الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية [6]: نظرة تاريخية

إبراهيم جركس

2019 / 8 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الوجودية [6]: نظرة تاريخية

[27]
تستمدّ الوجودية Existentialism تسميتها من دراستها الفلسفية للوجود الإنساني، أي لسمات الوعي الذاتي والتقريري للحياة الإنسانية كما يعيشها ويحياها ويعانيها ويستمتع بها الإنسان ذاته، وليس كما يصفها أو يشرحها أو يفسّرها شخص آخر ويقدّمها من وجهة نظره الخاصّة. إنّ محاولة تقديم سرد فلسفي للسمات الفارقة والخصائص المميزة للوجود الإنساني التي تميّز "الحياة الإنسانية" عن غيرها من أشكال "الوجود الشكلي" للحيوانات أو النباتات أو الأشياء، هذه الأمور هي الهدف الموحّد والمشترك بين الفلاسفة الوجوديين. هذه السمات والخصائص تنطوي على وعي حيّ بالزمن، وعلاقة وثيقة بالموت: إدراك متفاوت في وضوحه لحرية السلوك وتفسير العالم وتأويله على أساس فهم المرء الخاص ومسؤوليته للقيام بذلك، واهتمام حيوي بنوعية حياة المرء وخصائصها، سواءٌ أكان يعيشها بصورة أصيلة authentically على أنّها حياته الحقيقية أو بصورة مزيّفة وغير أصيلة inauthenticallyغير مسؤول عنها في النهاية.
من خلال التركيز على هذه الخصائص ودراستها، يسعى الوجوديون نحو هدف مشترك: تصحيح وتقويم صورة الإنسان التي تصوّره "عارفاً" منفصلاً ومستقلاً، هذه الصورة التي عملت الفلسفات والعلوم التقليدية القديمة على ترسيخها. إنّ تصوّر الشخص بوصفه عقلاً مستقلاً أو وعياً منفصلاً عن العالم متجذّرٌ عميقاً في التراث الفلسفي. وقد حدّد وجهة النظر هذه وعرّفها في القرن السابع عشر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وتصوّره للكائن البشري، أو الإنسان، "كجوهر مفكّر" res cognitans مستقل عن الجسد والعالم. وبالنسبة للفلاسفة الوجوديين، إنّهم يعتبرون وجهة النظر الديكارتية هذه ضارّة وقاصرة لأنّها توافق ضمنياً على فكرة أنّ العقل والعالم منفصلين أساساً عن بعضهما، وأنّ الإنسان مجرّد مشاهد سلبي أكثر من كونه فاعل يؤدّي دوره فوق خشبة الوجود، وجهة النظر هذه التي تصوّر الإنسان مجرّد عقل منفصل ومستقل يتأمّل عالماً خارجياً صامتاً غافلاً عنه. كما أنّ هذه النظرة تفصل بين عقل وآخر، مطوّقةً كل شخص على حلبة الوجود بتصوّراته ومفاهيمه العقلية الخاصة. على العموم، رفض الوجوديون كِلا وجهتي النظر هاتين وانتقدوهما. فهم يرون أنّ الوجود الإنساني "متجسّد" أو "مُتَمَوضِع" في "عالم"، ويعاش ضمن إطار "العلاقة مع الآخرين". لهذه الأسباب بالذات، يصرّون على أنّ الوجود لايمكن إسناده إلى وعي منعزل. وحسب المقولة الشهيرة عند الفلاسفة الوجوديين: الوجود هو "الوجود-من-أجل-الذات"، و"الوجود-مع-الآخرين"، و"الوجود-في-العالم" بآنٍ واحدٍ معاً.
=================================
[28]
المرحلة الأولى من مراحل الفكر الوجودي كانت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمّ خلال فترة عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين تطوير فلسفة وجودية أصيلة على يد الفيلسوفين كارل ياسبرز ومارتن هيدغر. وقد طرأ تطوّر مكافئ في الفكر الديني على يد المفكّر اللاهوتي اليهودي مارتن بوبر، وعالِمَي اللاهوت البروتستانيين رودولف بولتمان وبول تيليتش. المرحلة الثانية في الفكر الوجودي كانت عندما تشرّبت أفكار هيدغر وياسبرز، بالترافق مع فينومينولوجيا إدموند هوسّرل، والفلسفة الديالكتيكية لهيغل، الفلسفة الذاتية الراديكالية لسورين كيركغارد وفريدريك نيتشه، جميع هذه المذاهب والأفكار تشرّبت في الحياة الفكرية الفرنسية خلال فترة ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
================================
[29]
أهم الشخصيات الوجودية الرائدة في الفكر الوجودي كان الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. ولأن سارتر كان قد حقّق نجاحاً عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية، ارتبطت الوجودية باسمه ومازالت مرتبطة حتى يومنا هذا. لكن، بطبيعة الحال، يجدر التنويه هنا إلى أنّنا لايجب أن نقارن فلسفة سارتر بالفلسفة الوجودية ككل. فأفكاره تجسّد مساراً واحداً من مسارات الفلسفة الوجودية، قطب من عدّة اقطاب فلسفية.
