الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منطقُ -الله يهديك- .

زيدان الدين محمد

2019 / 8 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نكاد نعدّ أكثرَ الشّعوب تداولاً لعباراتٍ مُبرقعة بالإشارة إلى حُسن أخلاقنا وجوادِ فضائلنا على مادوننا، والعبارات لا تُقمقَم لكثرتها، ولكنّا نُركّز على عبارةٍ تتنصَّب الجدارة في تفشِّيها بين أوساطنا، وهي عبارة "الله يهديك"، مامنطق هذهِ العبارة ومالذي يدفعنا لتوجيهها إلى الآخرين؟.

أوّل مايدفعنا لقول تلك العبارة وبالطبع إستخدامها على ماغير هي عليه، أنّ الآخر ليس على مانحنُ عليه، ويفترض به أن يكون كما نحن، فتوجيه عبارة "الله يهديك" إلى مَن يُخالفنا في رأيٍ ما، أو إعتقادٍ ما، أو قضيّةٍ ما، هو بمثابةِ القول الصريح:
"اسأل الرّب أن يجعل أفكارك كما هي أفكاري، وأن يهديك إلى مفاهيمي الخاصّة؛ ذلك أنني (مهدي) وأمتلكُ الحقائق المُطلقة والصائبة".
نحنُ كمُجتمعات عربية تسودها ثقافة الطلاء والتلوين، لا يعنينا بالغالب طريق الحقّ، بل أننا نُلبس المفهوم السائد فكرة الحقّ والصواب، جاعلين إياه معيارًا للحقيقة وماسواه ليس كذلك، بل ومَن ينتقده فقد انزلقَ إلى الباطل ولا هداية له إلّا بالعدول عن أفكاره الخاصة والإنضمام لمفهومنا المتجذّر في ثقافتنا والسائد؛ لأنهُ رمزًا للهداية، وبالتأكيد فهذهِ مُغالطة جليّة تقوم على عدم الإحتساب للفيصلِ بين "الإعتقاد" و"البيّنة" ، فسيادة إعتقادٍ ما في أي قضيةٍ كانت، ليس ذو صِلةٍ بصدقِ القضيّة أو كذبها، وقد قال برتراند راسل قوله فِي هذا المنحى بإنّ واقعة أن رأيًا ما قد انتشر على نطاقٍ واسع ليست دليلاً البتَّة على أنّ هذا الرأي ليس باطلاً كُل البطلان، والحقّ أنهُ بالنظر إلى سُخفِ أغلبية بني الإنسان، فإنهُ لأقربُ إلى الإحتمال أن يكون الإعتقاد الواسع الإنتشار اعتقادًا سخيفًا مِن أن يكون اعتقادًا معقولاً.

وقد يكون الإسراف بِتوجيه تلك العبارة، ماهو إلّا من قبيل إلغاء الإعتراف بوجود التعدّد الفِكري وحُرِّيّة الفِكر والتعبير والرأي، ومِن جهةٍ أُخرى كأنها تُمهِّد لفرض رأي واحد سائد على نطاق امتلاكه الحقيقة والصواب، وهذا غير لائق في عصرٍ يحدو تطوّرًا إنسانيًا ومفاهيميًا، إذ أن فرض الرأي له حمولته السّلبية ومُترتّباته على إلغاء إنسانية الآخر.
اليوم تُوجد العديدُ مِن النوافذ المنهجية لعملية التفكير وتكوين بُنى الفِكر وقوائمه، وهذا ماتعنيه البلورالية "التعدّدية المعرفية".
التعدّدية المعرفية توحي لنا بِمبدأ مُهم لهُ عوائده الإيجابية في الإنفتاح الفِكري وتقبُّل النقد وضرورة التمحيص وأهميّة الإقرار بالحُرِّيّةِ الفِكرية. وأهم هذهِ العوائد، أنَّهُ ليس بِإمكان أحدهم إثبات وجود منحى واحد صحيح للتفكير علينا السير على خُطاه.
إن الجهاز المعرفي يتطلّب التَّفاوت لضرورته في حركة الحضارة والتّطور الثّقافي، فأن لا أكون مهديًا في وجهةِ نظرك فذلك ليس إلّا أنِّي لستُ أنتمي لمقياس معنى الهداية بالنسبة لك شخصيًا.

"الله يهديك" لا تعني أكثر مِن كونها عبارة انحرَفتْ عن معناها الأصلي، ومِن الحصافةِ ألَّا نُلقي العبارات القويمة بتحويرٍ هائل إنحيازي، وقد جرى الكثير من تحويرِ العبارات لَكأنّما أُصِبنا بِلثغةٍ في فِكرنا وثقافتنا، وذلك لا يخلو من العواقب الجسيمة العائدة على نهج ثقافتنا والمنهج المشوّه المُتفشِّي بيننا وركوننا إليه كأنهُ سِمةً لنا، فضلاً عن الإستخدام السلبي لِـ اللُغة. وعلى الصعيد الشخصي فما يكاد سمعيَ يخطِفُ هذهِ العبارة حتّى أفطنُ أنَّ معناها "دَعك من حُرّيتك الفِكرية، وكُن نُسخةً منّي، وتبنَّى مُعتقداتي وآرائي".


كي تتجنّب منطق "الله يهديك"، فكّر بنفسك لنفسك أولاً ، وكُن في موضع الناقد الأوّل لمنهجية أفكارك عبر اكتشاف النتائج المُترتّبة عليها. حاول أن تكتسب قدرًا من القُدرةِ على الإنعتاق عن رأيك، ووضعه على محل التّحليل والنقد كما تفعل مع آراء الآخرين.
والأهم كي نتّقي تداول منطق "الله يهديك" بصورة مشوّهة مُمحورة، كُن على إستعداد من حيث المبدأ النّزيه في التّخلّي عن رأيك فور مايتبيّن خطؤه. ومن المُهم التنويه على أن تتعلّم كيف تسأل سُؤالاً حقيقيًا لهدفِ البحث عن الحق، وليس طرح الأسئلة لمُجرد التبرير لِما تعتقده وتعتنقه. فضلاً على أنْ لا تجعل من أفكارك معيارًا للحقيقة المُطلقة، والنهج القويم، ومسالك الصّواب، فالحقّ هنا يُقال أنّ العالم بأسره وأُناسه لم يُفصّل على مقاس أفكارك.
وأخيرًا، تجنّب التحيّز اللامعقول فذلك مايجلَب لك سوء طالع الغضب عند مُساءلتك ويدفعكَ لِلتسرّب من موقفك المُحرج بإستخدام عبارتنا الفاضلة "الله يهديك".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المسيحيون في غزة يحضرون قداس أحد الشعانين في كنيسة القديس بو


.. شاهد: عائلات يهودية تتفقد حطام صاروخ إيراني تم اعتراضه في مد




.. بابا الفاتيكان فرانسيس يصل لمدينة البندقية على متن قارب


.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين




.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