الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تل حموكار

رستم محمد حسن

2019 / 8 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الموقع والاهمية
يقع تل حموكار على بعد 160كم شمال شرق مدينة الحسكة، على مساحة مائتي هكتار من الأرض على شكل مربع وسط السهول المحصورة بين جبل سنجار في الجنوب وسلسلتي جبال طوروس وزغروس في الشمال والشمال الشرقي، ويبعد الموقع عن نهر دجلة باتجاه الجنوب الغربي مسافة خمسين كيلو مترًا، بينما يبعد عن نهر نهر جقجق جغجغ (الذي يخترق مدينة ال القامشلي قامشلي ) بحوالي ستين كيلو مترًا.
وقد اكتشفت البعثة السورية ـ الأميركية المشتركة للتنقيب عن الآثار والتي بدأت عملها عام 1999 مدينة أثرية مهمة يعود تاريخها الى الألف الخامسة قبل الميلاد، ويمكن أن تعتبر أقدم مدينة في العالم، اذ يقدر عمرها الأن بأكثر من سبعة آلاف سنة، وهي بذلك أقدم من أي مدينة أثرية أخرى مكتشفة حتى الآن في العالم بما لا يقل عن 2500 سنة.

التنقيب والاكتشافات :
أجريت عمليات التنقيب في ثلاث نقاط A و B وC وكان الهدف من السبر تكوين فكرة عامة عن المراحل كافة، التي مرت فيها التل ولمحة عن تاريخه.
وقد وجد في المنطقة «A» في الدرج الأعلى بعض المنازل التي تتكون جدرانها من اللبن، جوارها جدار ضخم عرضه لا يقل عن أربعة أمتار وارتفاعه أربعة أمتار أيضاً، ويعتقد انه كان سوراً لمدينة، أما الفخار الذي وجد مع الجدار فيعود الى العصر الحجري النحاسي أي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، وكذلك اكتشف فخار في مستوى أعلى من الجدار يعود الى «فترة أوروك» (3200 قبل الميلاد) ومنازل تتألف من عدة طبقات تحتوي على العديد من المباني، ورصيف مرصوف باللبن المستوى.
وأما الطبقة الأخيرة منه فهي مغطاة بالجبص، وكلها تعود الى الألف الثالثة قبل الميلاد، وفوقها وجد بناء يعود الى الفترة الاسلامية ـ الأموية أي 700 بعد الميلاد.
وفي ما يخص المنطقة «ب» فقد كشف فيها أربع سويات أثرية ضمَّت منشأة معمارية سكنية تعرضت إلى حريق كبير تعود إلى فترة أوروك الوسيط احتوت على المبنى الثلاثي من طراز أوروك الجنوبي الذي يتألف من فناء خارجي توضع في الجهة الجنوبية من المبنى، وأربع غرف صغيرة تطل عليه من الجهة الشرقية، ومجموعة أفران بيضوية الشكل ذات أبعاد (3×2م) عثر على إحداها سالماً مبني على شكل قبة كانت تستخدم للطبخ وخاصة طبخ اللحوم نظراً لاحتوائها على كمية كبيرة من عظام الحيوانات وبعض النباتات المتفحمة، بالإضافة إلى تنور مخروطي الشكل لصناعة الخبز، كذلك اكتشفت كسر فخارية يستنتج أن معظمها يعود إلى أوان كبيرة الحجم كانت تستخدم في الطهو وتحضير الطعام، ويدل حجم هذه الأواني على أنها كانت تستعمل لتحضير طعام جماعي أو لخدمة تتجاوز أفراد الأسرة، وهذا يدل على وجود إدارة حكومية من شكل ما، كذلك اكتشف وجود امتداد للبناء خارج السور وهذا يثبت أن التطور العمراني انطلق من هذه المنطقة ولم يأت إليها من الخارج.
كذلك وجد في أرضيات احد هذه المباني على قبر لطفل معه تماثيل صغيرة من العظم عرفت بتماثيل العيون بسبب وجود عيون كبيرة فيها، اكتشفت نماذج منها في «تل براك»، وتشير هذه التماثيل إلى آلهة أو أشخاص، لكن تفسيرها ما زال غامضاً على علماء الآثار، ومن أهم المكتشفات التي وجدت في هذه المنطقة، التي تعطي فكرة عن طابع المجتمع، وجود أكثر من ثمانين ختماً وخمس عشرة لوحة، وكثير من الخرز اكتشف في قبر الطفل وكان على الأرجح مشكوكاً في قماش ثياب الطفل.
أما مادة الاختام فكانت من العظم منحوتة باشكال حيوانات. وكانت قاعدة الختم محفورة بخطوط أو بصور تشكيلية، وأحد الاختام الكبرى كان على شكل نمر منقط، نقطه مصنوعة من أسافين صغيرة محفورة ومنزله على جسده، أما الوجه الأسفل فكان يضم صفاً من الحيوانات ذات القرون.
ووجد أيضاً ختم آخر كبير على شكل حيوان ذي قرون وأسفله أيضاً صور من الحيوانات ذوات القرون، أما الاختام الصغرى فهي على أشكال حيوانات مختلفة مثل الأسود والماعز والدببة والوعول والكلاب والأرانب والأسماك والطيور، وقد اكتشفت تعاويذ شبيهة بالتي في «تل براك»، لكن تعاويذ تل حموكار اعتبرت أختاماً لوجود صورة الختم عليها.
الاختام الكبيرة كانت للشخصيات المهمة مثل المدراء والمسؤولين، اما الاختام الصغيرة فكانت اعدادها أكبر لأنها أكثر استعمالا باعتبارها تخص عامة الشعب وطبقاته، وهذا يدل على وجود تنظيم إداري دقيق ومدهش في فترة الألف الرابعة قبل الميلاد بسبب قدمها في التاريخ، وهذه الاختام لا تشير الى بيروقراطية، بل تشير الى علاقات تجارية كان يضع التاجر فيها ختمه أي توقيعه على المواد أو السلع أو قطع القماش، وهذه الظاهرة بدأت مع بداية العمران وبداية تأسيس دولة في حموكار.
أخيراً في المنطقة c فقد اكتشفت فيها زاوية لبناء يعود الى الألف الثالثة أي للفترة الأكادية، وقد وجد منه في «تل براك» وتحتوي زاوية البناء على باب يدل نمطه أنه ذو طابع عام وربما معبد، ووجدت فيه أيضاً كسر فخارية تعود الى الفترة الأكادية وهذه القطع الفخارية مشابهة للقطع التي اكتشفت في «تل براكن» وسمح هذا بتأريخ القطع في الفترة الأكادية لتلازمها مع قطع أكادية أخرى.
هذا ودلت أخيراً نتائج الحفريات المبدئية على انه اسست وتطورت في هذه المنطقة ممالك سحيقة في القدم سبقت بروز حضارة «أوروك» وقدومها من جنوب بلاد الرافدين، وكان قبلا يعتقد أن فجر الحضارات الأولى والعمران انما ولدت في جنوب بلاد الرافدين، أي حوالي 3500 قبل الميلاد، ثم انتقلت شمالاً الى المناطق السورية في الشرق.
ويعتقد ان حموكار كانت موطناً لحوالي خمسة وعشرين ألف نسمة، وقد يعطيها اللقى المكتشفة ميزة في مساهمتها بتطوير الفن التشكيلي والنحت والزخرفة، كما يقول مدير متحف الرقة ورئيس الجانب السوري في بعثة التنقيب السورية ـ الاميركية.
كذلك عثر على لقى تعطيها الأولوية بالنسبة الى المدن الأخرى التي تعود الى تلك الفترة، كما اكتشف فيها أقدم نظام للتكييف الهوائي في التاريخ ويتمثل في وجود مقرات في جدران ثنائية متوازية تفصل بينهما مسافة من الفراغ لا تتجاوز خمسة عشر سنتيمترا تسمح بتدفق الهواء المكيف النقي لمقاومة حر الصيف

إقتصاد حموكار:
كانت أراضي تل حموكار من أخصب الأراضي الزراعية، وكانت تروى من عدة أنهار تأتي من الشمال الى الجنوب وأخرى من جبل سنجار باتجاه الشمال وتلتقي جميعها لتشكل بحيرة كانت تخضع مياهها لعملية تنظيم معينة لري السهول الزراعية الواسعة والخصبة، واستخدمت في سبيل تحسين الانتاج الزراعي انواع معينة من الاسمدة، كما ان معنى اسمها تدل على العمل، فأسم «كار» يعني الصفة والعمل "كما في الكردية" وفي اللغة السومرية القديمة، يعني مكان العمل الذي ينظم شؤون العاملين، وهذا ما يدل على ان هذه المدينة كانت مدينة صناعية بإمتياز كما ستدل على ذلك أعمال التنقيب، وقد تم العثور على أدلة كثيرة تشير إلى تطور الصناعة آنذاك مثل الأعمال الزجاجية والأفران والقنابل، بالاضافة الى وجود شبكة من الطرق لتسهيل عملية التجارة

نهاية هذه المستوطنة :
سمحت الاكتشافات في هذا الموقع لعلماء الآثار بإعادة النظر في كيفية تطور الحضارات وتكوين أولى المدن في العالم على ضفاف نهر دجلة، فقبل بضع سنوات كانت تعتبر منطقة جنوب العراق - ما يعرف بحضارة الوركاء - منشأ الحضارة المدنية، لكن تظهر الحفريات في حموكار اليوم أن هذه الحضارة امتدت شمالاً وأنشأت لنفسها مستوطنات للحصول على المواد الأولية التي تفتقر إليها كالحديد والمعادن والأحجار، وتطورت هذه المدن لتصبح هي مراكز قوى استراتيجية تنافس مدن الجنوب. ويبدو ان التنافس للاستيلاء على حاموكار هو ما أدى الى تدميرها، وقد عثرعلى كمية كبيرة من اللقى الفخارية التي كانت قد صنعت في مدينة الوركاء، ما يعني ان أهل هذه المدينة إن لم يكونوا هم من ألقى القنابل المدمرة على حموكار إلاّ أنهم بالطبع استفادوا من اندثارها، فلقد احتلوها مباشرة بعد تدميرها واستعملوها لفترة وجيزه من الزمن.
وأثمرت الحفريات التي قام بها علماء الآثار في تل حموكار عن اكتشاف بقايا جثة قد تكون إحدى ضحايا ما قد يكون أضخم معركة شهدها ذلك العصر.
كما اكتشفت البعثة دليلاً جديداً كشف النقاب عن الكيفية التي واجهت فيها أول مدن العالم عنفاً انتهى بها إلى حريق، وانهيار للجدران والأسقف، وانهمار لطلقات كانت مصنوعة من الفخار، تلك المعركة خلفت ورائها بعضاً من أقدم الآثار المعروفة لحرب منظمة.
ويقول د.ريتشل أن التنقيبات الأخيرة كشفت لنا "كيف كانت المدينة تبدو في اليوم الذي دمرت فيه". وأضاف "خلال هجوم سريع ومكثف انهارت الأبنية، واندلعت النيران الخارجة عن السيطرة، واندفن كل شيء تحت ركام من الحجارة".
وبين ركام الآثار عثروا على أكثر من 1000 طلقة فخارية مدروة أو بيضوية الشكل التي ربما استعملت في المقالع، واستخدمت كسلاح حرب أساسي في الحرب.
إن الطلقات وأشكال الدمار التي تم العثور عليها حملت العلماء إلى استبعاد فكرة حدوث زلزال مدمر فيها ودفعتهم إلى استنتاج حدوث معركة مروعة في ذلك المكان، وقال د.ريتشل وغيره من الخبراء أنه ليس هناك أي وسيلة لتحديد هوية المعتدي، ولكنهم يخمنون بأنه كان يعود لجيش أحد المدن الجنوبية.
وفي عام 2005 عندما افترض العلماء أن المعركة حدثت هناك اصطدموا مع بعض الشكوك التي أثارها غيرهم من الباحثين، ولكن د.ألغيز من جامعة كاليفورنيا في سان دياغو والذي يُعتبر مرجعاً في تاريخ بلاد ما بين النهرين، قال إن طلقات المقالع تلك التي اخترقت الجدران ونشرت الدمار "أقنعت الجميع بأنها دليل على نشوب النزاع".
وبينت الحفريات ان المعركة التي دارت في حاموكار كانت شرسة جداً استعملت فيها قنابل بيضاوية الشكل اطلق صغيرها بالمقلاع (وقد وجدت 1200 قنبلة من هذا النوع في ارض الموقع)، أما القنابل الكبيرة التي وجد منها حوالى 120 قذيفة مصنوعة من الصلصال الصلب، وعلّق عالم الأثار الاميركي غويلرمو ألغيز ان الاكتشافات الجديدة في هذه المنطقة وبينها اكتشاف موقع تل حموكار تسد الفراغ الذي كنا نفتش عنه عن حضارة تلك البلاد الممتدة من شواطىء الخليج جنوباً حتى جبال طوروس شمالاً، وأضاف هذا العالم ان الشمال والجنوب كانا جاهزان للانطلاق قدماً حضارياً وعسكرياً، الا ان الجنوب تمكن بعد خمسمئة سنة من ان يجتاح الشمال وان يلغي دور هذا القسم، وتظهر الحفريات التي أجرتها بعثة تنقيب بريطانية في تل براك في الجزء الشمالي الواقع حالياً في شمال سوريا ان هذا التل انهار هو الاخر في نفس تاريخ انهيار تل حاموكار.
يؤكد ريتشل انه “من الواضح أن تلك المعركة لم تكن جزءاً من حرب عادية، إنما هي اجتياح استخدمت فيه كل العدة والعتاد. ويشبه هذا التكتيك ـ إن جاز التشبيه ـ الطريقة التي اتبعتها القيادة الأميركية في حربها على العراق، لقى اكتشفت لتتحدث عن أسرار الحياة اليومية في حموكار، إذ وضحت أن جيشاً ضخم خاض المعارك بشكل سريع ومكثّف لفرض هيمنة كاملة على أرض العدو، ولكن الأميركيين لم يكتشفوا هذا التكتيك الحربي، فقد استخدمه السومريون قبل الأميركيين بخمسة آلاف سنة.
المصادر :
مجموعة مقالات ومقابلات لمديرية الاثار في سوريا بالاضافة الى كتيب صغير عن حموكار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش