الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مادية الخطاب الديني

محمد ابداح

2019 / 8 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قد يعمد المرء لحشو أحلامه في خطاب معدّ للعرض على مسرح حياة يتسلى فيها من ابن عام إلى التسعين، وقد يُلقمها آخر بغليون، مشعلا فيها عود ثقاب مطلقا أحلامه في الهواء، ثمة خطابات تأخذنا للسفر معها وأخرى قد لا تعنينا، وفي الخطاب الديني قد نتساءل إلى ماذا رفع صاحبنا يداه وأومأ برأسه؟ ماذا رأى حين أغلق عينيه إلاّ قليلا، وأدار مقلتيه مختلسا النظر من بين أصابعه مترصّدا الأعراض؟ هل كان يبحث عن إشارة بث أفضل للتوصيل، كحامل هاتف خلوي يجول بحثا عن إشارة أقوى؟ من المعلوم أنه كلما ضعف تأثير الدين في المجتمع كان على حامل لوائه مضاعفة جهده لإثارة الرعشة في أتباعه، وأنه كلما قل الطابع الروحي للدين كلما زاد طابعه الإعلامي، وبعبارة أخرى كلما كان الدين أضعف وأفقر بحث لنفسه عن لغة للتواصل والعبور، فقط عليك بالخطابة ونحن نتكفل بالبقية، إن تلك الآلية التبادلية تعمل بكفاءة على مرالتاريخ لذا فإن كان رجال الدين قد نجحوا في ملأ المعابد بالدمى البشرية فإن الحكام والسيّاسيين ملئوا الأوطان بالعبيد وساحات القتال بالجنود، وهو منطق غير مضياف في أصله بل وغير مرغوب به باستثناء أولائك المتجوّلين بين العلوم وآلات النسخ الفوري، والذين قرّروا مُسبقا تخييب ظن أتباعهم.
تقوم الطهارة الروحية بتعقيم العيون مما يسهّل رؤية الطريق للأعمال الصالحة، لكن ثمة أمر لايستقيم معه الخطاب الديوسياسي ( ديني- سياسي) من دونه، وهو الولوج في صلب الموضوع دون نسخه وإعادة عرضه أي وضع العلامة أو الختم في قلب الأيقونة، فهل أضحى الخطاب الديني لايملك فاعلية ذاتية مؤثرة؟ ولم باتت تلك الأعمال الروحية تتركنا عديمي الإهتمام؟ إن العديد من رجال الدين المعاصرين باتو يلهثون خلف طرفي نقيض:الدليل باعتباره مشتقا من الأصل، والرمزية باعتبارها ذات علاقة معنوية بالأصل، ودوما ما يرفضون الإختيار بين الأمرين كذريعة لتأويل النص، والمأساة التاريخية أنهم يلغون بعضهم بعضا وإن إتفقوا ظاهريا، فهل يمكن أن يتوافق الطرفان أي المادة والرمز؟ قد يكون ذلك ضربا من البدائية المفرطة كالأكل والشرب على ضفاف جداول الغابات المطيرة، فالبدائي مُكره على التعامل مع العالم بصورته المادية لكنه في الدلالة عليه يقوم بنسخه وإعادة إنتاجه في صور رمزية، وهو بذلك لايملك سوى السباحة بين الضفتين، ذلك أن عدم قابلية الأصل بلعب أي دور محسوس جعلت من وصفه أو تشخيصه في حُلل أيقونية ورمزية أمر لامفر منه.
إن العقل المعاصر بات يرغب وبشكل غير مسبوق بتفكيك تلك الحُلل باعتبارها مشتقة من أصل يتناول فيه مآل البشرية بخطاب، إنها لمسألة عجيبة أن يمنح رجل الدين لنفسه توكيلات عن الأصل عامدا بالوقت ذاته إلى تفعيل وتنفيذ مضامينها في سياق منسوخ، فخلف المشروع البيّن للعقيدة، والمتمثّل في أن الإيمان الأعمى والأبكم مساو للحياة، ثمة جمع مُفرط في التناقض بين المدرك واللامدرك في التفسير النصي، أي فكرا يعتبر الواقع سيّء النية بالمعنى الديكارتي، فأنت قد تسأل: أليست تلك الخطابات متناقضة؟ فيجيبك المُهمّ هو المعنى الرمزي.. إنهم الأغبياء وحدهم من يرتبطون بالواقع الفاني!.
إنه لحوار عقيم ومُقيت في ظل غياب المعايير المعرفية، فكل دين يصكّ نقوده في بنك العقائد زاعما أن لها قيما تداولية في أسواق الشرعية، خطابات دينية لكل منها رموزها الصالحة لكل زمان ومكان، والرمزية يا سيدي لعبة سياسية جماعية، استلزمت أرضية مشتركة، رُمي فيها آباءك في خرافة عوالم متعددة الأكوان، فاضطرّوا للإهتداء ذاتيا رغم كل شيء، بيد أن نسلهم قد فقدوا دالّتهم فلم يعودوا يهتدوا ذاتيا، ومصائد الإبداع الديني ليست بالتأكيد عائدة لرجال الدين وحدهم، فكلنا نتقاسم المسؤولية مذ عرفنا الزراعة والإستقرار بدل القنص والترحال لم نعد نرى صورا مشتركة بيننا وبين البشر العاديين، ومذ عرفنا القيم المادية لم يعد المؤمن بها مؤمنا بالكامل! فاستلزم لشرعنة المادية في الفكر المسيحي عبقرية دينية أعُتبرت هرطقة قبل ألفي عام مضت، إنها عبقرية التجسّد أو الصورة المادية للإله- الثالوث المُقدّس- لذا فالدّم الذي يجري في عروق آل روتشفلد وأمثالهم قد نبع من هنا، والذي يرفض فكرة التجسّد لا علاقة له بعالم التجارة والمال.
لم نعد للأسف- من وجهة نظر الدين- بشرا متشابهين بأفكارنا، فنحن ما بين وثني ومشرك وملحد ومرتد، وقد جعل الدين من عدم التجانس مبدأ للتفاضل بين المؤمن والكافر. لنقولها دفعة واحدة: ربّما إن حذفنا المادية من الأديان فلسوف يختفي إبراهيم ونسله من أنبياء بما فيهم عيسى، ولن يبقى سوى العنصر الروحي في صدور رهبان الكهوف، لقد تجلّت المادية في المسيحية عبر الطبيعة المزدوجة للمسيح، والسخف السخف بما فعلوا، وياليتهم أبقوه على الأقل شبه إله مخفيا غير مجسّد على غرار صاحب السرداب أو المهدي المزعوم ولكانت بقيت هالته المقدسة، فتماثيل عيسى داخل كنائس الأمريكيين من أصول أفريقية في الولايات المتحدة مجسّدة على شكل فتى أفريقيا أسود مصلوب، وأسفل قدميه صندوقا لجمع التبرعات، تلك حيلة جيدة، وعلى الأقل فإن الرّواية الإسلامية أوجدت مخرجا مشرفا له، حيث رفعه الله عنده وبذلك بقيت صورته دون تدنيس أوعرضة للمتاجرة المادية والسياسية.
إن متاحف تاريخ الأديان التوحيدية تشي بأن تحريم صنع تماثيل الآلهة أو نحت ورسم الرّموز الدينية لم يتم نتيجة قيام بعض المؤمنين السكارى بمضاجعة تماثيل آلهتهم وتدنيسها، أو خشية من عودة الوثنية، فالقدسية التي تحظى بها التماثيل الدينية تُجيّر تلقائيا لصالح الرب ( المجمع المسكوني - نيقيا-عام 787م)، كما أن رفضُ فكرة التجسّد المادي لعيسى يعني رفض كلمة الرب بل وانكار وجوده أصلا، لكن ذلك تم لأن تجسيد وتصوير صور المسيح هي الطريقة الوحيدة لضمان التدفق المالي للكنيسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستوطنون يقتحمون بلدة كفل حارس شمال سلفيت بالضفة الغربية


.. 110-Al-Baqarah




.. لحظة الاعتداء علي فتاة مسلمة من مدرس جامعي أمريكي ماذا فعل


.. دار الإفتاء تعلن الخميس أول أيام شهر ذى القعدة




.. كل يوم - الكاتبة هند الضاوي: ‏لولا ما حدث في 7 أكتوبر..كنا س