا لن نتخلص بسهولة من فكرة المقدّس، فحين لانعثر عليها لتبرير سياسة الحاكم، نبحث عنها في مزابل التاريخ والتي لا تسترعي من باحثٍ انحناءة رغم احتواءها على أيقونات البدء والمنطلق، إنها دراما أضحكت زرادشت في لحده، باعتبارها نهاية سيئة لمسيرة اللامادية المنطلقة في عصره، لكنا لسنا متشائمين حد الإنتحار، يكفي أن نقرّ بأن الأمور الجيدة لاتأتي من تلقاء نفسها، والحقوق لم تخلق لتوهب وإنما استحقت لتؤخذ، إن الطبيعة تنسخ نفسها باستمرار، وثمة كليشيهات في كل مكان من حولنا، إذن فالوفرة تخفّض قيمة العمل وثمنه، إذن فكيف نعيد الندرة في عالم يغصّ بالمقدّسات من غير ابتداع أنصاف آلهة تحكمنا من جديد؟ إن الإستقلال الحقيقي لايتم سوى عن طريق الخضوع لقيم معينة، لكن إن كان قيام المُقدس بأداء وظيفته كاملة يعني أن يكون إله متبعاً فذلك يعني أنه إله رسم كهوف بدائية، وليس على العمل الجيد أن يقترن بقوة أعلى منه فهو جيد بذاته لا بما اقترن به.
إنه لأمر بديهي ارتباط الدين بكيانه الصوفي ارتباط مثوى الأنبياء والقديسين برفاتهم، والتي تتحوّل لاحقا لمزارات ودورا للعبادة، وبعبارة أخرى تكمن معضلة الأديان في أنها لاتملك وجودها النهائي إلا بالدمج بين الوظيفة الروحية كالإيمان، وبين الوظيفة العملية أي الخضوع التام، فالكتب المقدسة وأماكن العبادة ليست غذاءا روحيا وأماكن إيواء للمؤمنين والمستضعفين في الأرض إنها الإله نفسه، كما أن دور الوسيط السماوي لايتحقق بلا طقوس مشوبة بالغموض وطاعة عمياء وإحساس دائم بالنقص، رغم أن الدين عموما يصرّح بأنه يمتلك في ذاته اكتفاءه وغايته وعلته الكاملة، وشواهد النصوص من الكتب المقدسة كثيرة في هذا المجال. إن كل علم من علوم البشرية المتعلقة بالطب والهندسة والفلك وغيرها ينتقل من النضج إلى الإبداع، وأما العلم الديني فينتقل من النضج إلى الإنحطاط ، فالعقائد المتطرفة تجعل المرء يستهلك أفضل مافيه بطريقة لاتعوّض وهو نمط يُؤدي في النهاية لإفراغ الساحة من الروّاد غير مبالين بهوية المقدس.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية


.. 110-Al-Baqarah




.. لحظة الاعتداء علي فتاة مسلمة من مدرس جامعي أمريكي ماذا فعل


.. دار الإفتاء تعلن الخميس أول أيام شهر ذى القعدة




.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س