الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية: فلسفة إنسانية نحن في أمسّ الحاجة إليها [5]

إبراهيم جركس

2019 / 7 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


[22]
الوجودية الفرنسية:
أخذ الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) الخصائص والمفاهيم الوجودية التقليدية ودمج معها أطروحة مجدّدة حول معنى وأهمية الحرية الإنسانية. ومع أنّ كتابه الهام "الكينونة والعدم" يعتبر مَعلَماً من المعالم الكبرى، فقد أقرّ هو بنفسه أنّه كتب أجزاء منه خلال ليالٍ طوال حُرِمَ فيها من النوم، حيث ملأ جسمه بالكافئين، وتأرجح ما بين اليقظة والنوم، وأنّ تلك الأجزاء مكتوبة بأسلوب سطحي وفقير وغير معقولة أبداً. لكن ما حقّقه سارتر أفضل من أي كاتب سابق كان أنّه جعل من الوجودية فلسفة يمكن إيصالها لجميع الناس الذين كانوا معنيين بها. إحدى الطرق التي فعل بها ذلك كانت من خلال الحوار المستمر التي انخرط فيه مع حركات أخرى ذات أهمية كبرى، من بينها الديانة المسيحية والحركة الماركسية. كان سارتر أقرب إلى كونه شخصية عامّة شعبية منخرطة في مجالات أخرى إلى جانب الفلسفة كالسياسة والفنون والأدب. ومع أنّه صرّح لاحقاً أنه نَدِمَ على ذلك، فقد لخّص الموقف الرسمي والأقصى للفلسفة الوجودية في كتابه القصير "الوجودية: مذهب إنساني"، وهو عبارة عن مقال قصير يحاول فيه تفسير وشرح فلسفته بصورة غير تقنية لنقّاده وعموم جمهوره بشكل أوسع.
===================================
[23]
على غرار سارتر، كانت سيمون دي بوفوار (1908-1986) منخرطة في السياسة وفي عدد من المسائل والقضايا العامة. أمّا أكبر مساهمة لها في تاريخ الفكر فكانت تتمثّل في وضع أسس، طوال جيلٍ كامل، الحركة النسوية في أوروبا وأمريكا. ومع أنّ كتابها الهام "الجنس الآخر" لا يعالج المسائل الوجودية البحتة بصورة مباشرة، إلا أنّ تحليلها لمكانة المرأة ضمن المجتمع قد انبثق من صلب الفلسفة الوجودية. قد لا يدرك الناس هذه الحقيقة، ولكنهم عندما يناقشون فيما بينهم مسائل نسوية عامة، فإنهم يتناقشون في مسائل وجودية على حدٍ سواء.
=============================
[24]
نلاحظ أنّ الخاصية الأهم التي تجمع مابين سارتر ودي بوفوار وألبير كامو (1913-1960) هي أنّ÷م جميعاً كانوا يؤلّفون روايات ومسرحيات، إلى جانب كونهم فلاسفة متمرّسين. فصياغة أفكارهم على شكل روايات وقصص خيالية يعني وضع أفكارهم ضمن سياق يفهمه العامّة ويتشرّبونه بشكل جيّد ومستساغ. وكما نال هيدغر احتراماً أكاديمياً في الأوساط العلمية على كتبه الأكاديمية النسقية المنتظمة، كذلك منح الفرنسيون الوجودية سبيلاً سهلاً للوصول إلى الشارع العام والتفاعل مع الناس العاديين من خلال رواياتهم ومسرحياتهم التي حملت سمات وخصائص وجودية عبر شخوصها وأفرادها.
وأعظم هذه الأعمال الروائية الوجودية، والذي مازال منتشراً حتى يومنا هذا، هو بكل بساطة رواية كامو الفريدة "الغريب". حتى أنّها منتشرة على نطاق واسع وتدرّس تقريباً في جميع المراحل المدرسية والجامعية، وضمن كافة الأفرع والاختصاصات. ويمكنني القول أنّه لم يسبق لأي عمل وجود أن وصل إلى الناس بهذا الشكل كما وصل كتاب الغريب. وهو عبارة عن رواية تتناول موضوعات كالعَبَث والموت وإدراك حقيقة وجود الإنسان ذاته.
======================
[25]
هل هناك وجوديون يؤمنون بوجود الله؟
يبدو أنّ التيار الإلحاد من الفلسفة الوجودية كان هو التيار السائد عبر تاريخ الحركة، وذلك _إلى حدٍ كبير_ بسبب أنّ سارتر نفسه كان ملحداً إلى جانب غيره من فلاسفة الحركة الذين عملوا على الترويج لها ونشرها. إلا أنّه ومنذ عهد كيركجارد، كان هناك تيار مرثّر آخر من الوجودية يؤمن بوجود الله، مفكّرين من أمثال الفيلسوف الكاثوليكي غابرييل مارسيل (1889-1973)، والفيلسوف اليهودي مارتن بوبر (1878-1965)، فقد طوّروا فلسفة وجودية مؤمنة تؤكّد _من بين أمور أخرى_ على أهمية أن يقيم الناس علاقة شخصية خاصة وأصيلة مع الله. وعلى غرار معظم الوجوديين، فقد فضّلوا الشخصي، الحميمي، والخاص، على النسقي والتنظيمي والعام. كما أنهّم يرون الدين كتجربة خاصّة مُعاشة يختبرها الأفراد بشكل شخصي وخاص وليس تجربة منتظمة ومؤطّرة وفق أفكار وأنساق وأطر فكرية مقولبة من قبل الكنيسة أو المسجد أو حتى الكتب المقدسة.
وعلى غرار كيركجارد، المسيحي الوجودي الأصلي، رفضوا فكرة المصالحة بين الإيمان والعقل. فالعقل له مكانه الخاص ومجاله، ولكن لا ينبغي له أن يسمح بإعاقة ما هو شخصي وفردي وخاص، أي العلاقة الحميمية الخاصة بين الفرد والله، مع غياب أي دليل مادي أو قاطع على وجود الله. وكأي تجربة من تجارب الحياة الإنسانية، فإنّ الإيمان وتجربة محبة الله هي تجارب غير عقلانية في الأصل، ولا يرى هؤلاء الوجوديون أي سبب يدفعهم للخجل أو الهروب من هذه الحقيقة. إنّ فلسفاتهم عبارة عن نداء للعوة إلى الجذور البدائية الأولى _إلى زمنٍ كان في الدين علاقة شخصية خاصة ومليئة بالشغف، كمعاكس للديانات المنسقة والمنتطمة ذات القوالب المصاغة مسبقاً.
======================================
[26]
والآن نصل إلى السؤال التالي: هل هناك وجوديون معاصرون يعيشون بيننا الآن؟
هل ما زال هناك مفكّرون رومانسيون وجوديون؟ هل ما زال هناك فلاسفة يطوّرون أفكارهم الوجودية الخاصة؟
على غرار كافة الفلسفات والحركات الفكرية في العالم وعبر التاريخ، كانت الفلسفة الوجودية وليدة زمانها ومكانها على حدٍ سواء، لكنّها انفلتت خارج حدود الزمان والمكان. ربّما لم يكن هناك، ولن يكون، أي فيلسوف وجودي نقي وأصيل بمكانة سورين كيركجارد، أو هيدغر، أو سارتر. مع أنّنا أننا نلاحظ أنّ الفلسفو الوجودية مهمة جداً في عالمنا المعاصر وحياتنا الحديثة والمعاصرة، فقد ساهمت في طور الفكر البشري وتطورّت تيّاراتها حتى تلائمت مع كل مجتمع وكل بيئة.
أمّا بالنسبة للفلاسفة الوجودين القدماء فنستطيع أن نقول عن المعري والمتنبي وعديدون غيرهم كفلاسفة وجوديين صاغوا تأمّلاتهم وأفكارهم الوجودية ضمن أبيات وقصائد شعرية تتحدث عن الفناء والموت وسر الحياة، وكيف نعيش حياةً سليمة ومليئة.
أمّا بالنسبة للوقت الحاضر فلا يمكننا أن نميّز كفلاسفة وجوديين سوى عبد الرحمن بدوي ويمكن أن يقال أنّه هيدغر العرب، وعبد الرحمن بن ذريل... أمأ غيرهما فلا يمكن أن نعثر إلا على شذرات وتساؤلات وجودية ضمن الأدب العربي كرواية الوجه الآخر للسقوط لحسن صقر، وأدونيس والشاعر محمود درويش.

يتبع.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: غانتس اختار أن يهدد رئيس الوزراء بدلا من حماس


.. انقسامات داخلية حادة تعصف بحكومة نتنياهو وتهدد بانهيار مجلس




.. بن غفير يرد بقوة على غانتس.. ويصفه بأنه بهلوان كبير


.. -اقطعوا العلاقات الآن-.. اعتصام الطلاب في جامعة ملبورن الأست




.. فلسطينيون يشيعون جثمان قائد بكتيبة جنين الشهيد إسلام خمايسة