الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحروب الصليبية .. الأسباب والأهداف

عضيد جواد الخميسي

2019 / 8 / 18
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المقدمة
كانت الحروب الصليبية عبارة عن سلسلة من الحملات العسكرية نظمتها جهات وأطراف مسيحية من أجل إستعادة أورشليم والأراضي المقدسة من سيطرة المسلمين .
في الحقيقة كانت هناك ثماني حروب صليبية موثقة ما بين عام 1095 م و 1270 م ، بالإضافة إلى العديد من الحملات غير النظامية الاخرى . وقد أفرزت كل حملة نجاحات وإخفاقات متباينة ، ولكن في النهاية ، كان الفشل مصير جميع الحملات التي سعت في تحقيق الهدف الرئيسي المتمثل في إبقاء أورشليم والأراضي المقدسة في أيدي المسيحيين . ومع ذلك ، استمر هذا الحماس الصليبي حتى القرن السادس عشر الميلادي .
إن الغرض من كتابة هذا البحث ، هو بيان الدوافع الرئيسية التي حفزّت الصليبيين للقيام بتلك الحملات ، ابتداءً من البابا وانتهاءً بالمحارب البسيط ، وخاصة في الحملة الأولى التي أرست نموذجاً لقاعدة توجّب اتبّاعها بعد ذلك .

أسباب الحملات وأهدافها
ما هي الأسباب التي أدّت إلى حصول الحروب الصليبية ؟ أنه سؤال معقد بإجابات متعددة . حول هذا السؤال ، كتب المؤرخ جي . رايلي - سميث ، التعليق التالي :
"لا يمكن الحكم في كثير من الأحيان ، فإن الحملات الصليبية ، كانت شاقة ومضنية و مخيفة و خطيرة ومكلفة بالنسبة للمشاركين فيها ، وأن الحماس المستمّر لها على مرّ القرون ، ليس من السهل تفسيره . " (ص 10) .
تم تجنيد ما يقرب 90,000 رجل وامرأة وفتى على اختلاف طبقاتهم ، من قبل القيادتين السياسية والدينية للمشاركة في الحملة الصليبية الأولى (1095 - 1202 م) ، وطالما كانت دوافع المتطوعين المختلفة قد لا تتفق تماماً مع دوافع القادة السياسيين ورجال الدين في ذلك الوقت ، فعليه ، يجب التحقق من نوايا الجميع للوصول إلى تفسير مرض . على الرغم من أننا لا نستطيع بالضبط معرفة أفكار أو دوافع الأشخاص الحقيقية ، إلا أن الأسباب العامة ربما كانت وراء الترويج لمثل تلك الحملات والتصرف بناءً عليها ، إذ يمكننا تلخيص هذه الأسباب والأهداف ، وفق دور القيادات العليا وباقي الفئات الاجتماعية الأخرى في قيامها :
أولاً ـ الإمبراطورية البيزنطية : كان الهدف هو لإستعادة الأراضي المحتلّة ، وهزيمة دولة منافسة كانت تهدّدها .
ثانياً ـ البابا : تعزيز البابوية في إيطاليا ، وتحقيق طموحه كزعيم للمسيحيين في جميع أنحاء العالم المسيحي .
ثالثاً ـ التجار : احتكار المراكز التجارية الهامة التي كانت تخضع لسيطرة المسلمين ، وتوغل المال الصليبي في عموم الشرق .
رابعاً ـ الفرسان الأوربيون : الدفاع عن المسيحية ( المسيحيون المؤمنون والأماكن المسيحية المقدسة) ، والحفاظ على مبادئ الفروسية ، وكسب الثروات ، ونيل الآخرة .
خامساً ـ المتطوعون من عامة الشعب : الوازع الديني والحفاظ على التراث الديني المسيحي .

أولا ـ الإمبراطورية البيزنطية
كانت الإمبراطورية البيزنطية تسيطر على أورشليم وغيرها من المواقع المقدّسة لدى المسيحيين منذ فترة طويلة ، ولكن في العقود الأخيرة من القرن الحادي عشر الميلادي ، خسرت معظمها في معارك طويلة مع السّلاجقة الأتراك ، حيث سبق وأن شنّ السّلاجقة غزوات عدة على الأراضي البيزنطية ، وفي إحداها ألحقت الهزيمة القاسية في الجيش البيزنطي خلال معركة (مانزيكرت ) في أرمينيا القديمة وذلك في شهر أغسطس/ آب من عام 1071 م . حتى أنهم قد أسروا الإمبراطور البيزنطي (رومانوس الرابع ديوجينس 1068-1071 م ) في تلك المعركة ، وعلى الرغم من إطلاق سراحه مقابل فدية ضخمة ، فقد كان عليه أيضاً ، أن يتنازل عن المدن المهمة في (إديسا ) ، و (هيروبوليس ) ، و (أنطاكية ) . كانت تلك الهزيمة القاسية قد أثارت ردود فعل قوية لدى البيزنطيين ، ونتج عن ذلك ، زيادة حدة التنافس والصراع على العرش الشاغر بين القادة العسكريين في الإمبراطورية ، حتى أن الوضع بات غير مستقرّاً طيلة هذه الفترة لحين عودة الإمبراطور الأسير رومانوس الرابع إلى القسطنطينية من أسره .
في تلك الأثناء ، استفاد السّلاجقة استفادة كاملة من ذلك الإهمال العسكري ، فقاموا بانشاء سلطنة (سّلاجقة الروم) وعاصمتها نيقية ( أزنيق ) في بيثينيا شمال غرب آسيا الصغرى عام 1078 م ، والتي تم الاستيلاء عليها فيما بعد من قبل البيزنطيين في عام 1081 م . على الرغم من سيطرة السّلاجقة على الموقف واحتلالهم مدينة أورشليم المقدّسة بحلول عام 1087 م ، إلا أن طموحهم كان أكبر من ذلك بكثير .
جاء وذهب العديد من الأباطرة البيزنطيين ، ولكن لم يتم تحقيق الاستقرار إلاّ في عهد الإمبراطور (ألكسيوس الأول كومنينوس ـ 1081-1118 م) ، وهو بشخصه قد اشترك في معركة (مانزيكرت ) عندما كان قائداً عسكرياً كبيراً . لم يكن بوسع ألكسيوس أن يوقف زحف السّلاجقة والانتصار عليهم آنذاك ، رغم ذلك ، فإن اللوم يقع عليه ، بسبب خسائره العسكرية الفادحة في الأقاليم وضعف خططه العسكرية في آسيا الصغرى . ولكن الإمبراطور ألكسيوس كان يشكّ في ولاء المرتزقة النورمانديون له ، نظراً لسيطرة النورمان ( سكان مناطق شمال أوروبا ) على صقلّية ، والهجمات المباغتة التي تحصل في اليونان البيزنطية..
تُعدّ سيطرة السّلاجقة على أورشليم ، وسيلة لإغراء القادة الأوروبيين في العمل الجاد لإسترجاعها ، فقد ناشد أليكسيوس الغرب في ربيع عام 1095 م المساعدة في طرد السّلاجقة ليس فقط من الأرض المقدسة ، ولكن أيضا من جميع الأجزاء المحتلة التابعة الى الإمبراطورية البيزنطية ، وتحت شعار: (عسى أن يكون سيف المسيحية سلاحاً مفيداً في الحفاظ على عرش بيزنطة ) .

ثانياً ـ البابا
تلقّى البابا (أوربان الثاني ـ 1088-1099 م) نداءً من الإمبراطور أليكسيوس في عام 1095 م ، ولكنها لم تكن المرة الأولى التي يطلب فيها الإمبراطور البيزنطي المساعدة البابوية ، ففي عام 1091 م أرسل البابا قوات عسكرية لمساعدة البيزنطيين ضد البجناق ( قبائل بدوية تركية تعيش في مناطق السهوب ) ، الذين كانوا قد غزوا منطقة الدانوب الشمالية للإمبراطورية .
تُعدّ هذه الحملة في تقدير البابا والتي من شأنها ، رفع مقدار وهيبة البابوية بدرجة كبيرة في أوروبا والعالم ، وبإسم الكنيسة التي تزعمت جيشاً غربيّاً خليطاً قوامه من جميع انحاء اوروبا للقيام بتلك الحملات ، كما عززت مكانتها في إيطاليا نفسها ، بعد أن واجهت تهديدات خطيرة من الأباطرة الرومان في القرن الذي سبق الحملة ، ممّا أجبرت البابا في الانتقال بعيداً عن روما .
كان البابا أوربان الثاني يهدف الى إعادة توحيد الكنائس الغربيّة (الكاثوليكية) والشرقية (الأرثوذكسية) ، مع تنصيب نفسه على رأس هرم الكنيسة الموحدة ، ليتجاوز بذلك بطريرك القسطنطينية . علما بأن الكنيستين قد انقسمتا منذ عام 1054 م بسبب الخلافات حول العقيدة والممارسات الليتورجية ، ولا سيما في رفع منزلة يسوع المسيح من درجة البابوية إلى الدرجة الربوية في فكرة الثالوث الأقدس .
تمتلك الحروب الصليبية صدىً دينياً واسعاً لدى المسيحيين ، بسبب فكرة تهديد المسلمين للأراضي المسيحية والمسيحيين الذين يعيشون في أورشليم والأراضي المقدسة ، والأهم من هذا كله ، هو فقدان السيطرة المسيحية على الأراضي المقدسة ، وعدم تمكنها من الاحتفاظ لمواقع كانت لها قدسيّة متميزة وذات أهمية تاريخية بالنسبة للمسيحيين ، وخاصة قبر يسوع المسيح ، والقبر المقدس في أورشليم . علاوة على ذلك ، فعندما كانت إسبانيا محتلّة من قبل المسلمين ، اعتبر هذا الاحتلال بمثابة إنذار لمدى الأخطار التي تواجه العالم المسيحي والسعي الحثيث في التصدي للمد الإسلامي ومنع تغلغله في أوروبا . في حلول عام 1085 م ، عادت نصف أسبانيا إلى أيدي المسيحيين ، وتمكن النورمانديون من إعادة صقلّية إلى الحظيرة المسيحية ، ورغم ذلك ، ظل التهديد الإسلامي الموجه الى أوروبا قوياً ومستمراً .
في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 1095م ، دعا البابا أوربان الثاني إلى حملة صليبية في خطاب ألقاه أمام مجلس كليرمون في فرنسا. كانت الرسالة المعروفة باسم (التساهل) ، حماسية و إغرائية وموجهّة خصيصا الى الفرسان :
"أولئك الذين دافعوا عن المسيحية والمسيحيين ، عندما قاموا برحلة الحج ، فإن جميع آثامهم قد غُسلت ، ونالت أرواحهم المكرمات والهبات التي ليس لها حدود في الحياة الآخرة " .
تغلغلت المسيحية في كل جانب من جوانب الحياة اليومية في أوروبا خلال القرون الوسطى ، إذ كانت فكرة الحج فيها شائعة ، وأديرتها بالمؤمنين مكتظّة ، وكاتدرائياتها المُنشأة حديثاً مزدهرة . وطالما كانت فكرة الخطيئة سائدة عند الناس ، لذا فإن وعد البابا أوربان الثاني الى المؤمنين في المغفرة من عواقب آثامهم ، كان ذلك مطلباً وامنية لدى الكثيرين منهم . بكل تأكيد ، فقد كانت الكنيسة تتغاضى عن بعض المظاهر في الخروج عن قواعد الحروب أو السلوكيات الخاطئة الأخرى التي تحصل ، وتعدّها واحدة من أساليب التحرر، و تبررها كأهداف عادلة ومشروعة .
قام البابا أوربان الثاني في جولة من المواعظ في فرنسا خلال يونيو/ حزيران 1095 م لتجنيد الصليبيين ، حيث كانت رسالته مفعمة بالحكايات والأحداث المبالغ بها ، وهذا مقطع منها :
" في تلك اللحظة بالذات ، فإن المقدّسات المسيحية تُدنّس! ، ويتعّرض المؤمنون المسيحيون للاضطهاد والتعذيب مع إفلات الجناة من العقاب ! ".
عَمِد البابا على إرسال المندوبين والرسائل إلى جميع أنحاء العالم المسيحي . كانت الكنائس الرئيسية مثل تلك الموجودة في ليموج ، و أنجيه ، و تورز، بمثابة مراكز للتطوع ، واتبع هذا النهج العديد من الكنائس الريفية وخاصة الأديرة والأماكن البعيدة ، ومن خلاله تجمّع المحاربون من جميع أنحاء أوروبا عام 1096م ، استعداداً لتحرير أورشليم والأراضي المقدّسة .

ثالثاً ـ التجّار
على الرغم من أن التجّار لم يشاركوا بكثافة عالية في الحملة الصليبية الأولى ، لكنّ حضورهم أصبح كبيراً منذ عام 1200 م ، حين كانت نواياهم متجهة في فتح طرق التجارة الواسعة على مصراعيها مع الشرق ، وكذلك السيطرة على مراكز التجارة المزدهرة في أنطاكية وأورشليم ، وتمكنهم من جني أرباح وفيرة جداً من جرّاء نقل المتطوعين الصليبيين الجدد عبر البحر الأبيض المتوسط .
خلال الحملة الصليبية الثانية (1147-1149 م) ، تم عقد اتفاقيات وعقود ، كسب منها التجار أرباح خيالية ، لنقل جيوش المتطوعين الى الشرق . كانت المنافسة المشتعلة بين التجار قد بلغت أوجّها عند البلدات التجارية الإيطالية في فينيسيا ، بيزا ، وجنوا ، وكذلك مرسيليا في فرنسا ، وأن كل مجموعة من التجار في تلك المناطق حرصت على احتكار النقل والتجارة بين الشرق والغرب. ومع ذلك ، يجب أن نضع في الحسبان ايضاً ، في أن تلك المدن برز منها الكثير من التجار المتعصبين دينياً ، و المتحمسين للقتال من أجل القضية المسيحية ، وليس فقط من أجل المال .

رابعاً ـ الفرسان الأوروبيون
في حلول القرن الحادي عشر ، أصبحت ظاهرة عسكرة المجتمع الأوروبي في القرون الوسطى متزايدة . إذ لم يكن لدى الحكومات المركزية الوسائل المتاحة للسيطرة على كل جزء من أراضيها . أما حكّام الأقاليم ، فقد كانوا من كبار ملاّكي الأراضي الإقطاعيين ، وكذلك من البارونات الذين لديهم القلاع المحصّنة وقوات كبيرة من الفرسان للدفاع عنهم .
لقد انضّم الفرسان ، شأنهم في ذلك شأن الملوك والأمراء إلى الحملات الصليبية تلبية لنداء الدين ، أو طمعاً في نيل الحياة الثانية عند الآخرة ، أو لربما الإمتثال للأوامر الدينية العليا في حماية المسيحيين والمواقع المسيحية من الكفّار .
لابد من الإشارة إلى أنه لم تكن هناك كراهية دينية أو عنصرية كبيرة متوقعة ضد المسلمين الذين احتلّوا الأراضي المقدسة ، بل كانت تلك الكراهية محدودة جداً ، على الرغم من أن رجال الدين المسيحيين استخدموا مختلف وسائل الدعاية المتوفرة والمتاحة لهم ، وذلك عندما قاموا بنشر خطابات التحريض ضد المسلمين في جميع أنحاء أوروبا ، ولكن في حقيقة الأمر، كان الإسلام عقيدة غير معروفة تماماً بين مواطني أوروبا ، و مما يعني أنّ أيّ وصف يُطلق على المسلمين لا قيمة له عند مواطنيها . يعدّ المسلمون العدو الأكبر بالنسبة لرجال الكنيسة ، لأنهم اغتصبوا مواقع مسيحية مقدّسة يجنون منها فوائد مادية كبيرة ، وليس لأنهم مسلمين ، حسبما كتب المؤرخ م . بول في المقطع التالي والذي ذكره الباحث رايلي سميث في كتابه (تاريخ الحملات الصليبية ):
" يقود الفهم العام عن الحملات الصليبية في الوقت الحاضر ، الى التفكير حول الصراع الكبير بين الديانات التي يغذيها التعصب الديني . ويرتبط هذا التصور بالحساسيات الحاصلة الآن حول التمايز الديني ، وبنفس الوقت كان للحملات صدى وردود أفعال بعيدة المدى والتي من سببها الصراعات السياسية الحالية في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى من العالم . لكن هذه النظرة نحتاج بأن نرفضها على الأقل فيما يتعلق بالحملات الصليبية المبكرة ." (رايلي سميث ، ص18)
كان طموح الفرسان والقادة العسكريين ، هو الحصول على الغنائم من الثروات والأراضي وربما حتى على الألقاب والرتب العالية بعد نهاية الحرب . لذا كان من الضروري بيع الأراضي والممتلكات الثمينة التي في حوزتهم لتغطية نفقاتهم في الحملة على الشرق ، على اعتبار ، لابد من أنّ هناك تضحية مالية كبيرة يجب أن تتم في البداية . من جانب آخر كانت الأديرة والكنائس تقوم بمهام منح الأموال مقابل رهن الممتلكات والأشياء الثمينة الخاصة الى الفرسان الراغبين والذين ليس لديهم ما يكفي لرحلتهم . كانت هناك أيضا فكرة الفروسية - أي أن على الفارس أن يفعل الشيء الصحيح ، والمطلوب منه أن يحمي ليس فقط كنيسته وعقيدته ، بل الناس الضعفاء والمضطهدين أيضاً .
في القرن الحادي عشر الميلادي ، كان قانون الفروسية لا يزال في بدايته ، وتركيزه في الدرجة الأولى على موضوع الدعم بالأسلحة المتنوعة وقيادة الفصائل . وبالتالي فإن دور الفرسان في حسم المعارك ، يعدّ حافزاً كبيراً لهم في الإنضمام إلى الحملة الصليبية الأولى .
ان الكثير من الفرسان كانوا مُرغمين على المشاركة في المعارك والحملات العسكرية ، بسبب تبعيتهم لأسيادهم سواء كانوا بارونات أم لوردات ، وان مشاركتهم ، هي جزء من الخدمة التي يؤدونها لكسب قوتهم . من الناحية الفنية ، كان الصليبيون متطوعين ، ولكن كيف يمكن لفارس أن يتخيل نفسه مرابطاً في المنزل ، أو الجلوس قرب موقد تدفئة هذا القصر او تلك القلعة ، بينما الآخرون يواصلون رحلتهم العسيرة إلى الشرق ؟ . لم يكن هذا خياراً عملياً ابداً لفرسان مطلوبون الى الخدمة. علاوة على ذلك ، فإن العديد منهم قد لحقوا آباءهم و إخوانهم أو اقاربهم ، وانضمّوا الى الحملة مجبرين ، بسبب قوة روابط القرابة والحماية المتبادلة بين العائلات الأوروبية آنذاك . مع استمرار الحروب الصليبية ، وعلى ضوء عادات و تقاليد العائلات ، فمن المتوقع بأن تكون هناك مشاركة لشخص واحد من كل عائلة على الأقل ومن جميع الأجيال طيلة فترة الحروب الصليبية .

خامساً ـ المتطوعون من عامة الشعب
الى جانب الفرسان ، كانت فكرة الحرب الصليبية تستهوي الكثير من جنود المشاة والرماة وحاملو الدروع ، وجميع المقاتلين الذين لا يحتاجون دعما ميدانياً من وحدات سلاح الفرسان أثناء الحملة .
كانت المطالب التعبوية التي نادى بها الزعماء المسيحيون أثناء التحشيد للحملة الصليبية والتي نالت إعجاب وحماس المواطنين من الرجال والنساء على حدّ سواء ، تتضح من خلال أحداث مهمة قد حصلت ، مثل إنشاء ما يسمى (جيش الشعب ) وفي الكثير من الأحيان ما يشار إليه بـ (الحشود الشعبية ) بقيادة الداعية (بيتر هرميت ) الذي جمع أعداد كبيرة من المتطوعين والمتطوعات ، ثم وصل بهم إلى القسطنطينية عام 1096 م . بعد ذلك انتقلوا على الفور إلى مناطق آسيا الصغرى بأوامر صادرة من الملك أليكسيوس الأول ، متجاهلاً النصيحة البيزنطية بعدم المجازفة بجيش لا يملك خبرة قتالية كافية لخوض غمار الحروب ، وقد حدث ما كان متوقعاً ، فقد نُصبت كمائن مميتة للجيش الضعيف والمهلهل ، وسحقه عن بكرة أبيه بالقرب من نيقية على يد الجيش السلجوقي في 21 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1096 م .
عادة ما كان الصليبيون يحملون شارة الصليب على أرديتهم في جانب الكتف ، وهي تعني بالنسبة لحاملها الهيبة والشرف في (حمل الصليب) ، بيد ان هناك الكثير من الفوائد والمزايا التي حصل عليها القلة من المواطنين البسطاء المتطوعين من جرّاء قيام تلك الحملات ، ومن المحتمل قد حدث هذا في القرن الثالث عشر الميلادي . وشملت تلك المنافع ، تأجيل التوقيت في الخدمة الإقطاعية ( العمل المجاني لدى الملاكين نظير ديون وفوائد في ذمة الشخص لا يقدر على سدادها ) ، وكذلك ، التسريع في انجاز الدعاوى القضائية المتعلقة قبيل المغادرة ، وايضا الإعفاء من بعض الضرائب والرسوم المترتبة ، وتأجيل سداد الديون ، وحتى التأجيل أو الترّيث في حالات النفي و الطرد ، وغيرها من المزايا الممكن الحصول عليها .

الخاتمة
يشير المؤرّخ (كريستوفر . تيرمان ) في كتابه (حرب الإله ) :
" منذ عام 1095 م وحتى نهاية القرون الوسطى - كانت هناك عاصفة شديدة من الغضب الأخلاقي ، والمكاسب الشخصية ، والدعاية السياسية الدينية المؤسساتية ، وضغوط الفرقاء ، والفروقات المجتمعية ، والعطش الى المغامرة ، التي ألهمت جميعها عقول الناس وأدّت بهم إلى مغادرة منازلهم والشروع في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى وجهة لا يعرفون عنها شيئاً ، وحتى أنهم يجهلون ، أين سيجتمعون في ساحات الوغى أم يقعون في براثن الموت ؟. كانت الحماسة لا يبددها شيء بغضّ النظر عن النتائج سواء كانت الحملة ستحقق أهدافها ، أم لم تحققها " .
لكن نجاح الحملة الصليبية الأولى واستعادة أورشليم في 15 يوليو 1099 م ، قد ألهم المزيد من الناس في التفكير بـ (حمل الصليب) والتمسك في العقيدة المسيحية ورموزها .
انتشرت فكرة الصليبية وتوسعت ، ولكنها كانت دافعاً قوياً في فرض الإرادات ، متمثلة في تحرير إسبانيا ، ومهاجمة أهداف معينة ، كالأقليّات والمكوّنات الصغيرة في أوروبا ، مثل اليهود و الوثنيين والملحدين والعلمانيين والهراطقة . في تلك الفترة كان الفساد قد بدأ ينتشر شيئاً فشيئاً ، وبرزت ظاهرة التصفيات الجسدية للشخصيات السياسية الوطنية والعلمية والثقافية ، وكَثر الجواسيس والخونة ، و شاع تدبير المؤامرات ، وبعد صدور أوامر الى الفرسان للدفاع عن المناطق المحررة في الشرق ، اخذ التنافس والإقتتال على أشدّه بين الفرسان الموالين لأسيادهم الملاّكين والبارونات من جهة ، ورجال الدين من جهة أخرى بدافع نيل المكاسب ، وفُرضت زيادات كبيرة على الضرائب المتنوعة بشكل مستمر لتمويل الحروب الصليبية المتعاقبة . هذه الأسباب وغيرها التي جعلت رسّامو الخرائط ينشغلون في تعديل وتصحيح خرائطهم باستمرار خلال القرون الأربعة التي تلت الحملة الصليبية الاولى ، وعلى الرغم من جميع التضحيات البشرية والمادية الكبيرة التي بُذلت ، فإن الحروب الصليبية لم تحقق أهدافها على المدى البعيد …

ــــــــــــــــــــــــــــ
توماس اسبريدج ـ الحملات الصليبية ـ ايسكو للنشر ـ 2011 .
تيموثي اي . غريغوري ـ تاريخ بيزنطة ـ إيلي ـ بلاكويل للنشر ـ 2010 .
جوناثان فيليبس ـ الحروب الصليبية ( 1095-1204م ) ـ روتليدج للنشر ـ 2014 .
رايلي سميث ـ تاريخ الحملات الصليبية ـ جامعة اكسفورد للطباعة والنشر ـ 1995 .
جون روسر ـ القاموس التاريخي للبيزنطية ـ سكيركرو للنشر ـ 2001 .
ستيفن رانسيمان ـ تاريخ الحملة الصليبية الأولى ـ بنجن للنشر ـ 2016 .
جوناثان شيبرد ـ الإمبراطورية البيزنطية ـ جامعة كامبريدج للنشر ـ 2009 .
كريستوفر تيرمان ـ حرب الإله ـ بلكناب للنشر ـ 2009 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل