الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض العود الأبدي لدى زينون الرواقي

هيبت بافي حلبجة

2019 / 8 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يحتسب زينون الرواقي ( الكيتيومي ) بحق المؤسس الأول لفلسفة وأفكار المدرسة الرواقية التي إعتقد البعض ، خطاٌ ، إنها مدرسة إنتقائية توافقية ، بمعنى إنها تنتقي من هنا وهناك وتوافق مابين هذه الإطروحات وتلك الأفكار ، وهذا مردود على أصحابها ، لإنها إستأثرت بأفكار تخص الإرتساق النسقي الفعلي لفلسفتها ، كالعود الأبدي وتعاقب العوالم ، التمثل ( الإنطباع ) ، العلاقة مابين النفس والجسد ، مفهوم المادي للإله ، الوعي الكوني ، الحتمية ومحتوى الحرية .
وهذا النسق الإرتساقي ، لدى زينون ، يتمثل في الطابع البدءي لأفكاره من خلال إطروحات إرتقت فلسفياٌ إلى مستوى متقدم في المحتوى وفي الفكر ، بل أكاد أن أجزم إن قسماٌ من رؤيته االفلسفية تجاوز إلى حد ما بعضاٌ من الفلاسفة ممن أتوا بعده :
أولاٌ : ينطلق زينون من فكرة إن هذا الكون ، هذا الفضاء ، هذا المجال ، هو من حيث العدد واحد ، وكمعطى وجودي هو موجود واحد ، وكحيثية تكوينية هو الكينونة ذاتها والكائنية نفسها ، أي نحن في الحقيقة إزاء إحادية الكون من حيث النشوء ، ومن حيث الوجود ، ومن حيث تفسخ العوالم ، ومن هنا تحديداٌ فإن التعبير الأدق هو إن الكون هو الكون وهو هو ، وأما الوجود فهو الكون .
ثانياٌ : على نفس القياس ، بما إن الكون هو هذا الكون كما هو ، فلامناص من أن يكون أزلياٌ لإن الأزلية هي فكرة وجود الكون من جهة لامخلوقية ولا خالقية ، ولابعدية ولاقبلية ، ولاتصادفية ، كما لابد أن يكون أبدياٌ ، فالأبدية هي فكرة وجود الكون من جهة لافناء ولاتبعثر ، ولاضياع ولاتلاشي ، فالأزلية والأبدية ليستا خصائص الكون إنما هي طبيعة الكون ، وهذا هو تفسير تعاقب العوالم ( العود الأبدي )ضمن الكون ، لذلك فإن الفلسفة الإسلامية عندما تؤكد على مبدأ إن الله عزوجل ( إله الإسلام ) هو أزلي وأبدي بمعنى إنها من خصائص الله ( جل وعز ) فإنهم ينفون بالقطع وجود الوجود ، وكذلك وجود الله .
ثالثاٌ : على نفس القياس ، بما إن الكون هو هذا الكون كما هو ، فلامندوحة من فكرة إبعاد أي تأثير خارجي عليه ، سواء من كل ماهو غيبي ميتافيزيقي ، أو من كل ماهو روحاني رباني ، أو من كل ماهو إلهي سماوي ، وبإضطراد إستنتاجي ، فلاوجود أصلاٌ لتلك الأطراف ، أي إن زينون أبعد كلياٌ وجود كل ماهو غيبي ميتافيزيقي ، روحاني رباني ، إلهي سماوي . ومن هنا تحديدأ أنكر زينون وجود المثل الإفلاطونية ، وأنكر أيضاٌ وجود الأفكار الفطرية المسبقة .
إلى ذلك ، أدرك زينون إن هذه المقدمات الثلاثة الأولية تفضي ، بشيء من الضرورة ، إلى ثلاثة مقدمات أخرى أكثر دقة من الزاوية الفلسفية وهي :
رابعاٌ : إن كل الأشياء في الكون هي مادية ، والكون كما هو هو مادي ، والنفس الجهة المقابلة للجسد الإنساني والتي تؤثر فيه من حيث وظيفتها هي مادية ، والعقل الذي يتبدى من خلال مفهوم النار الأزلية هو مادي ، والإله إن وجد لايمكن أن يكون إلا مادياٌ ، لذلك هو عندما يتحدث عن زيوس كبير الآلهة لدى الإغريق هو يتحدث عن القيمة الرمزية التي تضفى إليه .
خامساٌ : إن زينون ينبذ فكرة الثنائية في الكون ، فأحادية الكون هي أحادية حقيقية ، أحادية شاملة كاملة ، تشمل النفس والروح والعقل والإله ، أي لاتوجد ثنائية النفس والجسد كطبيعتين متفارقتين إنما هو يفارق بينهما من ناحية الوظيفة فقط ، ولاتوجد ثنائية الروح والطبيعة ، فالروح هي جزء من الطبيعة ينتمي إليها من حيث النشوء ومن حيث الطبيعة ومن حيث الوظيفة ، ولاتوجد ثنائية الأضداد بالقطع ، أي إن الكون هو وحدة في أحاديته ، ولاشيء آخر غير الكون .
سادساٌ : وبما إن زينون ينطلق من فكرة أحادية الكون تبعاٌ لمفهوم الكون هو هو ، فإن الوجود يستمد مدلوله من دالته أي من دالة الكون ، ولكي يتطابق مدلول الوجود مع دالة الكون ـ وهذه حالة خاصة تصح لدى زينون ـ ينبغي على هذه الأخيرة أن يحول مدلوله إلى دالة الوجود ( فالكون هو هو ، هو في ذاته ، والوجود هو الكون ) ، وهذا يفضي إلى إستنتاج جوهري وهو إن لاوجود لأي حيز لمبدأ التناقض ، لا مابين الكون والوجود ، ولا مابينهما وبين العالم ( سنرى لاحقاٌ ) ، ولا مابين الأشياء في العالم ، ولامابين القوانين والأحكام الثابتة في ثلاثية الكون والوجود والعالم .
وإذا ما أدركنا عمق هذه القضايا كما هي ، فبمقدورنا أن نحدد الأبعاد الفعلية لفكر زينون الفلسفي ، وبالتالي تصوراته الحقيقية ، ومدى الوئام والتناغي فيما بينها :
التصور الأول : إن كل ماهو مدرك ( بفتح الراء ) هو هو ، وهو الأيين ( فعل الكون باللغة الكوردية ) ، وهو الأيست ( فعل الوجود باللغة الكوردية ) ، وكل ما ليس مدركاٌ ليس ، وكل ماهو موجود هو مدرك ، وكل ما لا يوجد لايدرك ، وكل ماهو محسوس هو يدرك ، وكل ما هو غير محسوس لايدرك ، وكل ماهو مادي هو يحس ، وكل ما هو غير مادي لايحس ، ( كل شيء أتى ونشأ من مبدأ ماهو مادي ) و( كل شيء موجود هو مادي ، وما لا يحس أي لايدركه الحواس هو لاشيء ) و ( هو لايعرف ـ بضم الياء ـ لإنه غير موجود ) ، وهذا هو أساس رؤيته في الوجود أولأ ، وفي المعرفة الحقة ثانيأ ، وفي فحوى الفضيلة ثالثاٌ .
التصور الثاني : إن العالم ، ضمن ثلاثية الكون أولأ ثم الوجود ثم العالم ، خاضع بالضرورة لقوانين وقواعد وأحكام مسبقة ثابتة أبدية ، و يصبو حتماٌ إلى غائية تتطابق بالمطلق مع تلك القوانين ، ويلتزم بقضيتين جوهريتين ، مبدأ الحتمية ، ومبدأ العلة والمعلول ، وهنا لامجال لأي عشوائية ، أو إمكانية لأي أنحياز ، أو مكان لأي سلوك إنحرافي ، وهنا لامحيص من إبداء عدة ملاحظات لتوضيح المبتغى ، الملاحظة الأولى : يعتقد البعض خطاٌ إن مبدأ الحتمية يلغي ويصادر إرادة البشر ويلجم حريته ، والأمر على خلاف ذلك ، فالحتمية هنا حتمية السيرورة في ذاتها و لذاتها ، في ذاتها فيما يخص الطبيعة ، ولذاتها فيما يخص عموم البشر أي إفهوم الإنسان ، وليس لها علاقة بمبدأ الجبرية ، والمفارقة بينهما قاتلة ، فالأولى تخص العالم كله كمفهوم تابع للكون وللوجود ، والثانية تخص سلوكية الإنسان الفرد ، وهي التي تصادر إرادة وحرية هذا الفرد ، والملاحظة الثانية : يخلط بعضهم مابين مبدأين ، العلة والمعلول ، والسببية ، فالمبدأ الأول يعني إن الشيء الأول هو علة وجود الشيء الثاني ، والمبدأ الثاني يهتم بسبب تحول الشيء الأول إلى الشيء الثاني .
التصور الثالث : إن العالم ، ضمن ثلاثية الكون أولأ ثم الوجود ثم العالم ، يتفسخ ويتولد من جديد ، ويتفسخ و يتولد مرة أخرى ، في دورة مستمرة أبدية غير متقطعة ولامنقطعة ، في سيرورة متكافئة متناغية مع تلك القوانين الأبدية ، في تكامل حتمي مع تلك الغائية ، وهذا هو تعاقب العوالم ، وهذا هو مفهوم العود الأبدي ، وكإن التاريخ ( العالم ) يكرر أو يستنسخ أو يجدد ذاته بذاته ولذاته وليس لذات الآخروي على الإطلاق ، وهذا المفهوم مرتبط بنيوياٌ وبالضرورة بوعي الضرورة ، أي بالعقل الواعي للتاريخ ـ إستخدام مغالط لزينون ـ أي في الفعل مرتبط بالعقل الواعي للكون ، وفي علاقة هذا الأخير بثلاثية الكون والوجود والعالم ، وفي علاقته بمفهوم النار الأزلية ( سنرى لاحقاٌ ) . وينبغي أن ندرك من خلال مفهوم وعي الضرورة ثلاثة قضايا أساسية ، الأولى إن وعي الضرورة هو إدراك وتحقيق لتلك الغائية ولتلك القوانين الثابتة والأبدية ، والثانية إنه محصور في مفهوم ( إن ما هو مدرك هو محسوس ، وإن ماهو محسوس هو مادي ) ، والثالثة وهي الأهم إنه وعي النار الأزلية .
التصور الرابع : أنطلق زينون في تصوره هذا من مبدأ ( طبيعة الإنسان العاقلة ) ، وهذه الطبيعة ينبغي أن تدرك ( بضم الياء ) في مفهومين ، الأول في مفهوم العقل الذي تحول فيما بعد إلى العقل الواعي للكون ، والثاني في مفهوم ومحتوى أصل الكون ، وفي تلك الفترة الزمنية كانت العناصر الأربعة النار ، الهواء ، الماء ، التراب تتبادل فيما بينها لدى الفلسفة الهيلينية في عملية تفسير أصل الكون ، ولما رأى زينون إن هراقليطس قد أرتى النار من بين تلك العناصر ، فآمن بإطروحات هراقليطس بهذا الصدد ، ومن ثم منحها ، أي النار ، المفهوم الخاص به ، وطابق بالمطلق مابين هذا المفهوم وكل تصوراته الفلسفية ، فالنار ، إذن ، من جهة هي أساس نشوء أصل كل شيء في الكون ، الكون ، الوجود ، العالم ، والأشياء ، ومن جهة هي مادية ولذلك كانت الأشياء كلها مادية ، إذ لايعقل أن يتولد من المادي إلا ماهو مادي (مع ملاحظة إننا نستخدم ، كما لاحظتم ، الصفة المادية للأشياء ولانستخدم المصدر الإسمي أي المادة لكوننا نعتقد إن زينون قد منح المادية للأشياء من خلال مادية النار وليس النار المادية ، أي النار أولاٌ ثم ماديتها ، وليس المادة أولاٌ ثم النار ) ، ومن جهة هي أساس الطبيعة العاقلة ومصدر تلك الغائية وتلك القوانين والأحكام ، ومن جهة رابعة هي مصدر النار الحالية والعناصر الثلاثة الأخرى ، ومن جهة خامسة هي زيوس كرمز إلهي .
والآن لابد أن ننتقد ونقيم هذه الإطروحات من خلال المآخذ التالية :
المأخذ الأول : إن مفهوم العود الأبدي وتعاقب العوالم مفهوم تصوري بحت ، مفهوم إعتمد ، في أفضل تصوراته ، على التفسخ والولادة في المجال المرئي ، الفكرة التي لاتدل إطلاقاٌ على مفهوم تعاقب العوالم لإن القياس هنا ليس قياساٌ حقيقياٌ ، فتعاقب العوالم ، حسب ظاهرة التفسخ والولادة نفسها ، ينبغي أن يتولد من القديم ، فالجديد الذي نراه هو القدبم المتفسخ ، أي إن الولادة هي من ... إلى ... في حين إن تعاقب العوالم هي تحديدأ ليس من ... إلى ... لإن التعاقب هنا هو تجديد الذات كلياٌ بعد فناء الذات الأولى ، وهو ، على الأصح ، نشوء من جديد ، هذا من جهة ومن جهة أخرى ، إن ظاهرة التفسخ والولادة هي فيها ومنها وإليها ، أما تعاقب العوالم فهي مقرونة تحديداٌ بالنار الأزلية .
المأخذ الثاني : إن مفهوم العود الأبدي وتعاقب العوالم ليس حقيقياٌ ، لإنه يستنسخ ذاته ، لإنه تكرار للذات ، وهو يتشابه من بعيد مع ظاهرة التفسخ والولادة ، فهو ينتقل من ذاته إلى ذاته ، من ذاته القديمة إلى ذاته القديمة ، من العالم رقم واحد إلى العالم رقم واحد ، وليس من حالة إلى حالة أخرى ، كما إنه لايرتقي من حالة إلى حالة ، ولايسمو .
المأخذ الثالث : إن مفهوم العود الأبدي وتعاقب العوالم لايعتمد على المحتوى الفعلي للتجربة البشرية ، ولايعير أي إهتمام للأحداث ولا لنوعيتها ، ولا للصراع ولا للتصارع ، إنما يعتمد ، في أفضل تساوقيته ، على مضمون الوجود البشري العام والمجرد والفارغ من أي محتوى .
المأخذ الرابع : إن الحتمية في تعاقب العوالم هي حتمية آلية وميكانيكية ، لا تمنح القيمة الموضوعية لمفهوم الغائية التي تتحول بدورها إلى غائية سلبية وشكلية ، كما إن العلاقة مابين الحتمية والغائية هي علاقة قسرية ، بل إعتباطية ، حتى إن مبداٌ السيرورة في هذه العلاقة هو مبدأ لاوظيفة له ، ناهيكم عن الغياب المطلق لمبدأ الصيرورة فيها ، هذا من جهة ومن جهة أخرى ، فإن مفهوم الغائية في قضية العود الأبدي ، كونه تصور جاهز يخص النهاية فقط ، لايستطيع أن يمنح لمفهوم الحتمية أي قيمة موضوعية ، ومن جهة ثالثة فإن مفهوم الغائية بهذا الشكل يلغي أي قيمة حقيقية لمفهوم الإنتقال من العالم الأول إلى العالم الثاني ( الأول ) أو إلى العالم الثالث ( الأول) ، فعدد العوالم هنا هي مجرد أرقام لاحقيقة فعلية .
المأخذ الخامس : إن أي حتمية تفترض ضرورتها ، وهذه الضرورة تفترض ضرورة أخرى هي ضرورة الغائية ، وإلا لكانت ضرورة عبثية وهذه ليست ضرورة ، وضرورة الغائية تفترض ضرورة أخرى وهي ضرورة وعي الضرورة ، وإلا لكانت ضرورة آلية وهذه ليست ضرورة ، أي إن كل حتمية هي مرتبطة بنيويأ بوعي ضرورتها ، وهذا منقوض لدى زينون في الآتي ، أولاٌ إن الحتمية هنا بذاتها آلية وشكلية ، ثانياٌ إن تعاقب العوالم هو تكرار للذات ، ثالثاٌ إن وعي الضرورة يفترض حالة جدية وحقيقية من الإنتقال ، وهذا غير متوفر في تعاقب العوالم لدى زينون . وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والسبعين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح