الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زواج الأرض و السماء

رماز هاني كوسه

2019 / 8 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تناولت الإبراهيميات قصة خلق السماء و الأرض في نصوصها سواء التوراتية أو القرآنية . و ابتدأت كالعادة من قصة الخلق المائي . فالماء هو أساس الحياة . نقرأ في التوراة في سفر التكوين عن خلق السماء و الأرض في اليوم الثاني :
و قال الله ليكن جلد في وسط المياه و ليكن فاصلا بين مياه و مياه
فعمل الله الجلد و فصل بين المياه التي تحت الجلد و المياه التي فوق الجلد و كان كذلك
و دعا الله الجلد سماء و كان مساء و كان صباح يوما ثانيا
أما في القرآن فالنص القرآني يشير للخلق المائي وعملية خلق السماء و الأرض بآية واحدة تشمل الامرين (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ .) الأنبياء
فالنص القراني يؤكد ان الأرض و السماء كانتا متصلتين ثم قام الخالق بفصلهما عن بعضهما البعض بشكل مشابه للخلق التوراتي .
الأدب الديني للحضارات القديمة تناول موضوع خلق السماء و الأرض و نستطيع التعرف على ما طرحه من خلال النصوص التي وصلتنا من تلك الشعوب . ففي أساطير سومر الخلق بدأ من الإلهة نمو التي كانت أولى الموجودات و التي أنجبت إلهين هما (آن ) و يمثل السماء و (كي ) و تمثل الأرض و كانا في حالة انطباق تام و من زواج الالهين الأرض و السماء يولد إنليل الذي يمثل الهواء و الذي يشعر بالضيق من المساحة القليلة المحصور فيها بين ابويه المتلاصقين فيقوم بإبعادهما ليفسح لنفسه مجالا أوسع فيرفع السماء و يبسط الأرض حيث نقرا:
إن الإله الذي أخرج كل شيء نافع
إنليل الذي لا مبدل لكلماته
إنليل الذي خلق الأرض و المرعى
أبعد السماء عن الأرض و أبعد الأرض عن السماء
أما البابللين ففي أسطورة الخلق (إينوما إيليش ... عندما في الأعالي) تصلنا تفصيلات أوسع عن خلق الآلهة و السماء و الأرض و إن كانت نقاطها الرئيسية مشابهة للأسطورة السومرية . الخلق المائي لدى البابليين يبدأ من تعامة التي تمثل المياه الأولى و هي مثيلة نمو السومرية . الإله مردوخ يقود تمردا على الآلهة الآباء بشكل مشابه لتمرد إنليل على أبويه آن و كي (السومريين ) . مردوخ يهزم تعامة الإلهة الأولى و يشطر جسدها لنصفين يرفع النصف الأول سماء و يبسط النصف الثاني ليشكل الأرض .
تمرد أبناء الإله على آبائهم يتكرر أيضا في أساطير الخلق اليونانية . يورد الشاعر (هسيود ) في قصيدته (ثيوجوني ) أن الإلهة جيا كانت تمثل الأرض (اسمها جيا قريب من اسم إلهة الأرض السومرية كي ) و أورانوس يمثل إله السماء و من تزاوجهم أنجبو العمالقة و آلهة أخرى . أورانوس خشي من تمرد أبنائه عليه فحبسهم بجوف أمهم جيا ( في رحمها ... دفنهم أرضا ) .جيا بعاطفة الأمومة تتفق مع أصغر أبنائها كرونوس الذي يمثل الزمان للتخلص من أبيهم عندما يأتي مساء لينام الى جوار جيا و هو ما يحدث عندما يقتل كرونوس أبيه أورانوس بمنجل حاد فيتحرر الأبناء من السجن الذي وضعهم به أبيهم كرونوس .
السيناريو نفسه نراه يتكرر في قصص الخلق الفرعونية . إله الشمس رع كان موجودا في المياه الأولى ( تكرار لمفهوم الخلق المائي ) و أنجب الاله رع كلا من الإله شو الذي يمثل الهواء و الإلهة تفنوت تمثل الرطوبة . من زواج شو و تفنوت خلق جيب إله الأرض و نوت إلهة السماء الذين كانا بحالة انطباق دائم (تزاوج ) .... هنا يقوم الإله شو بالدخول بينهما و فصل إلهة السماء نوت عن إله الأرض جيب و يشغل الحيز بينهما .

فكرة الإنطباق و الالتحام بين السماء و الأرض السابق للإبراهيميات نابع من مفهوم الزواج و العلاقة الجنسية البشرية . فزواج السماء و الأرض هو المسؤول عن إنجاب الآلهة و خلق الحياة . مثلما الزواج البشري مسؤول عن استمرارية الجنس البشري . في الأدب الديني السومري و اليوناني مثلا نرى الأرض هي الانثى و السماء هي الذكر بهذه العلاقة . و هو أمر مفهوم و طبيعي في ظل مجتمعات زراعية تعتمد الأمطار كأساس لاستمرار حياتها الزراعية . فالسماء تقوم بخصاب الأرض بماء المطر لتعطي الأرض محصولها و إنتاجها بشكل مشابه للزواج البشري و اخصاب الذكر للأنثى بغاية انتاج الذرية . و هو أمر لا نراه بالديانة المصرية حيث تنعكس الأدوار و تأخذ الأرض لدى الفراعنة دور الذكر بدلا من الأنثى .... ربما يعود السبب لقلة اعتماد الزراعة المصرية على المطر مقارنة باعتمادها على مياه النيل و فيضانه .... و النيل ينبع من الأرض و ليس من السماء فمن هنا تعتبر الأرض مصدر الخصوبة المصرية .
مفهوم بدء الحياة من كتلة واحدة متمازجة مع بعضها نجده موجود من أكثر من ألفي عام قبل الميلاد و تطور بالتدريج من بدء الحياة بأسلوب الزواج بين الآلهة التي تمثل السماء و الأرض و هو استعارة لمفهوم البشر عن أهمية العلاقة الجنسية للإخصاب و انتاج الحياة . لينتقل مفهوم بدء الحياة بعدها إلى قدرة الإله الكلي على انتاج الحياة منفردا بقدرته الكلية دون الحاجة إلى علاقة جنسية أو شريك ليساعده على اتمامها كما يظهر ذلك بوضوح في الإبراهيميات . و حتى الوسط المائي الذي تشير مختلف الثقافات لكونه نقطة البداية في الخلق فهو مستعار أيضا من مفهوم الحمل و الولادة البشرية التي تتم من وسط مائي أيضا . فالجنين قبل ولادته يكون موجودا برحم أمه محاطا بالسائل الأمينوسي( مية الراس كما نقول بالعامية السورية ) و بالتالي ولادة الجنين تتم من وسط مائي . و من هنا تم التأكيد من قبل القدماء على بدء خلق الكون من وسط مائي بشكل مشابه للولادة البشرية . فنظريات الخلق القديمة بنيت بحيث تحاكي أحداثها بصورة رمزية موضوع الولادة البشرية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس