الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أرخميدس الذي خلَّده العلم ، وتجاهله التأريخ

عضيد جواد الخميسي

2019 / 8 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كثير من الناس لا يعرفون شخصية أرخميدس (287-212 قبل الميلاد) ، إلاّ من خلال ما كُتب عنه في المناهج الدراسية المقررة في المدارس ، وبالأخص ذلك المشهد المشهور ، حين راح يركض ويصرخ بأعلى صوته ("يوريكا !" ، "يوريكا !") (" وجدتها … وجدتها ! ") ، وهو بجسد مبلل وعاري تماماً في شوارع سيراكيوز ( سرقوسة ، وهي مدينة في جزيرة صقليّة ) لاكتشافه ظاهرة فيزيائية مهمة . غير أن تلك الحادثة لا تعكس تماماً المكانة العلمية المرموقة والتقدير الشخصي الذي يستحقهما عالم الرياضيات اليوناني الفذ والمهندس الميكانيكي البارع في التاريخ القديم .
كان أرخميدس رائداً في الرياضيات والهندسة ، متفوّقاً على جميع أقرانه بعدة قرون ، وذلك لشدة ذكائه وعبقريته المذهلة . فقد عاش شبابه في كنف والده الفلكيّ المعروف (فيديتش ) عند ضواحي مدينة سيراكيوز اليونانية ، ثم أكمل تعليمه العالي في الإسكندرية تحت رعاية عالم الرياضيات والهندسة اليوناني (إقليدس ) ، ومن ثم بات مقرّباً جداً من الملك هيرون الثاني ، حاكم سيراكيوز لما بعد .
كان لأرخميدس شأناً عظيماً لدى الحكّام من الملوك والأمراء ، أسوة بالأشخاص المهمّين و الموهوبين الذين يمتلكون ذكاءً حادّاً و قدرات علمية وأدبية وفنية فائقة ومتميزة في العصور القديمة ، فقد أصبحت سيرته الشخصية والمهنية ملأى بالروايات والقصص والاساطير على مرّ قرون عدة ، ولذلك ، من الصعب التمييز بوضوح بين الحقائق التاريخية والحكايات الملفّقة التي جاءت في سيرته عن حياته ومماته .
سخّر أرخميدس علومه ومعارفه في الرياضيات والفيزياء من خلال تصميم وصناعة أسلحة قتالية جديدة تستخدم عند الحروب ، إذ لعبت براعته في الاختراع دوراً رئيسياً خلال المنازلة العسكرية الكبرى بين روما و سيراكيوز في الحرب البونية الثانية . ويمكن إرجاع تطور هذا الصراع إلى حوالي عام 290 قبل الميلاد ، عندما أصبح الرومان حكّاماً جدد على وسط إيطاليا في بادئ الأمر ، ومن ثم أخذوا يغزون المدن اليونانية في الساحل الإيطالي تباعاً . وفي عام 270 قبل الميلاد ، أصبح هيرون الثاني (308-215 قبل الميلاد) ملكًا على سيراكيوز ، وقد كانت المدينة تمتاز بدرجة عالية من النمو والازدهار .

