الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
العود الأبدي ديانة مشركة وميتافيزيقا مادية ؟بعض التساؤلات حول قراءة كارل لوفيث وقانون العود الأبدي
الحسن علاج
2019 / 8 / 21الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
العود الأبـــــــــدي
ديانة مشركة وميتافيزيقا مادية ؟
بعض التساؤلات حول قراءة كارل لوفيث للعود الأبدي
تنظيم الفكر النيتشوي بحسب كارل لوفيث وقانون العود الأبدي
باتريك فوتلينغ
ترجمة : الحسن علاج
لعل ما يميز كارل لوفيث Karl Lovith) ( ، من بين قراء نيتشه ، هو أنه يعتبر واحدا من الشراح القلائل ، الذين انشغلوا تحديدا بتماسك التفكير النيتشوي ، والتساؤل حول صيغة التنظيم الداخلي لفكره . إن أحد الأفضال الكبرى لعمله ، يرتبط بالتأكيد برفض مزدوج : رفض الانصياع للرغبة المألوفة جدا لمقاربة المتن النيتشوي ، اعتمادا على شبكة قراءة مشكلة مُقدما ، كانت ستفرض عليه ، على وجه الاحتمال ، عقلنة خارجية ؛ على أنه أيضا رفض التقيد بمماثلة الحكمي بالحماسي ، وحتى بالمفكك ، ومن ثم فكرة نسق ، وحتى بالمفكك ومن ثم فكرة نسق من جوامع الكلم الذي ينبري لوفيث بالدفاع عنه .
ففي هذا المجال يعتبر بالنسبة إلينا مجالا غاية في الخصوبة ، بغاية إقامة حوار معه . وبالفعل فإن المطالبة بالتماسك أشد ما تكون حاضرة لدى نيتشه ، ثم إن نقد أشكال التنظيم العام ، التي تمت ممارستها بشكل أكثر شيوعا من قبل التقليد الفلسفي ، لا تعني إطلاقا المنافحة عن المفكك .
الأصالة الثانية لكارل لوفيث ترتبط بمحاولته العثور على مفتاح ذلك التماسك ، الذي نادرا ما تمت مساءلته ، ضمن الدور المركزي الذي سوف يلعبه فكر العود الأبدي ؛ وفي واقع الحال ، فإن لوفيث يرجع الوظيفة ال" مُوحِّدة " وحتى الشبه نسقية لتفكير نيتشه ، إلى " فكر الأفكار" : مما لا جدال فيه أن كتاباته تتكون من أقوال مأثورة aphorisme) ( متطورة إجمالا ، فهو يملك مشاريع إجمالية ، تضم كل الشذرات ، وهذا بالضبط لأنها تطمح ثم إن التأويل النسقي وحقيقة حتى العدول عنه : مذهب العود الأبدي . ففي مذهب العود الأبدي ـ تجربته النهائية ـ فقط ، تمكن مجموع تلاحق تجاربه من الانصهار ، عبر منطق نسق ، في " مذهب " 1 ".
إذا كان مذهب العود الأبدي يبنين ، كما يقر لوفيث بذلك ، بدقة مجموع فكر نيتشه ، ومع ذلك ، فإن ذلك المذهب المبنين ، يطرح للشارح مشكلة عويصة للتنظيم الداخلي : ترتبط الصعوبة بتعدد صيغ تقديم المذهب ، ذات طبيعة جد مختلفة في كل مرة يفقد فيها المرء الأمل بإيجاد وحدة حقيقية ، وحتى ربما شكلا للتماسك . ينبغي الاعتراف بأن كارل لوفيث ، بدون منازع ، له فضل مواجهة تلك الصعوبة دون أن يجد لها حلا ، بشكل متصنع ، عبر استبعاد غير متوقع ، على وجه التقريب ، لواحدة من تلك المسودات المنافسة . تبذل الفلسفة النيتشوية للعود الأبدي للمثيل قصارى جهدها من أجل جرد أنماط الخطاب التي يتم عبرها ، وصف أو نقل فكر العود الأبدي . وحول تلك النقطة ، أصالة جديدة ، يقترح كارل لوفيث قراءة مركبة نسبيا ، تنفصل بشكل واضح جدا عن الترجمة الشارحة التي لا يزال تفوقها يتوسع حتى الوقت الراهن .
في الواقع ، في حين أن أغلبية المعلقين تعارض تقديما ذا خاصية أخلاقية ( العود الأبدي ك" فكر تهذيبي " ) بتقديم ذي ميزة علمية ( العود الأبدي كمذهب كوني ) ، يبتدئ لوفيث بتمييز الخطاب الشعري عن الخطاب النظري مثل قوى موجهة أساسية . إن التقديم الشعري للعود الأبدي هو ذلك [ التقديم ] الذي تمنحه خطابات زرادشت في هكذا تكلم زرادشت : بمعنى تقديم بواسطة المحكيات الاستعارية paraboles) ( ، لكنه ليس تقديما لشيء آخر من خلال المحكي الاستعاري . ففي هذا الخطاب ذي الوضع الأصلي ، يمتزج الكلام مع موضوعه ، الكينونة . الكينونة ذاتها تصبح كلمة verbe) ( ، وهذا يفترض بالنسبة للوفيث أن ديونيزوس هو من يتكلم من خلال نيتشه . تقود تلك القراءة لوفيث إلى المعضلة التالية : هل يعتبر نيتشه في الحقيقة تجسيدا للإله ، أو ببساطة الممثل الهزلي لمثاله 2 ؟
بمناسبة العمل الحالي ، سوف لن ننشغل بالمظهر الأول لعقيدة العود الأبدي ؛ سوف نكتفي بالإشارة إلى أن فهمها [العقيدة] يفترض توضيحا سابقا لقانون الخطاب الشعري كما يفهمه نيتشه ويمارسه ، لاسيما في هكذا تكلم زرادشت . لكن بالرغم من الوضع المتقدم الذي يخص به نيتشه هكذا تكلم زرادشت ، لابد من الإشارة إلى أنه لم يقتنع بذلك النقل من خلال الصورة ثم إنه ، إضافة إلى ذلك ، شعر بالحاجة إلى ابتكار شكل آخر لتقديم فكر الأفكار ، شكل نظري غارق في الكلاسيكية ، أو مثلما قال لوفيث " [شكل] تجريدي " . فحول ذلك التأويل الثاني لمذهب العود الأبدي سوف نجنح إليه بشكل خاص جدا .
إن السمة الرئيسة للتقديم الثاني هو غياب الوحدة . وبالفعل ، فإن الخطاب النيتشوي يعتبر خطابا مزدوجا ، أو بالأحرى فهو لا يمتلك سوى وحدة ثنائية ، ومن أجل تمييز عنصري ذلك التقديم فقد استعمل كارل لوفيث الصيغ الأكثر إدهاشا لل"ديانة الملحدة " و" ميتافيزيقا مادية " :
" ينبغي أن نضع على قدم المساواة أن المحكي الاستعاري للعود الأبدي هو محكي استعاري مزدوج : فمن جهة ، [محكي استعاري ] لل" جاذبية الأخلاقية " والذي من خلاله فقد وجود الإنسان أهدافه وقع على هدف فيما وراءه ؛ ومن جهة أخرى ، " عمل " علمي : الكينونة ـ بالقرب ـ من الذات l’étre – auprès – de – soi) ( ، بدون هدف ، لعالم القوى . فهو [يقدم نفسه] مثل إثبات حقيقة عالم طبيعي ـ دون أن يكون ذلك مرغوبا فيه يمثل هذه الطريقة وليس أخرى ـ عاملا على استبدال الكوزمولوجيا القديمة بالعلم الطبيعي الحديث . إن إمكانية تحليل مزدوج ، مثل ديانة ملحدة وكميتافيزيقا طبيعية ، بين بأن المذهب في شموله هو وحدة لقسمة ، تلك التي [القسمة] توجد بين الوجود العدمي للإنسان المنفصل عن الإله والمسلَّم به الوضعي للطاقة المادية 3 . "
ساهم كارل لوفيث إذن ، في الإقرار بأن المرمى النهائي لنيتشه سوف يكون بلا قيد ولا شرط هو إعادة تشييد " الرؤية الماقبل سقراطية للعالم 4 " ، على أنه بفضل تلك النوعية تم إنجاز تلك المحاولة في صميم الحداثة الغربية ، بمعنى في قلب ثقافة توسم بميسم المرحلة النهائية للعدمية . ينتج عن ذلك في تصور لوفيث نتيجتان سوف تفسران إخفاق نيتشه الذي لا مفر منه .
بالإضافة إلى ذلك فإن ذلك التشييد ( للرؤية ما قبل السقراطية ) هو إحياء : ففيما يخص الإنسان ، فهو يسعى إلى مقاومة تقويض معنى الوجود ، فقدان معناه الناتج عن انهيار المسيحية وموت الإله .
وفيما يخص ال" كوسموس " ، فإن تلك الرؤية الماقبل سقراطية للعود الأبدي تم " تحديثها " من قبل نيتشه ، بحسب عبارات كارل لوفيث : وبهذا المعنى فهي [الرؤية] تسعى إلى الارتكاز على النظرية الفيزيائية المعاصرة ، وعلى الخصوص " في بعض الشذرات ، حول مبادئ الديناميكا الحرارية .
كان ينبغي حينئذ التحقق من الإخفاق المزدوج لمشروع نيتشه . إخفاق بادئ ذي بدء على مستوى كل اتجاه من اتجاهات التحليل ـ الديانة الملحدة والميتافيزيقا الطبيعية ـ : " ظل نيتشه خاضعا للعدمية وإلى النزعة الوضعية لعصره " ، أو مرة أخرى ، كما يؤكد لوفيث ذلك في صيغة مدهشة : " يظل نيتشه فيلسوفا هاويا ، والمؤسس الديني ، " كائنا مقاوما للمرض وإرادة القوة " 5 " .
كما يتم تسجيل إخفاق عميق جدا على مستوى تمفصل لحظتي فكر العود الأبدي : " إن مجهوداته من أجل جمع ذينك المجالين المنفصلين ولو أنهما متماسكان في عمق جديد ـ [مجال] الكمية المعادلة لطاقة العالم الحديث ، الطبيعي ، و[مجال] الطاقة العدمية للوجود الحديث ـ ، مع ربطهما في حدود الحرية الحرة ، عبر القانون المعادل على الدوام للعالم الدائري ، فإنها تظل جهودا عديمة الفائدة . يبدو أن هذا الاختيار موفق في التركيز الشعري للمحكي الاستعاري ، في حين أنه في النقاش التجريدي فإن ذلك الكل يتوحد شعريا يتفكك إلى جزءين " .
وهكذا فإن فكر العود الأبدي كان سيبدو متناقضا ، وقد ينكسر حول هذا الصراع بين الإنسان ، مع إراداته وأهدافه ، والعالم .
صعوبات قراءة كارل لوفيث : الدين الملحد
لنعتكف ، من الآن فصاعدا ، وتحديدا على برهنة كارل لوفيث ، وقبل كل شيء على التقديم ال"ديني " ، الذي لا يتردد كارل لوفيث في نعته بال" إنجيل الملحد " : بأي معنى يمكن الكلام عن " استبدال ملحد بدين " ؟ أولا ففي ذلك تم حدوث فقدان معنى الإنسان مع فقدان الثقة بالدين ، ومن ثم الدخول في العدمية ، واحتياج نيتشه إلى منح مركز ثقل جديد للحياة البشرية . وسوف يجعل هذا المعنى الحياة الفردية حياة أبدية ، مستبدلا الفكرة المسيحية عن الخلود . وهو ما يسوغ إذن للوفيث الحديث هنا عن الدين ، وهو حقيقة أن نيتشه يُعلِّم " ينبغي عليك " جديدة : فهو يستبدل ال" ينبغي عليك " الدينية القديمة ( [ينبغي عليك ] المسيحية ، بالنسبة للثقافة الأوروبية ) بال" ينبغي عليك " المنتمية إلى " أريد " ، تبعا لاصطلاح لوفيث . إن المظهر الديني ، أو الأخلاقي ـ الديني ، لذلك الوعظ كان يبدو بوضوح في الاقتضاء النيتشوي الذي يقارنه لوفيث بأمر جازم جديد 6 :التصرف بطريقة تجعل المرء يسعى إلى تكرار فعله لعدد لا حصر له من المرات ، أو إذا شئنا القول ، تبعا لصياغة مختلفة ، أن يعيش المرء كل لحظة بطريقة مشابهة ، تجعله يرغب على الدوام في عودته . يتعلق الأمر إذن بالنسبة لنيتشه ، بتعليم تأبيد الوجود البشري ، يصبح سريع الزوال تحت وقع فكر موت الإله . سوف يقترح نيتشه إدن غاية جديدة للحياة البشرية ، بعيدا عن كل إحالة على الإله : إن فكر العود الأبدي ، بحسب هذا المنظور ، يمتلك دلالة تاريخية ، ثم إن تلك الزمنية التي يعتنقها [فكر العود الأبدي] سوف تمسي في المجموع تناقضا مع الأبدية التي يطرحها المنظور الثاني ( التقديم ال" كوني " ) . يضاف إلى ذلك ، فإن " مبتغى" مستقبل ، ضرورة ابتكار الجديد متناقض مع فكرة مسار دائري للعالم . ليست الأبدية في المنظور ال" ديني " والإلحادي ، سوى هدف ، مبتغى ، وليست واقعة كما يفرضها المنظور الكوزمولوجي ، ففي سياق مشابه ، إن رغبة المرء في مجاوزة ذاته لم يعد لذلك أي معنى .
وهو السبب الذي من أجله ، في نظر كارل لوفيث ، كان نيتشه يرغب في أن يكون هراقليط ، على أنه لم يتوصل إلى ذلك حقيقة : لأنه بذل قصارى جهده لبلوغ حكمة هيراقليط ابتداء من عالم فقد أهدافه ، عالم العدمية الحديثة : كان نيتشه يرغب في أن يكون إغريقيا ( ما بعد سقراطيا) بيد أنه سوف يظل حتما حديثا 7 .
ومع ذلك فإن الجزء الأول من قراءة لوفيث يصطدم ، كما يبدو لنا ، بسلسلة صعوبات جمة، إن معاملة نيتشه مثل " مؤسس ديني " ، بحسب النص الذي سبقت الإشارة إليه ، وخاصة بالتأكيد على أن هذا المؤسس للدين يظل " كائنا مقاوما للمرض ولإرادة القوة " ، يشرح كارل لوفيث الإحالة النيتشوية إلى الدين شرحا حرفيا ، كي يرد ضده التحليل الذي يقترحه عن القس المسيحي . ثمة سلسلة نصوص لنيتشه ، والحالة هذه ، يظهر أنها تمنع مقارنة غير متوقعة جدا :
" من يتكلم في تلك الصفحات ليس " نبيا " ، و لا أي واحد من أولئك الهجُن [المركبين] من المرض وإرادة القوة الذين يطلق عليهم [صفة] " مؤسسي الدين " . [...] من يتكلم في تلك الصفحات ليس متعصبا ، لا يتم "التبشير " ، لا يتم الالتزام بال"إيمان 8 . "
تسلك النصوص الأخرى نفس الاتجاه ، وعلى الخصوص [نص] ما بعد الوفاة التالي : " هل أتكلم مثل أحد الأشخاص تحت وقع وحي ؟ إنكم لا تملكون إذن سوى احتقاري ولا تستمعون إلي ! ـ هل ستكونون مثل أولئك الذين لا يزالون في حاجة إلى آلهة ؟ ألا يشعر عقلكم بالتقزز بتغذية نفسه بطريقة مجانية جدا ، حقيرة جدا 9 ؟ "
ثانيا ، يميل لوفيث إلى قراءة العود الأبدي في ذلك السياق المحدد كإرادة لتأبيد الشخصية الفردية : لكن نصوص نيتشه لا تسلك هذا الاتجاه : على خلاف الانشغال بالكل ، بتجانسه ووحدته المتضامنة التي تعبر عن نفسها في فكر العود الأبدي : إن ابتغاء لحظة ما ، هو حتما ابتغاء الكل ـ ومن ثم الأهمية القصوى لل" حظة الرائعة " ، وذلك بحسب صيغة [كتاب] المعرفة المرحة للبرهة المثالية التي ـ لأنه يتم الرغبة في بعثها ـ تسوغ وتنقذ كلية الوجود ، ليس فقط [إنقاذ] الحياة الفردية . تميل قراءة لوفيث ، بفضول كبير ، هنا إلى تجريد ما يعمل عليه فكر الأفكار على إعادة دمجه خلافا لذلك في كلية : التضامن السرمدي للحظات الكل .
وللمرء أن يتساءل إن كان هذا التشوه لا يصدر عن الإرادة المفرطة ، لأنه من المبالغ أن نجعل من المسيحية المضادة دافعا كافيا لتفسير تحليلات نيتشه . وسوف يسعى المرء بدون أدنى أي شك إلى التساؤل ، في تلك الظروف ، إذا ما كان انتقاد المسيحية يشكل جيدا عمق إشكالية نيتشه ، أو أنها ليست مظهرا بسيطا من بين [مظاهر] أخرى لتفكيره .
هام جدا : يهمل لوفيث وبشكل خاص ، كما يبدو لنا ، مظاهر راسخة للتحليل النيتشوي للأديان : بمعنى خاصيتها التربوية ، المجددة ، لها أهمية كبرى أكثر من المسألة النظرية لحقيقة عقائدها . من الأهمية بمكان والحالة هذه ، ملاحظة أن نيتشه يؤكد بالتحديد ، في هذا المنظور ، على القوة التهذيبية والإصطفائية للعود الأبدي ، التي تحمل صفة Zuchtender Gedanke) ) ـ فكر ينتج Zuchtung) ) ، يهذب ، بالمعنى الذي يعطيه نيتشه لهذه العبارة : التكوين والتحديد التدريجي لنموذج إنسان متميز ، محدد من خلال البنية الخاصة لنسقه الغريزي . سوف تكون لنا عودة لهذه المسألة قريبا جدا .
أخيرا ، فإن لوفيث ينزع إلى تجريد النمذجة لمنظور التقديم ، ثم إنه يتجاهل الحقيقة بالغة الأهمية التي لا يخصص نيتشه تحديدا امتيازا حصريا لهذا الأخير [منظور التقديم] . على خلاف ذلك تماما ، وكما يحدث ذلك في الغالب لدى نيتشه ، فإن المقارنة مع الأديان ليست سوى جزئية ، ثم إنها توجد محددة ومستبدلة بنماذج أخرى . من أجل توضيح منطق تحليله ، وفي الواقع فإن النموذج الذي يستخدمه نيتشه يعتبر نموذجا فنيا ، كما تشهد على ذلك على سبيل المثال الشذرة الأساسية 11[165] لسنة 1881 : " إننا نرغب على الدوام في إحياء عمل فني ما ! على المرء أن يشكل حياته لدرجة أن تحدوه الرغبة نفسها أمام كل جزء من أجزائه ! ذلكم هو الفكر الجوهري ! وفي النهاية فإن مذهب التكرار لكل ما وُجد سوف يتطور ، منذ توطيد المنزع إلى ابتكار شيء ما تلك العقيدة ، يتكاثر أضعافا مضاعفة مع كثير من البأس10 ! "
إن السكر الفني ، الإحساس بالقوة المعززة التي يوجهها بحسب نيتشه النشاط الفني تنزع إلى تكرار التجربة . سوف يكون من العدل إذن الكلام هنا عن تحريض على العيش تبعا لمنطق الفن ، أو عن جعل الوجود جميلا ، بدلا من كرازة دينية بالمعنى الدقيق .
صعوبات التقديم ال"علمي " للعود الأبدي : الميتافيزيقا الطبيعية
سوف نقوم في الوقت الراهن بدراسة الجانب الآخر للعقيدة ، أعني التقديم ال"علمي " للعود الأبدي : الميتافيزيقا الطبيعية .
تطرح هذه القراءة ، بادئ ذي بدء ، مشكلة جوهرية كبيرة لم يجد لوفيث ـ بشكل غير متوقع ـ لها حلا : إنها ترتبط بإسقاط القيمة المعرفية للعلم . تظل النظريات الفيزيائية تأويلات ، إنها ليست مختلفة تماما عن التأويلات الأخرى : إن الفقرات 14 أو 22 من [كتاب] ماوراء الخير والشر لا تترك مجالا للشك بهذا الموضوع . إن فكرة إثبات الفلسفة بالعلم من وجهة نظر الحقيقة تعتبر استحالة في اصطلاحات نيتشه . تلك هي الأطروحة التي يدافع عنها لوفيث .
بعمق أكبر ، ثمة مشكلة شبيهة تطرح نفسها كذلك على العود الأبدي تعتبر مثل نظرية فيزيائية أو علمية ، نظرا للرفض الكلي لمفهوم المعرفة ، بناء على ذلك ، [رفض] مشروع المعرفة ذاته : وحتى فكرة معرفة موضوعية يتم رفضها من قبل نيتشه ، لا وجود ل" عَرَفَ " connaitre) ( أخرى إلا تأويلية ـ الشيء الذي يتناقض مع الفكرة السابقة ؛ ليست النظرية الفيزيائية ذاتها سوى تأويل ، بما أنها تتميز ، في قلب دنيا التأويلات ، بصرامتها الخارقة وانسجامها خارج المألوف . سوف يكون من الواضح جدا أن نتذكر هنا نهاية الفقرة 373 من المعرفة المرحة : الحقيقة موسيقى ـ بمعنى أنه لا يمكن اختزالها إلى إدراك علمي بحصر المعنى ، ردها إلى صيغ ثابتة مفروض أنها تعبير عن جوهر العالم ، حقيقته . ما يستدعي ذلك هو رفض المقاربة الفلسفية من وجهة نظر الحقيقة . ومن الصعب معرفة السبب الذي سوف يجعل نيتشه يتخلى فجأة عن موقف من مواقفه الأساسية للمنافحة عن موضوعية المعرفة العلمية .
من الأفضل التذكير كذلك ، من أجل تمديد هذا البحث ، أنه لا وجود بالنسبة لنيتشه لا للكينونة ، ولا لبنية الكينونة . النصوص هنا عديدة جدا ، معروفة جدا وجذرية جدا ، إذ يتم التردد في الإشارة إليها ( " لا وجود قط لوحدات أخيرة دائمة ، ولا وجود إطلاقا للذرات ، ولا المونادات : مرة أخرى يتم أولا تبني ال" كائن " من قبلنا 11 " ؛ " لقد صممنا شروطنا الخاصة للاستبقاء ، بوصفها محمولات للكينونة بشكل عام / كما ينبغي ، من أجل الازدهار ، أن تكون راسخة في اعتقادنا ، لقد خلصنا عبر ذلك إلى أن العالم " الحقيقي " ليس كائنا 12" ؛ يتذكر المرء أيضا أن [كتاب] غسق الأوثان يلغي في فكرة الكينونة تخييلا فارغا 13 ) .
باختصار ، فإن فكرة قانون الكينونة ، أو [فكرة] بنية موضوعية للكينونة لم تعد تعني شيئا بالنسبة لنيتشه . إن كل مذهب شُيِّد في ضل تلك الشروط ، الموضوعانية objectivistes) ( والأنطولوجية ، يتكشف نتاجا لتفسير يرفضه الواقع ، من وجهة نظر فيلولوجية ، مرفوض على الدوام ، بحيث يصعب إدراك كيف أن نيتشه سوف يدافع بجد عن فكرة أن العود الأبدي هو قانون الكينونة ذاته .
ختاما ، نضيف بأن الفكرة المنسوبة إلى نيتشه بتجديد صيغة فكر الحقبة ما قبل السقراطية ، تعتبر غاية قصوى في الإشكالية : لا ينبغي أن ننسى بسرعة كبيرة أن نيتشه يكرر باستمرار أن تشكلا ناكصا يعتبر مستحيلا : لا يتراجع المرء إلى الوراء ( " ما لا تتم معرفته سابقا ، ما سوف ينبغي معرفته في الوقت الراهن ـ ، نكوص ، نصف استدارة في اتجاه معين ، إلى حد ما مهما يكن ، تعتبر مستحيلة تماما 14 " ) .
يُلاحظ أن تلك القراءة تصطدم بعدد معين من الصعوبات العويصة ، بالرغم من مهارتها . من المحتمل أن كارل لوفيث ، المنشغل كثيرا بإبراز قيمة تماسك نيتشه ، قد فوت هنا متوالية لتنظيم فكر هذا الأخير ، [نيتشه] الذي يمتلك أهمية متميزة تمام التميز : وبالفعل فإن لوفيث يقرب المظاهر المختلفة لفكر العود الأبدي . وقد يكون من الممكن أكثر وفاء لنيتشه ، بمحاولة ربطها مع تنظيمها بطريقة متدرجة . إن نمطي التقديم " المجرد " اللذان طورهما لوفيث لا يتم وضعهما على نفس المستوى . وهو ما سوف نشير إليه في الوقت الراهن .
محاولة أخرى للحل :
العود الأبدي كقيمة
إن غاية نيتشه ، هي بطبيعة الحال ، غاية مقاومة فعالة ضد تمدد العدمية : وفي هذا الصدد ، فإن فكره يعتبر فكرا عمليا بكامله ؛ يكون الهدف في تلك الشروط هو تحديد القيم ال"سوية" ، لقيم الصحة ، على أنه أكثر من ذلك بكثير، تعيين السبل لجعلها تصير ، واقعيا ، مثل قيم ـ وليس جعلها موضوع تفكير فقط . إذ أن مصدر العدمية ، بالنسبة لنيتشه ، يمكن تمييزه تماما : فهو يكمن في تبني منذ الأفلاطونية ـ قيم غارقة في التناقض ، في نهاية المطاف ، مع بعضها البعض ، ثم تتلاشى ، [تبني] قيم زهدية وأخلاقية تمجد احتقار الجسد ، والوضع المتميز للعقلانية ، وبالتالي فهي تناقض الواقع الذي يعتبر قابلا للتفسير مثل اللعبة التفسيرية للغرائز وحشد الغرائز : " الاعتقاد بمقولات العقل هو مبرر العدمية 15 " . هذا هو المنطق الخاص للاعتقاد ، و[منطق] الاعتقاد الأساسي الذي هو القيمة ـ الذي ليس منطق البحث عن الحقيقة على الإطلاق ، وليس منطق البحث عن الكينونة ـ التي توجه تفكير نيتشه . فضمن هذا المنظور ، [منظور] القلب الفعلي للقيم ، يندرج فكر العود الأبدي ويتخذ معنى فلسفيا .
يجبرنا هذا المنظور على إعادة فحص وضع تقديمي فكر الأفكار وتمفصلاتهما .
لنعد ، خلال لحظة زمنية ، إلى قراءة لوفيث ، التي سوف يعمل نيتشه بحسبها على إعادة تشييد رؤية للعالم ما قبل سقراطية : يبدو لنا أن تلك الأطروحة لا ترغب في البروز إلا من أجل نيتشه ، فقد طرح المشكل فيما يخص تكافؤ القيمة ، وليس تكرار المماثل ، إذ أنه مرة أخرى ، لا يتعلق الأمر بمذاهب بقدر ما يتعلق بقيم . وبالفعل فإن الهدف الذي يسعى وراء تحقيقه ، الفيلسوف طبيب الثقافة ، هو العمل على إحداث وضع ، وبالتالي [إحداث] اتصال بالواقع ، الذي يمتلك قيمة معادلة لقيمة الثقافة التراجيدية الإغريقية ، وفقا لمنطق ما يطلق عليه نيتشه ال"خطوط المتواقتة للثقافة 16 " . إذا كان العود الأبدي حقيقة أطروحة كونية وأنطولوجية ، فلن يكتسي مشروع نيتشه أي معنى في واقع الحال : فهو يفترض أن نيتشه يعتبر نفسه خارج دورة تكرار المتماثل ! من ناحية أخرى ، فإن تمفصل صيغتي التقديم يصبح غير معقول : بما أن الفكر المهذب والانتخابي ( " الأخلاقي " أو " الديني " ) يكمن في فرض قانون ضروري بصيغة أمرية منذ الآن يحقق ( العود الأبدي كقانون لكل واقع ) . يبدو لنا أنه ينبغي أن نضيف هنا ملاحظة قاطعة ؛ سوف تكون بالضبط ضمن الحالة التي تستنكرها الفقرة 9 من ماوراء الخير والشر بخصوص الرواقية ـ ما جدوى أن نشيد وفق المبدإ ما لا مفر منه أو ما تحقق منذ الآن حاجة لا هوادة فيها ؟ ـ :
" مع افتراض أن أمرك " أن تعيش وفقا للطبيعة يعني في الأساس ، بالكاد ، " أن تعيش وفقا للحياة " ـ فكيف بكم ألا تفعلوا ذلك ؟ ماجدوى أن تطرحوا وفقا للمبدإ من تكونون وتصيرون أنتم بالضرورة 17 ؟ "
وسوف تتم محاولة الاعتراض ، على أن لوفيث كان على حق جدا ، بالدفاع عن أطروحة التناقض . غير أن نيتشه اكتشف بدقة هذا التعارض ! يعيب لوفيث على نيتشه سقوطه هو نفسه في دائرة في هذا الصدد : غير أن ثمة احتمال ضعيف ، أن نفترض هنا عمى معينا للبصيرة من قبل نيتشه ، بما أنه تتم ملاحظة ذلك ، فقد قام بكل دقة بالتنظير ، من أجل التصدي له [التعارض] بكل وضوح ، التعارض الذي يسعى لوفيث إلى معاتبته عليه !
وتجدر الإشارة إلى أن نيتشه سجل تلك الملاحظة في حالة الرواقية : إن النقطة هي على غاية من الأهمية ، بالنظر إلى أن الرواقية ، بحسب نيتشه ، ترث بعض مظاهر فكر هيراقليط ، والتي هي على ، وجه التحديد ، فكرة حب قدري . إن أطروحة التناقض مثلما دافع عنها لوفيث غير مقنعة إذن . صحيح أنه ينبغي مرة أخرى ، التساؤل كيف كان ممكنا آنذاك إعادة التفكير في التنظيم العام لذلك الفكر وتقديمه .
بما أن لوفيث نادرا مايلجأ إلى استعمال تلك النصوص ، صحيح أن نيتشه يستعمل أحيانا عبارة الدين ، كي يوحي بمعنى فكر العود الأبدي ( " ديانة الأديان ") . غير أن تلك العبارة تستعمل كصورة ، ولا تُفهم إلا بالإحالة عليها ، من خلال الطريقة التي يحلل نيتشه عبرها ، في آن واحد ، طبيعة كل دين . إن العديد من النصوص ، والحالة هذه ، تقدم لنا توضيحات تحديدا بخصوص هذا الموضوع ؛ سوف نشير إليها بشكل وجيز : الفقرة 61 من ماوراء الخير والشر أولا والتي تؤكد ما يلي :
" إن الفيلسوف كما نفهمه نحن ، نحن العقول الحرة ـ ، مثل الإنسان متقلدا مسؤولية جسيمة جدا ، المتمتع بوعي منشغل بتطوير الإنسان في مجموعه : سوف يستخدم ذلك الفيلسوف الدين من أجل عمله للتدجين وتربية الإنسان ، كما أنه سوف يلجأ إلى استخدام شروط سياسية واقتصادية في عصره . إن التأثير الذي يمكن أن يمارس بمساعدة الديانات من وجهة نظر الانتخاب ، التدجين ، بمعنى أن ثمة على الدوام هدم وابتكار وفرض لنموذج ، يعتبر [التأثير] متعددا ومتنوعا تبعا لنوع البشر الذين يتموقعون تحت سحرها وحماستها 18 . "
ثمة نص بعد الممات يعود لسنة 1885 ، يدافع عن نفس التحليل بعبارات قريبة لافتة للنظر : " تعتبر الأخلاق والأديان أداة أساسية ، تسمح بأن نفعل بالإنسان ما نشاء : بشرط أن نتوفر أولا على وفرة من القوى الخلاقة ، وأن نتمكن من إثبات إرادته المبدعة ، على فترات طويلة من الزمن ، على شكل مؤسسات قانونية وعادات 19 . "
إن ما تشير إليه تلك النصوص ، هو كون أن نيتشه يميز قبل كل شيء الديانات من منظور عملي مثل أدوات التربية وتغيير الإنسان ، مظهر لبث لوفيث أمامه فاقدا للبصيرة . يسمح ذلك التحليل بموضعة فكر العود الأبدي ، بالنسبة للبنية الداخلية للمسيرة النيتشوية ، محيلة على هذه النقطة الجوهرية : إنها الإحالة على مفهوم Zuchtung) ( ( نظرية التأثيرات الانتخابية مؤثرة على الإنسان عبر تغيير نسق القيم ) ، ومعه في عموم مشروع قلب القيم ، الذي يمنح معناه للعود الأبدي ، زد على ذلك ، أن نيتشه يدعوه zuchtender Gedanke) (20، " فكر التدجين " ، فكر يحدث تربية انتخابية ، فكر سوف يؤدي بالضرورة إلى zuchtung) ( . لذلك يجب تناوله من منظور التفكير حول الفيلسوف ـ المشرع وحول قضية تربية النوع الأعلى ، أو النوع الفوإنساني .
من أجل إيقاف تصاعد العدمية وإدخال تغيير على نوع الإنسان الحالي ، المهيمن في الثقافة الأوروبية ، لابد من الاشتغال على تغيير القيم ، إلى استبدال القيم سوف يسمح بتربية نوع إنسان على قيم سامية . يفترض هذا الطموح بشكل دقيق جدا ، باستبدال القيم النافية والعدمية للأفلاطونية بقيم إثبات . هذا هو ما يجعل قلب القيم يتوخى منح فكر العود الأبدي ، الذي هو الشكل الأرقى للإثبات ، وضع قيمة .
لكن كيف يتم التأثير على القيم ؟ كيف يمكن تشييد قيم جديدة على نحو فعال ؟ ينبغي تحليل وضع القيمة من أجل الجواب على هذا السؤال : أوضح نيتشه بأن ميزة قيمة ما هي أن تكون تأويلا ، اعتقادا تنتقل إلى حياة الجسد ، " لحما ودما " أو كما يقول مرارا " ممزوجة " ونتيجة لذلك تصبح ناظمة للحياة البشرية ، تنهج سلطة آمرة ، على تنظيم التصرف على شكل واجبات أو محظورات . يتعلق قلب المشكلة إذن ، بإمكانية تغيير ما يعتبر في البداية محتوى بسيطا تمثيليا إلى اعتقاد حقيقي ، إلى موضوع انخراط راسخ .
وفي الواقع ، فإن عددا كبيرا من النصوص ، تشير إلى أن منطق الإيمان هو الذي يعتبر حاسما في التحكم في مذهب العود الأبدي . لنحاول دراسة نص ما بعد الوفاة في فترة المعرفة المرحة والذي قام أيضا بلفت أنظار كارل لوفيث :
" إذا كان كل شيء لا غنى عنه ، فكيف يمكنني اتخاذ قرار بشأن أفعالي ؟ " إن فكر العود الأبدي ، والاعتقاد بهذه العودة ، يشكلان ثقلا يضايقك من بين أثقال أخرى ، ويثقل كاهلك زيادة ، مثل هذه الأخيرة [الأثقال] . قلت أن الغذاء ، المكان ،الهواء ، المجتمع تُغيرك تعينك ؟ إن آراءك ، والحالة هذه ، تفعل ذلك على أحسن وجه ، إذ أن هذه الأخيرة [الآراء] تفضي بك إلى اختيار مثل هذا الطعام ، مثل هذا المكان ، مثل هذا الهواء ، مثل هذا المجتمع . ـ فإذا قمت بصهر فكر الأفكار ، فإنه سوف يعمل على تحويلك . إن السؤال الذي تطرحه على نفسك لكل ما ترغب في فعله : " ال "سوف "أريد على النحو الذي أرغب في فعله مرات لا حصر لها ؟ " يتشكل من الثقل الأكثر أهمية 21 . "
لقد أبرزت هذه الشذرة نقاطا ثلاث على غاية من الأهمية :
ـ يتم تحديد فكرة السلوك الفردي عبر الآراء ( الاعتقادات والقيم إذن ) ( " إن آراءك تقوم بفعل ذلك أكثر بكثير مرة أخرى ، لأن هذه الأخيرة تحددك في ... " ) ؛
ـ من بين تلك الآراء ، الاعتقاد في العود الأبدي هو الذي يمتلك التأثير الأكثر حسما ( العود الأبدي تتم معالجته مثل رأي من المرجح أن يفضي إلى اعتقاد ما ) ؛
ـ غير أن هذا الرأي لن يكون مؤثرا إلا إذا كان منصهرا ، بمعنى متمثلا ، ينتقل إلى حياة الجسد ، " يصبح لحما ودما " ، حسب صيغة يعكف نيتشه على توظيفها مرارا وتكرارا . ومن هناك تأتي الحاجة إلى دراسة منطق الإلحاق ، وهو ما يسميه نيتشه بال Zuchtung) ( ، التربية .
فضلا عن ذلك ، فإن الرسالة المؤرخة في 10 مارس 1884 إلى أوفيربكOverbeck) ( ، التي يخصها لوفيث بالذكر ، تبين أن الأمر يتعلق هنا بمنطق الاعتقاد . فهي تصرح بخصوص مذهب العود الأبدي : " هل يعتبر حقيقيا ؟ أو بالأحرى : هل يتم الاعتقاد بحقيقته ؟ ـ وهكذا فكل شيء يدور ، يتغير ، وأن كل القيم السليمة حتى وقتنا الراهن هي قيم غدت منحطة . " إذ أن النقطة الفاصلة تكمن في الدقة المدرجة في قلب هذه الجملة : " هل يتم الاعتقاد بحقيقته ؟ " . فكيف يمكن تأويل آنذاك معنى تلك الإحالة إلى الاعتقاد ؟
إن تحويل تمثل إلى اعتقاد يقتضي بشكل عام عاملين : السلطة وزمنا طويل الأمد . نحن نعرف جيدا ، إلى أي حد يلح نيتشه على المدة الطويلة ، بغية التعود على فكر العود الأبدي . سوف نكتفي بتسجيل ملاحظة تتعلق بالسلطة ؛ وتعتبر هذه الأخيرة ضرورية بهدف الشروع في إحداث الاقتناع والانخراط في وضع حيث ـ لن ننسى ذلك ـ اعتقادات أخرى أساسية ، قيم أخرى ، لا تزال نشيطة وينبغي أن تتم إزاحتها . ليس هناك فراغا في القيم إطلاقا . هل يوجد هذا الاهتمام ، بالسلطة ، الذي يفضي إلى الإقناع ، فعلا ، في العمل وفي النصوص المتعلقة بالعود البدي ؟
لذلك فمن الضروري إعادة النظر في ملاحظة لوفيث التي سبق لنا أن أشرنا إليها . مؤكدا أن فكرة العود الأبدي قد تم تحديثها من طرف نيتشه ، ومما لا ريب فيه ، أن لوفيث توصل بشكل أكثر عدلا أنه لم يكن على علم بذلك : إذا لم تكن الوضعية ، أو دعنا نقول بالأحرى ، الثقة المبدئية في العلمية ، هناك حيث يراها . بعيدا عن التصديق على نوع من العلموية الساذجة من طرف نيتشه ، ومن غير الممكن جدا أن هذا الإصلاح العلمي ( لأنه من غير المرجح أنه لم يكن سوى إصلاح بسيط ) يتم التعبير عنه وتسويغه بواسطة الوضعية التي تطوق الثقافة الأوروبية في القرن التاسع عشر ـ بالنسبة للمتلقي ، وليس في ما يتعلق بالمصدر .
المشكلة هنا هي مشكلة تلق : لا ننسى أن نيتشه قلل من أهمية الحقيقة ـ فاللغة التي يتم لعبها من الآن فصاعدا هي لعبة تأويلية ؛ يبرز نيتشه ، والحالة هذه ، أن هذه الأخيرة [اللعبة] تعتبر على الدوام لعبة تنافسية ، لعبة منافسة بين التأويلات . وينطبق هذا ، على وجه الخصوص ، على مستوى تلك التأويلات الأساسية التي هي القيم ، بحيث أن بعض استراتيجيات المقاومة والسيطرة موجودة دائما في العمل . بفضل امتياز العلم ، التقدير المجمع عليه من أجل العلمية ، فإن مظهر الصرامة العلمية سوف يشكل سلاحا قاطعا من أجل الإقناع ، بعبارة أخرى ، المساعدة على تغيير تمثل العود الأبدي ( محتوى مذهب ما ) إلى اعتقاد حقيقي ( تمثل مستبطن ، ينتقل إلى حياة الجسد ) .
لقد نظر لوفيث في مناسبتين ، في إمكانية أن مذهب العود الأبدي لا يمتلك وضعا موضوعيا ـ كأن يكون ، حسب صيغته ، " خديعة شاعر " ، بمعنى تخييلا ... بيد أنه من أجل إزاحة تلك القراءة فورا : إن الحجة التي بموجبها رفض تلك الفكرة هي أن السلسلة الأخرى من النصوص ( النصوص " الكونية " ) تقيم الدليل على أن نيتشه يعتبر العود الأبدي معطى موضوعيا : لكنه يبدو لنا أن من العدل الرفض مبدئيا ، التساؤل حول تمفصل صيغتي العرض بدلا من تقديم القضية هكذا ، وأنه من غير المجدي ، إلى حد ما ، التعامل مع نصوص إشكالية جدا ، بشكل حرفي ، حينما يعرف المرء نوعية الصرامة الواجبة التي يتحكم فيها نيتشه ، وإلى أي حد خصوصا أن نصوصه تم الاشتغال عليها ، من خلال استراتيجيات للكتابة دائمة ودقيقة . لا ننسى أبدا أن نص نيتشه لا يكمن هدفه فقط في إحداث براهين نظرية ، لكن أكثر من ذلك بكثير [إحداث] " إغراءات لصالح الحياة " ـ ال(Verfuhrungen zum Leben)22 .
يشير لوفيث جيدا ـ طبقا لما أكده نيتشه ـ أنه بحسب صيغته الأولى للتقديم ("الأخلاقية " ـ الإنجيل الملحد ) ، فإن العود الأبدي ليس معرفة نظرية لكنه يمتلك وضعا عمليا ؛ على أنه يبدو لنا أنه قام بملاحظة وجيهة جدا ، لكنه لم يستخلص تماما نتائج تلك المعاينة : إن الحاجة إلى التفكير في المنطق النوعي الذي يعتبر بالنسبة لنيتشه منطقا عمليا : " يحولنا التعلم ، إن ذلك يشتغل مثلما يشتغل أي نظام غذائي ، لا يتقيد ب" المحافظة على " ، يصرح في الفقرة 231 في ما وراء الخير والشر . ثمة مفعول مغير مُمارس على المدى البعيد ، من خلال الاعتقاد أو ال"علم " على نوع الإنسان الذي يعتنق هذا الاعتقاد : الذي ليس شيئا آخر غير تجديد نظامه الغريزي . فمن خلال تطور التحول الناتج عبر تغير الاعتقادات المستبطنة ، أصبح فكر العود الأبدي ممكنا : فحالما يتم وصله بجزئية الإشكالية النيتشوية ، فإنه سرعان ما يفقد مظهره المفارق والمتناقض ، ويكشف أنه يلعب مثل جواب للمشكلة العامة للتربية . هكذا يظهر ، على الخصوص ، كون التكرار الذي تعامل معه نيتشه كمحتوى إرادة ، وليس كقانون بنائي للحقيقة ، التي ستشمل على الخصوص كل حقيقة إنسانية ، وعليها سوف تتحطم كل إرادة ضعيفة للتغيير كما يرغب في ذلك كارل لوفيث .
لقد انطلقنا من مشكل تنظيم ؛ سوف نعود إليه من أجل الختام : يقوم لوفيث بتقريب بعدي العود الأبدي . يبدو لنا أن منطق التفكير الذي بناه نيتشه يتطلب بالأحرى تنظيمهما [بعدا العود الأبدي ] تدريجيا : لا يعني هذا أن نيتشه يعتقد في حقيقته وموضوعيته ، بجعله من فكر العود الأبدي موضوعا لل" تبشير " ؛ فلأنه بالنسبة إليه ، يشكل فكرا مربيا وانتخابيا ( من جراء قوته الإثباتية ) ينبغي أن نجعل منه قيمة ، ثم أن تقديمه على شكل مظهر علمي ، يمنح هذا المنظور فائدة عملية ، إلى حد ما " استراتيجية " ، لا تدخل في تناقض مع النقد اللاذع النظري للعلمية . فمن أجل إيقاف تقدم العدمية وتشييد ثقافة للإثبات ، فإن قلبا للقيم يعتبر ضروريا ؛ على أنه من أجل قلب القيم بمعنى الإثبات الأسمى ، لا بد من تغيير فكر العود الأبدي إلى قيمة .
ــــ
مصدر النص : فصل من كتاب لباتريك فوتلينغ Partrick Wotling) (" فلسفة العقل الحر . مدخل إلى نيتشه " . édition Flammarion , Paris , 2008 . .
باتريك فوتلينغ : أستاذ بجامعة ريم الفرنسية . قام بترجمة عدد كبير من أعمال نيتشه لصالح دار نشر فلاماريون . له أيضا : نيتشه ومشكلة الحضارة Puf , 1995 et 1999 ) ( و التفكير في الطابق السفلي Allia , 1999 ) (
1 .(Nietzsche philosophie der ewigen Wiederkehr des gleichen ) ، ترجمه إلى الفرنسية ، كالمان ـ ليفي Calmann – Lévy) (ص : 21 . سوف نحيل من الآن فصاعدا على ترقيم الصفحات لهذه الترجمة الفرنسية .
2 .ص : 80 .
3 .ص : 103 ـ 104 ، ترجمة منقحة .
4 .ص : 117 .
5 زص : 104 ، ترجمة منقحة .
6 .ص : 106 .
7 ـ ص : 146 .
8 .هذا هو الإنسان ، مقدمة ، مقطع 4 .
9 .شذرة ما بعد الوفاة من كتاب المعرفة المرحة ، 11[142] .
10 .شذرة ما بعد الوفاة من المعرفة المرحة ، 11 [165]
11 . شذرة ما بعد الوفاة III X ، 11 [73]
12 .شذرة ما بعد الوفاة III X ، 9 [38]
13 .غسق الأوثان ، " العقل في الفلسفة " ، مقطع 2 .
14 . غسق الأوثان ، " incursion d’un inactuel "، مقطع 43 .
15 . شذرة ما بعد الوفاةIII X ، 11[99] .
16 . شذرة ما بعد الوفاةIII X ، 11 [413] .
17 . الجملة الأخيرة التشديد من عندنا .
18 . ماوراء الخير والشر ، مقطع 61 ، التشديد من عندنا .
19 . مقطع XI ، 34 [176] .
20 . شذرة ما بعد الوفاة X ، 25 [227] .
21 . شذرة ما بعد الوفاة من كتاب المعرفة المرحة ، 11 [143] .
22 . شذرة ما بعد الوفاة XIII، 11[415] .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية
.. إطلاق رشقة صاروخية من جنوب لبنان تستهدف الجليل
.. ما آخر الغارات الإسرائيلية على منطقة المريجة؟
.. روسيا تعلن عن ضربات مدفعية ضد وحدات أوكرانية في كورسك
.. بعمر 20 يوماً فقط.. لبنانية تروي رحلة نزوحها برفقة طفلتها ال