الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الوضعية - بين عالم الاجتماع أوغست كونت و عالم الفيزياء إرنست ماخ

سلام المصطفى

2019 / 8 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يرتبط إسم " الوضعية " positivisme بأوغست كونت ، لقد عاش هذا المفكر الفرنسي في ظل الأوضاع التي أعقبت الثورة الفرنسية ، فراعه ما أصاب المجتمع الفرنسي آنذاك من فوضى و تمزق ، وعزا ذلك إلى تنافر الأفكار بعدها تساءل : كيف يمكن تحقيق الانسجام في ميدان الفكر ؟
لقد لاحظ أوغست كونت أن الاختلاف في ميدان الفكر و النظر إنما يقوم في المجالات التي يبتعد فيها الإنسان بتفكيره ، عن الواقع ، حيث يتناول بالبحث و المناقشة أمورا لا سبيل إلى معرفتها و الكشف عن كنهها ، كالبحث في جواهر الأشياء و أسبابها الأولى و غاياتها القصوى ، و الذي اكتسى أول الأمر طابعا لاهوتيا وهميا ( الحالة اللاهوتية ) ، ثم طابعا ميتافيزيقيا تجريديا ( الحالة الميتافيزيقية ) .
أما حينما ينصرف الفكر البشري عن هذه المواضيع الفارغة و يكف عن التأملات الميتافيزيقية ، و يقصر اهتمامه على ملاحظة الظواهر و التركيز على العلاقات التي تربط بينها ، فإنه يتوصل إلى القوانين التي تتحكم في الظواهر و الوقائع ، و تجمع شتاتها و تجعلها في متناول الإنسان فيستفيد منها فكرا و عملا ، هذه الحالة التي تمثل أرقى مراحل تطور الفكر البشري يسميها أوغست كونت الحالة الوضعية أو حالة الحقائق الواقعية .
لقد اهتم أوغست كونت بتصنيف العلوم اهتماما بالغا ، فرتبها حسب درجتها من التعميم و التجريد نزولا ، و مقدار تعقيدها و تشابكها صعودا ، إلى ستة أصناف : الرياضيات ، الفلك ، الفيزياء ، الكيمياء ، البيولوجيا ، السوسيولوجيا ، أما بقية العلوم فهي في نظره إما مجرد تطبيق لعلم آخر ، كالطب الذي هو تطبيق للفيزيولوجيا أو مجرد علوم في الظاهرة ، لا في الحقيقة و الواقع ، أما علم النفس فليس علما مستقلا لأن موضوعه تتقاسمه الفيزيولوجيا و السوسيولوجيا .
إذن حسب أوغست كونت فإن الفكر البشري غير قادر على معرفة جوهر الاشياء لاكتشاف ما هو منها ثابت يتكرر أي ما ندعوه القوانين و بالتالي فإن الفلسفة يجب أن تقتصر على إنشاء تركيبات من هذه القوانين لا غير .

و إلى جانب وضعية أوغست كونت و أتباعه ، التي كانت تشكل في فرنسا " الفلسفة الرسمية للعلم في القرن التاسع عشر " ، عرفت ألمانيا خلال نفس القرن اتجاها وضعيا ظاهريا تزعمه العالم الفيزيائي و الفيلسوف إرنست ماخ ، لقد كان لهذا الإتجاه الظاهراتي التي يرتبط مباشرة بلا مادية بركلي ، رد فعل عنيف ضد الفلسفة المثالية الألمانية التي تهتم بالمطلق و الشيء في ذاته حيث حمل لواءها كل من فخته و شيلنج و هيغل ، و ضد النزعة الميكانيكية التي سادت في مجال الفلسفة الطبيعية منذ غاليلي و هوبز و نيوتن .
لقد غالى ماخ في نزعته الظاهراتية الحسية غلوا كبيرا ، فهو يرى أن الطبيعة بالنسبة إلى الإنسان هي جملة العناصر التي تقدمها له حواسه ، ومن ثم فإن المصدر الوحيد للمعرفة هو الإحساس ، و الإحساسات في نظره ليست رموزا للأشياء بل إن الشيء هو بالعكس من ذلك مجرد رمز ذهني لمركب من الإحساسات يتمتع باستقرار نسبي .
ففي كتاب " علم الميكانيكا " يقول إرنست ماخ : « إن الطبيعة تتألف من إحساسات هي عناصرها ، و مع ذلك فقد التقط البدائي أول الأمر مركبات معينة لهذه العناصر ، أعني تلك التي تتسم بثبات نسبي و بأهمية أعظم بالنسبة إليه ، فأول الكلمات و اقدمها هي أسماء " أشياء " و حتى في هذه المرحلة نجد عملية تجريد للأشياء مما يحيط بها ، ومن التغيرات الصغيرة المستمرة التي تمر بها هذه الإحساسات المركبة ، و التي لا تلاحظ لأنها ليست بذات أهمية عملية ، فلا وجود لشيء لا يتغير ، و إنما الشيء تجريد ، و الاسم رمز لمركب من العناصر نجرد منه التغيرات ، و السبب الذي يجعلنا نطلق كلمة واحدة على مركب كامل هو أننا نريد أن نوحي بكل الإحساسات المكونة دفعة واحدة ، فالإحساسات ليست علامات على الأشياء ، و إنما الشيء هو في الواقع رمز فكري لإحساس مركب ذي ثبات نسبي ، و بعبارة أصح ، فالعلم ليس مؤلفا من " أشياء " هي عناصره ، و إنما من ألوان و أصوات و ضغوط و أمكنة و أزمنة ، و بالإختصار ، فهو مؤلف مما نسميه عادة بالإحساسات الفردية » .
و بناء على ذلك يقرر ماخ أن العناصر الحقيقية للعالم ، ليست الأشياء أي الموضوعات المادية و الأجسام ، بل إنها الألوان و الأصوات و الضغوط اللمسية و الأمكنة و الأزمنة ، و بكلمة واحدة ما نسميه الإحساسات ، ولذلك كان من الواجب حصر المعرفة العلمية و البحث العلمي في معالجة ما يقبل الملاحظة ، و الامتناع عن وضع فرضيات تطمح إلى تفسير ما وراء الظواهر ، أي ذلك الميدان الذي لا يوجد فيه أي شيء يمكن تصوره أو اثباته ، علينا فقط أن نعمل على كشف عن علاقات التبعية الواقعية التي تربط حركة الكتلة مثلا ، بتغيرات الحرارة دون تخيل أي شيء آخر وراء هذه الظواهر القابلة للملاحظة ، وبما أن عملية الملاحظة هذه ترتد في نهاية التحليل الى الإحساسات ، فإن هذه ، أي الإحساسات ، هي في نهاية الأمر ، الواقع الوحيد الذي بإمكاننا التأكد من وجوده .

المراجع :
ريشنباخ : نشأة الفلسفة العلمية ، ترجمة فؤاد زكريا .
إرنست ماخ : كتاب علم الميكانيكا .
راندل ، جون هرمان : تكوين العقل الحديث ترجمة جورج طعمة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضباط إسرائيليون لا يريدون مواصلة الخدمة العسكرية


.. سقوط صاروخ على قاعدة في كريات شمونة




.. مشاهد لغارة إسرائيلية على بعلبك في البقاع شرقي لبنان‌


.. صحيفة إيرانية : التيار المتطرف في إيران يخشى وجود لاريجاني




.. بعد صدور الحكم النهائي .. 30 يوما أمام الرئيس الأميركي الساب