وفي عام 1945 تمّ قذف سارتر إلى أعلى قمم الشهرة بوصفه "زعيم حركة الوجوديين" الوليدة. وقد أطلق بالتعاون مع زميليه الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار والفيلسوف موريس ميرلوبونتي مجلّة "الأزمنة الحديثة"، وهي مجلة يسارية تعني بالأفكار والمسائل الفلسفية، وتحوّلت لاحقاً إلى منصّة للترويج للفلسفة الوجودية السارترية. ومن جهةٍ أخرى، نشأت علاقة صداقة وطيدة بين سارتر وألبير كامو، الذي كان مشهوراً آنذاك ككاتب وروائي ومحرر لصحيفة "كومبا" النضالية، وكانت أساس صداقتهما العلاقة التي تربط كلاً منهما بالوجودية، أو في أعين الناس على الأقل. وقد زعم الفيلسوف الكاثوليكي الفرنسي غابرييل مارسيل _الذي كان من أقوى نقّاد سارتر_ لنفسه السبق كأول فيلسوف فرنسي للوجود، وارتبط اسمه بالحركة كأحد أكبر نقّاد سارتر ومعارضيه. من هذه اللحظة فصاعداً، سيتمّ اعتبار مارسيل وياسبرز وكيركغارد كممثّلين للحركة الوجودية المؤمنة/المتديّنة، وقد اعتمد سارتر هذا التصنيف لتمييز فلسفته الوجودية اللادينية عن فلسفاتهم. أمّا في إسبانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين، نشأت حركة وجودية مشابهة لحركة سارتر، لكنّها قد تأسّست بشكل مستقل على يد الفيلسوف خوسيه أورتيغا إي غاسيت. وفي إيطاليا خلال فترة أربعينيات وخمسينيات القرن نفسه، نشأ جنس مختلف من الفكر الوجودي متمحوراً حول أعمال الكاتب والفيلسوف الإيطالي نيكولا أبّاغنانو.
================================
[29]
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تمّ تصدير الفكر الوجودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى جميع بلدان العالم. لقد تمّ تطوير أفكار ومفاهيم الفلسفة الوجودية وتهذيبها وتنظيمها وإدخالها في مختلف المذاهب والمجالات على اختلاف أنواعها: الطب النفسي، علم النفس والتحليل النفسي، علم اللاهوت، نظرية الأدب، ونظرية العِرق والجنس. وقد تسرّبت الكلمات والألفاظ الوجودية مثل "قلق"، و"عبث" و"معنى الحياة" أو "حياة تخلو من المعنى" في اللغة اليومية العادية. كما أنّ صورة البطل الوجودي، المهجور والمتروك وحيداً ومهزوماً داخل هذا الكون الأصم والبارد، وجدت لها طريقاً إلى الفن والأدب خلال فترة الحرب الباردة.
بأيّة حال، دخلت الفلسفة الوجودية الثقافة الشعبية العامة، وانتشرت على نطاق واسع. قام أنصار الوجودية وأعلامها أمثال بول تيليتش بتقريظ الوجودية ووصفها على أنّها ((الفن العظيم، والأدب العظيم، والفلسفة العزيمة للقرن العشرين))[1]. لكنّ نُقّادها قالوا عنها أنّها مجرّد ((بدعة بوهيمية))، ومذهب ديني من نوع ما، أو أنّها نوبة "عَدَمية" أثارتها الحرب العالمية الثانية. وقد أرجع المعلّقون والشُرّاح جدورها إلى الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، والقديس أوغسطين، وسقراط، وأنبياء العهد القديم. واقتباساً من عبارة الفيلسوف موريس ميرلوبونتي الشهيرة، كانت الوجودية في منتصف العقد الخامس من القرن الماضي تبدو أنّها ((في كل مكان ولامكان)): كانت "مناخاً"، "موقفاً"، "مَيلاً عاماً" واضحةٌ معالمه في كافة جوانب البحث الإنساني، لكنّها كانت تفتقر إلى التعريف والتحديد. فمشكلة وضع تعريف أو تحديد اصطلاحي لهذا الكيان اللامتبلور واللامُنتظم لخّصها الفيلسوف الأمريكي ألاسدير ماكنتاير: ((قيل في زماننا أنّها [الوجودية] مذهب الكُتّاب باختلاف أنماطهم كميغيل دي أونامونو ونورمان ميلر... وقد زعم هذين الكاتبين أنّهما وجوديان، وأنّه لا يلزم اتفاقهما حول أي نقطة أساسية مهما كانت. في النهاية... أي صيغة واسعة ومطّاطة تسعى لتعريف جميع الميول الوجودية الأساسية والإحاطة بها سوف... تكون عامّة للغاية، كما هي مبهمة للغاية، بقدر ما ستكون فارغة...))[2].
========================================
[30]
فقدت الوجودية بريقها خلال سبعينيات القرن العشرين عندما حلّت محلّها اتجاهات فلسفية أكثر حداثةً وعَصرَنَة من أوروبا، وبالأخص الفلسفة الفرنسية مابعد البنيوية ومابعد الحداثة الفرنسية. وظهر جيل جديد من الفلاسفة الفرنسيين الذين تلقّوا تدريبهم خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين _فلاسفة ما بعد الحداثة_ أمثال: ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجيل دولوز، رفضوا الفلسفتين الظاهراتية والوجودية بوصفهما ((فلسفات سطحية ساذجة تتمحور حول الذات))، والتي بحسب قولهم تبنّت _بصورة غير نقدية_ مركزية التجربة الإنسانية وحشرها في قوانين هذا العالم ونواميسه. لقد أعلن فلاسفة مابعد الحداثة "موت الذات" ودافعوا عن الوضهع "مابعد الإنساني" للفكر الذي يتمتّع بحساسية تجاه القوى والعوامل اللسانية والتاريخية التي تصوغ الوعي الإنساني الفردي. المثير أكثر للاهتمام والضحك في آنٍ معاً هو أنّ معظم فلاسفة مابعد البنيوية كانوا يدينون لأبعد حدّ لهيدغر وفلسفته. لذلك ساهموا في الترويج لفكرة أنّ هيدغر لم يكن "وجودياً" حتى خلال الفترة المبكّرة من حياته. لقد أطلقوا هذا النعت على سارتر وبوفوار، وأحياناً ميرلوبونتي. ومع مرور الوقت، أضحَت الفلسفة الوجودية ومعها الفلسفة الظاهراتية تمثّلان المؤسسة الفلسفية في فرنسا. وبحلول فترة ثمانينيات القرن العشرين، اعتبر المفكّرون في فرنسا، وفي مختلف أرجاء العلم، الفلسفة الوجودية نموذجاً فكرياً بائداً، ونظروا لها كموضوع قابل للحياة والتطبيق بالنسبة لمؤرّخي الفكر فقط، ولم تعد فلسفة قابلة للحياة والتطبيق.

(((هذه المقالات هي ترجمة لمقدمة كتاب "المعجم التاريخي للوجودية" لستيفن مايكلمان. وذلك لإعطاء لمحة تاريخية وافية عن تاريخ الفلسفة الوجودية ونشأتها وفلاسفتها. والكتاب أعمل على ترجمته حالياً ويصلح لأن يكون مرجعاً موسّعاً للمفاهيم والأفكار الوجودية... ارجو لكم الفائدة)))
Historical Dictionary of Existentialism, Stephen Michelman. The Scarecrow Press, 2008.
==============================
[1] Paul Tillich, The Courage to Be (New Haven: Yale University Press, 1952), 143.
[2] “Existentialism,” in The Encyclopedia of Philosophy, Volume 3, ed. Paul Edwards, 147 (New York: Macmillan, 1967).

يتبع.....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الوجودية
منير كريم ( 2019 / 8 / 1 - 06:00 )
مقالات ممتازة
هل لك يا ستاذ ان تفسر المقولة الوجودية المعروفة وهي الوجود يسبق الماهية
شكرا لك
شكرا للحوار المتمدن


2 - السيد منير كريم
إبراهيم جركس ( 2019 / 8 / 1 - 08:57 )
نعم سأشرح هذه المقولة بتفصيل أكبر لكنني أحاول أن أقدّم تعريفاً تاريخياً في البداية عسى أن يسد بعض الثغرات في المقالات وهذا المفهوم (أسبقية الوجود على الماهية) من أول المفاهيم الوجودية التي سأتطرّق لها... من منطلق أنّ الشيء يوجَد أولاً ثمّ تتكوّن ماهيته... أعدك بأني سأتكلم عنها في أقرب فرصة ريثما أجمع المادة المرجعية اللازمة
دمتَ بألف خير

اخر الافلام

.. تظاهرات في إسرائيل تطالب نتنياهو بقبول صفقة تبادل مع حماس |


.. مكتب نتنياهو: سنرسل وفدا للوسطاء لوضع اتفاق مناسب لنا




.. تقارير: السعودية قد تلجأ لتطبيع تدريجي مع إسرائيل بسبب استمر


.. واشنطن تقول إنها تقيم رد حماس على مقترح الهدنة | #أميركا_الي




.. جابر الحرمي: الوسطاء سيكونون طرفا في إيجاد ضمانات لتنفيذ اتف