انجازات أرخميدس
خلال عصر أرخميدس ، كان ما يسمّى مجمع الثقافة اليونانية في مدينة الإسكندرية ، والذي هو أكبر مركز عالمي للأبحاث والدراسات العلمية والفلسفية والأدبية في التاريخ . فمن هناك تلقّى أرخميدس أعلى مستوى للتعليم ، مدعوماً بالاختبارات والتجارب العملية في العديد من المجالات العلمية بغرض التخصص في حقل الرياضيات . وقد قورن تفاني أرخميدس في الرياضيات مع مهارات نيوتن ، فكلاهما غالباً ما يهملان الطعام والشراب ، وحتى إنهما لا يبديان اي اهتمام في الرعاية الأساسية الصحية والوقاية من الأمراض ، ونظافتهما الشخصية كانت مهملة أيضاً ، لانشغالهما المستمر في الأبحاث وصياغة النظريات .
كتب بلوتارخ عن أرخميدس بعد حوالي ثلاثة قرون :
" ليس من الممكن أن يجد في جميع المسائل الهندسية أسئلة صعبة أو أكثر صعوبة وتعقيد ، أو قد تحمل حلولاً أكثر بساطة ، وتفسيرات واضحة. البعض يسند هذا إلى عبقريته وموهبته الطبيعية. في حين يعتقد آخرون أن جهوداً استثنائية قد بذلها أدت إلى ظهور نتائج سهلة ومباشرة في جميع الميادين" (ديورانت ، ص 629) .
يمكن تصنيف إنجازات أرخميدس في مجال الرياضيات إلى ثلاث مجموعات رئيسية :
أولاًـ في هذه المجموعة ، عمل أرخميدس على وضع ثوابت النظريات المتعلقة بالمواد الصلبة والمساحات التي تحددها المنحنيات والسطوح .
ثانياًـ توصل الى حلول منطقية للمشاكل الناجمة في احتساب حجوم المواد السائلة من وجهة نظر هندسية .
ثالثاًـ النسبة الثابتة أو ثابت الدائرة (ط) : عمله في هذه المجموعة الرياضية ، قد انصّب على قياس محيط ومساحة الدائرة وبقية المنحنيات ، فقد توصل أرخميدس إلى الاستنتاج المنطقي بأن نسبة محيط الدائرة إلى قطرها ، هو الثابت الرياضي الذي نسميه اليوم " باي " (ط ، pi ، π) ويساوي 22/7 ، و بما يقرب الى 3.14159 ، وهو نفس الثابت المعمول به حالياً في احتساب مساحة الدائرة و الأشكال الأسطوانية دون اي تغيير يذكر منذ ذلك التاريخ .

تاج الملك
الحادثة الشهيرة والتي ظهر بها أرخميدس عارياً ، كانت بدايتها تتعلق بتاج الملك الصقلّي هيرون الثاني ، إذ كان الملك هيرون قد أثارت شكوكه كمية الذهب الذي يحويه التاج الملكي عندما صنعه له الصائغ بناءً على أوامره ، وظنّ بأن الصائغ قد غشّه باستخدام مزيج من الذهب وليس الذهب النقي مثلما أراد . عند ذلك أصرّ الملك بأن يعرف فيما إذا كان الصائغ قد استبدل الذهب بشيء آخر ! ، ولكن في نفس الوقت رغب ذلك دون يُلحَق اي ضرر في التاج ، عند ذلك حضر العديد من الخبراء لفحص التاج واختباره دون الإضرار به . وحسب قول الرّاوي ، بأن أرخميدس كان من بين هؤلاء الخبراء ، وبعد عدة أسابيع من التفكير بالأمر ، وجد الإجابة أثناء دخوله حوض الاستحمام في أحد الحمامات العامة . إذ لاحظ الآتي :
أولهما : أن كمية الماء قد فاضت عن الحوض بنفس مقدار انغماس جزء من جسمه فيه .
ثانيهما :ان جسمه بدا أخف وزناً عندما غطس إلى قعر الحوض .
وعلى هذا النحو ، فإذا أردنا أن نصدق تلك الأسطورة عندما هرع أرخميدس الى شوارع سيراكيوز ، والذي من المفترض أنه كان عارياً ومبلّلاً ، وهو يصرخ باعلى صوته وبطريقة مثيرة للدهشة ، لربما تعّد دليلاً على أنه قد وجد الإجابة على سؤال الملك !.
صِيغت " قاعدة أرخميدس" ، المعروفة أيضاً باسم قانون الطفو ، التي تنص على ان :
( كل جسم يغمر في سائل كليّاً أو جزئياً ، يفقد من وزنه بقدر وزن ذلك السائل المزاح ) .
اعتمد أرخميدس تلك الظاهرة في الطفو مبدءاً أساسياً لإختبار تاج الملك . وبعد عودته إلى المنزل اكتشف أرخميدس ، بأن وزن قطعة معينة من الفضة عندما تكون مغمورة في الماء ، تفيض بكمية أكبر منه عن الذي يفيضه الذهب في نفس وزنها . والسبب في ذلك ، أن الفضة لديها حجم أكبر من الذهب عندما يتساويا في الوزن أو المقدار . وعلى ضوء ذلك الاكتشاف ، أسرع أرخميدس في غمر تاج الملك في الماء ، وقارن الماء الفائض بكمية من الذهب تساوي وزن التاج ، عندئذ وجد أن كميّة الماء التي فاضت أكثر من وزن التاج فيما لو كان مصنوعا من الذهب الخالص ( لحساب الوزن ـ توجد قاعدة رياضية متبعة في تحويل الكمية الى وزن ) . وخلص أرخميدس ، إلى أن التاج لم يكن مصنوعاً من الذهب النقي ، مما يؤكد شكوك الملك ، وعلى هذا المبدأ ، فقد تمكن ارخميدس من تحديد مقدار الذهب المفقود ، وفضح الصائغ الذي صنعه .

البكرة والذراع ونقطة الارتكاز في صناعة الرافعة
هناك أفكاراً لا نعرف حقيقتها إلا من خلال ما ذُكر عنها لدى طروحات العلماء القدماء . صاغ أرخميدس قانون الرافعة والتوازن ، وقد فعل ذلك بدقة لدرجة أنه لم يحدث اي تقدم فيها حتى القرن السادس عشر الميلادي . كما اكتشف فوائد البكرة لرفع الأوزان الكبيرة .
لقد أدهش أرخميدس العالم حول المزايا الميكانيكية التي تقدمها كل من الذراع والبكرة وايجاد نقطة الارتكاز في رفع الأثقال التي ذكرها في مقولته المشهورة ، " أعطني مكانًا لأقف عليه ، من عنده سأحرّك لك الأرض ".
شككّ الملك هيرون الثاني بقدرة أرخميدس على فعل ذلك في بادىء الأمر ، وقد وضع ادعاؤه على المحك عندما جمع أرخميدس سلسلة من التروس والبكرات والعتلات المصممة بذكاء وعبقرية ، وبينما كان هو جالساً لوحده على مقعد الآلة التي صنعها وعند طرف قريب من ساحل البحر ، فإنه تمكنّ وسط دهشة الجميع ، من سحب سفينة محملّة بالكامل راسية على مسافة معينة من مكان مرسى السفن ، وهي مهمة لم يستطع مائة رجل في تحقيقها بالكاد .
على الرغم من كل القوانين الفيزيائية التي إكتشفها أرخميدس ، لكنه في الواقع لم يعترف على أنها قوانين ، ولم يصفها في إشارة إلى الملاحظة والقياس . بدلاً من ذلك ، عاملها كنظريات رياضية صرفة ، ضمن منطق نظام شبيه بنظام إقليدس المصمم للهندسة .
كان لأرخميدس ميلاً في التقليل من قيمة الأفكار المبهمة وتفضيله الحجج المنطقية ، إذ كان الإغريق يعتقدون أن أعلى المعرفة تُبنى على المنطق الاستنتاجي ، ومع ذلك ، لم يمتنع أرخميدس من فوائد التجربة . فهو قد برز دون معاصريه ، لأنه نجح في تطبيق معرفته النظرية في الممارسة. لكن الطريقة التي يقدم بها اكتشافاته هي دوماً من منظور رياضّي بحت ، ولم يحاول أبداً في تقديم نشاط علمي من وجهة نظر هندسية. علاوة على ذلك ، فعندما كان يشير إلى التجارب الميكانيكية ، فإنه يستخدمها فعلاً للمساعدة في فهم الرياضيات ، وبهذا فإنه يُظهر اختلافاً جوهرياً في النهج مابين العلوم القديمة والحديثة ، طالما استخدم التجارب للمساعدة في الفهم النظري . أما في العلوم الحديثة ، فيتم استخدام النظريات لمتابعة نتائج عملية محتملة .

الموت و الميراث
بعد وفاة الملك الصقلّي هيرون الثاني ، بدأت الحرب بين سيراكيوز والرومان ، وتعرضت المدينة لهجوم من البر والبحر، وكانت خمس وسبعون سنة من العمر ، لم تكن عقبة أمام أرخميدس في لعب دور أساسي للدفاع عن المدينة.
عن طريق استغلال مهاراته كمهندس ، طور وحدَّث المقلاع الذي يلقي الحجارة الثقيلة الى مسافات بعيدة ، وفتح ثقوب في أسوار المدينة تساعد رماة السهام النارية لإطلاقها على المهاجمين بدقة كبيرة ، وإنشاء رافعات قادرة على إطلاق أحجار ثقيلة على السفن الرومانية عندما تكون تحت مرماها . كانت هذه الاختراعات فعالة جداً لدرجة أن القائد الروماني ماركوس كلوديوس مارسيليوس قد تخلى عن فكرة مهاجمة سيراكوز، وقرّر أن الحصار هو السبيل الوحيد الممهد لاحتلال المدينة ، وعند 212 قبل الميلاد ، استسلمت المدينة التي كانت تتضور جوعا ، و استولى الرومان على سيراكيوز أخيراً .
كان مارسيليوس معجباً جداً بعبقرية أرخميدس لدرجة أنه أمر بإلقاء القبض على اليوناني المخترع حيّاً . ومع ذلك ، فعندما توجّه الجنود الرومان في البحث عن أرخميدس ، عثروا عليه عند الشاطئ يرسم مجسّمات هندسية من خلال الرمال ويعمل على واحدة من نظرياته الكثيرة . وعندما صاح به الجنود الرومان كي يمتثل لأوامرهم ، إلا أنه تعمّد في تجاهلهم ، وطلب منهم بعض الوقت لإنهاء عمله ، فغضبوا منه ، ومن سلوكه معهم ، و اعتبروا ذلك إهانة لهم ، فأردوه قتيلاً في الحال ، ولم يدركوا بانهم قد قتلوا أحد أعظم العقول في التاريخ .
توفي أرخميدس ، ولكن أفكاره لا يمكن أن تموت ، ومنجزات أرخميدس بقيت صامدة ، حتى في أصعب الصراعات السياسية والدينية والاجتماعية خلال العصور الوسطى ، وأنها أُستثمرت تماماً خلال عصر النهضة .
أدّت أعمال أرخميدس العظيمة في تطوير الحركة العلمية التي تركت صدى واسعاً لدى الكثير من العلماء والباحثين . إذ كان غاليليو كثير الاهتمام بأفكار وتجارب أرخميدس ، لتوظيفه علم الرياضيات في الفيزياء ، و بسبب ذكاءه أيضاً الذي فاق عصره .
أخيراً ، وفي عالمنا المعاصر ، علينا أن ننتظر كي نرى أرخميدس آخر ، رياضياً عبقرياً ، وفيزيائياً عظيماً يخلَّده العلم والتأريخ معاً .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن هوكينج ـ خلق الإله الكمال ـ ادارة الصحافة للنشر ـ 2007 .
برتراند راسل ـ تأريخ الفلسفة الغربية ـ سيمون وشوستر للنشر ـ 1967.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: الرجل الآلي الشهير -غريندايزر- يحل ضيفا على عاصمة


.. فيديو: وفاة -روح- في أسبوعها الثلاثين بعد إخراجها من رحم أم




.. وثقته كاميرا.. فيديو يُظهر إعصارًا عنيفًا يعبر الطريق السريع


.. جنوب لبنان.. الطائرات الإسرائيلية تشن غاراتها على بلدة شبعا




.. تمثال جورج واشنطن يحمل العلم الفلسطيني في حرم الجامعة