الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلسوف معرة النعمان

عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري

2019 / 8 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يقول طه حسين في مديح فيلسوف معرة النعمان:
كان رقيق القلب, شديد الرحمة, كثير العطف على الضعيف, وحسبك أنه أمّن الحيوان من تعديه على نفسه, أو ولده أو ثمراته. ولو أنك قرأت ما في اللزوميات من محاورته للديك والحمامة, ورثائه للشاة والنحل, وبكائه على الناقة والفصيل, ودفاعه عن النحلة والجني, لقدرت ما كان له من رقة القلب أحسن تقدير.

نعم, صدق عميد الأدب العربي فيما ذهب إليه. كان فيلسوف المعرة رقيق القلب مع الإنسان والحيوان, فقد مرض في أحد الأيام فوصفوا له الدجاج المطبوخ مع المرق, فامتنع عن أكله, وألحوا عليه حتى أظهر الرّضا, فلما قُدّم إليه, لمست أنامله الدجاج المطبوخ , فجزع, وقال: استضعفوك فوصفوك هلاّ وصفوا شبلَ الأسد, ثم أبى أن يأكله, لأنه لا يأكل أحداً.

و إنك لتجد في اللزوميات سخطاً على الناس غير قليل ولكنه سخط مصدره الرحمة لهم والحدب عليهم. فما كان فيلسوف المعرة في تقريعه إياهم إلا مؤثراً لهم بالنصيحة. وقد صدر هذه النصيحة عن نفس كريمة سخية وأما الحياء ففطرة فطر عليها, فكم ألف من كتب, وكم كتب من رسائل لأن الناس طلبوا إليه ذلك فلم يستطع لهم رداً. والكذب عدوه وخصمه, فما نعرف أن مؤرخاً استطاع أن يتمسك عليه بكذبة, على كثرة أعدائه ومخالفيه.

كان فيلسوف المعرة سيء الظن بالناس، شديد الحذر منهم, فكان يحتاط أشد الاحتياط في إظهار آرائه التي تخالف ما اتفقوا عليه. لذلك يذهب مذهب المجاز في إظهار آرائه، وإن في نفسه سراً لن يُظْهِرَ الناس عليه, لأنه يخشى منهم الأذاة. وها هو يخاطب الإنسان في لزومية من خمسة أبيات التزم فيها اللام والجيم وهي من أعمق ما نظم في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان:

روّحْ ذبيحَكَ لا تُعجلْهُ ميتَتَهُ
فتأخذ النّحضَ منه وهو يختلجُ
هذا قبيحٌ وعلمي غيرُ متّسق
بما يكون ولكن في الثّرى ألِجُ
والناس من أجل هذا الأمر في ظُلَمِ
وما أؤمل أن الفجر ينبلجُ
مضى أناسٌ وأصبحنا على ثقة
أنا سنتبعُ فالأشجان تعتلجُ
إن أدلجوا وتخلفنا وراءهم
شيئاً يسيراً فإنّا سوف ندّلجُ

وما أعرف أني وجدتُ في كل ما قرأت من الشعر العربي أكثر نفاذاً إلى القلب وتأثيراً في النفس من هذه الأبيات. ومهما أحاول فلن أستطيع تصوير ما يملأ نفسي من الحزن حين أسمعه يقول في البيت الثاني: هذا قبيحٌ. وهو من أشد الشعر تحريكاً للنفوس وإثارة للوعة والحزن.

ثم انظر إلى هذه الحسرة التي يصيح بها البيت الأخير، صيحة اليأس والقنوط, ماذا نقول غير أنها فقيرة وصغيرة هي نفس بني آدم التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان. فقيرة يا- أبا العلاء - هي تلك النفوس التي لا تُخفف الوطء لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد.

غيرُ متسق: في مختار الصحاح الوسق مصدر وسق الشيء أي جمعه وحمله ومنه قوله تعالى: والليل وما وسق. فإذا جلّل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له فقد وسقها. والناس من أجل هذا الأمر في ظلم، سألت أهل العلم عما يقصده فيلسوف المعرة من كلمة الأمر بعد اسم الإشارة هذا، وأي أمر هذا الذي أقلقه وكدر راحة قلبه فترك بني آدم في ظلام دامس لا يعقل ما يعمل, كحاطب ليل؟ فأحالوني إلى حبيب بن أوس الطائي في كتابه "الحماسة" حيث تجد في باب الأضياف والمديح لشاعر مجهول:

تركتُ ضأني توَدُّ الذئبَ راعيَها
وأنّها لا تراني آخر الأبَدِ
الذئبُ يَطرقُها في الدهرِ واحدةً
وكلَّ يوم تراني مُدْيَةٌ بيدي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ليتك
Muwaffak Haddadin ( 2019 / 8 / 28 - 20:23 )
الاستاذ عبد الرزاق دحنون المحترم
مقالة رائعة
ليتك اضفت ما يقوله فيلسوف المعرة عن رجال الدين ليرى القارئ فلسفته في هذا المضمار أيضا
ربما في مقالة لاحقة
مع التحية
موفق حدادين
عمان
28 / 8 / 2019


2 - موفق حدادين ميت مرحبا
عبدالرزاق دحنون ( 2019 / 8 / 28 - 21:09 )
شكراً صديقي العزيز لهذا التنبيه المهم ...نعم يستحق موقف فبلسوف المعرة من الدين ورجاله وقفة متأنية ...آمل ذلك في وقت قريب...شكراً لك...تحياتي.

اخر الافلام

.. أثار مخاوف في إسرائيل.. حماس تعيد لملمة صفوفها العسكرية في م


.. ساعة الصفر اقتربت.. حرب لبنان الثالثة بين عقيدة الضاحية و سي




.. هل انتهى نتنياهو؟ | #التاسعة


.. مدرب منتخب البرتغال ينتقد اقتحام الجماهير لأرض الملعب لالتقا




.. قصف روسي يخلف قتلى ودمارا كبيرا بالبنية التحتية شمال شرقي أو