الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية[13]: قتل الإله الذي يسمّونه عقلاً

إبراهيم جركس

2019 / 8 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الوجودية[13]: قتل الإله الذي يسمّونه عقلاً
========================

لطالما كان "العقل" مركز اهتمام الفلسفة الغربية لأكثر من ألفي عام. وقد غدا أفلاطون وفق رأي أغلبية المفكرين على أنه أحد قديسي الفلسفة العقلية. إنّ معالجة أفلاطون للعقل والمشاعر الإنسانية أكثر تعقيداً ودقةً من جميع أولئك الذين جاؤوا بعده. في الحقيقة تعود الوجودية في نواحٍ كثيرة إلى وجهة النظر الأفلاطونية الأكثر توازناً ووسطية للإنسانية، حيث يُنظَرُ إلى العقل على أنّه يعمل جنباً إلى جنب مع بعض المشاعر الإنسانية الصحيحة. في النهاية، إنّ مركز الاهتمام الأساسي للفلسفة الأفلاطونية، التي تمّ تضخيمها وتشويهها والزيادة عليها في التفاسير والتأويلات اللاحقة _من بينها تلك التفاسير والتأويلات المسيحية_ ينصبّ أساساً على قدرتنا على التفكير واستخدام العقل. ومن بين أمور أخرى، أشاد أفلاطون بقدرة العقل على السيطرة على المشاعر الإنسانية والتحكم بها، وبخاصة المشاعر الجسدية، التي كانت تعتبر إلى حدٍ بعيد (ومازالت في كثيرٍ من الأوساط) خطيرة ومدمّرة، لاتساوي شيئاً في سبيل الميزات والصفات المُحَرّرة.
أي نسبة دقة في عقلانية أفلاطون قد تبخّرت تماماً في الفترة التي كَتَبَ فيها الوجوديون. فالعقل، بالمعنى الحديث، تشير إلى قدرتك على الحساب _من بين أمور أخرى_ والتفكير بشكل منطقي وتجريدي، وتقييم الدليل، ومعالجة الخبرات وتصنيفها. بهذا المعنى، غالباً مايندمج في تاريخ الفكر الغربي مع وعيك، وإرادتك، وحتى مع ذاتك.
إنّ الفلسفة الغربية هي فلسفة عقلانية إلى حدٍ كبير بمعنى أنها تمجّد قدرتنا على التفكير واستخدام العقل على بقية سماتنا وخصائصنا الأخرى. العقلانية هي أساساً اعتقاد بفعالية تفكيرنا وتركيزه على هويتنا وماهيتنا. فالعقل، من خلال هذه الطريقة في التفكير، لايسمح لنا فقط بالتخطيط وعكس خططنا للحصول على مانرغب فيه، بل أيضاً يمتلك القدرة على تقرير وتحديد مانريد _تحديد أفضل نمط للحياة يناسبنا. لبعقل هو الأب الروحي والعَراب لجميع الأنظمة الفكرية الشمولية، لأنّ العقل هو الذي يخلق ويصوغ هذه الأنظمة بتفصيلها ومعالجتها وتصنيفها ثم تجريدها عن التجربة. ومن خلال خلقه لهذه الأنظمة _من بينها الأنظمة الدينية والعقائدية_ يقدّم العقل البشري عدّة نماذج مُضفَة للمعنى.
إذاً لماذا نتمرّد على العقل؟

# يمكننا فهم مشكلة الوجوديين مع العقلانية بشكل أفضل إذا سَرَدنا بعض السمات والخصائص التي يتميّز بها العقل:

1) العقل يكتشف حقائق عامة ومطلقة: (2+2=4). وليس 4 بالنسبة لك و3 بالنسبة لي. فالرياضيات أحكامها ومقدماتها ونتائجها شاملة وكونية ومطلقة. بنفس الشكل، إذا كنتَ على القمر ونحن على المشتري، ستشعر أنت بتأثير قوة الجاذبية بشكل مختلف عنّا نحن حتماً. لقد تمكّن السير إسحاق نيوتن، مستخدماً عقله فقط، من اكتشاف وتطوير قانون الجاذبية العالمي والشامل، الذي يفسّر تأثير الجاذبية على كلا الكوكبين وكل مكان آخر. فالعقل بطبيعته، يسعى لتبرير الفروقات وتفسير كيف يتلائم كل شيء تحت منظومة موحّدة من القوانين.
2) العقل مجرّد: لكي تكون قوانين العقل عامة وشاملة، يجب ألا تعتمد على الجزئيات، أو تكون مقتصرة على حالة معينة, لافرق إذا أضفت تفاحتين إلى تفاحتين، أو ليمونتين إلى ليمونتين، أو تفاحتين إلى ليمونتين، النتيجة ستكون واحدة: 4. الجزئيات لا تعنينا في شيء. طبعاً، بعض التفاصيل مهمة فعلاً، لكن مجمل العملية الفكرية العقلية تسعى لتجريد نفسها عن الجزئيات قدر الإمكان. على سبيل المثال، الجاذبية تؤثر في الأجسام ذات الكتل الكبيرة بشكل مختلف عن الأجسام ذات الكتل الصغيرة. هذا التفصيل الصغير أو هذه الجزئية الصغيرة مهمّة للعلماء الذين يدرسون الجاذبية. ولكن أهي مهمة سواء إذا كانت الكتلة فيل بالغ أو سيارة تويوتا؟ سواء أكانت زرقاء أم بضاء؟ سواء أكانت كائن بشري أم حجر؟... إطلاقاً.
3) العقل غير شخصي: ضمن النموذج العلمي التقليدي، يفترض بنا استخدام العقل بعيداً عن المشاعر أو الأحاسيس. هذه الفكرة _إلى حدٍ ما_ هي النتيجة المنطقية للفكرتين السابقتين: إنّهما تزيلان أي مضمون عاطفي محتمل عن الموضوعات العقلية من خلال تجريدها حتى تتوقف عن كونها موضوعات تتخلّلها أي مشاعر أو مواقف. عندما يتحوّل شخص إلى مجرّد رقم، لم يتبقَّ شيء للتعاطف معه. ولكنّ الافتقار لمضمون عاطفي هو _من الناحية المثالية_ سِمَة من سمات الأداة العقلية التي تقوم بعملية التفكير. فأن نفكّر بطريقة عقلانية مُثلى معناه أن نصبح أكثر شَبَهاً بأجهزة الحواسيب: كلٌ منها يتألف من معالج مُحايد مَحض لحقائق جامدة غير شخصية.

# ولكن أين العنصر البشري؟
يرفض الوجوديون فكرة أنّ تجربة العقل يمكن أن تكون التمرين النموذجي لإنسانييتنا، لأنّ الحياة بالنسبة لهم تجربة ذاتية أساساً وثابتة. إنّ إنسانيتنا تتواجد في جميع تلك الأماكن التي نستبعدها عندما نحاول النظر إلى الأمور بطريقة عقلانية. كلما ازدادت الأسس عقلانية، أضحَت أمثر تجريداً وبُعداً. من المحتمل أن تكون لدينا تجارب في التعامل مع الأفراد العقلانيين لدرجة أفقدتنا عقولنا وجعلتنا نرغب بالصراخ. في بعض الأحيان، حتى عندما يكونون على حق، هم على خطأ. إنهم يفوّتون على أنفسهم أهم نقطة في المسألة _إنهم يفوّتون العنصر البشري/الإنساني.
على سبيل المثال، مرض صديقي أثناء طفولته، وكان مريضاً جداً، فأخذه والداه إلى المستشفى. وحين كانا ينتظران في البهو مَرّ بهما طبيب عابر سبيل، فسألاه عن وضع ابنهما، فقال لهما أنّ ابنهما لن يتمكّن من العيش حتى نهاة الأسبوع ثمّ استدار وتابع طريقة بدون أي مبالاة، بصرف النظر عن هذا الخطأ الواقعي، يمكن اعتبار هذا اللقاء الصغير كناية عن العنصر اللاإنساني ف مختلف الأنظمة العقلانية. مع أنّها تمنحنا نوعاً من الإرشاد والتوجيه، على غرار جميع الأنظمة العقلانية في المجتمع، إلا أنّها تفعل ذلك على مسافة منا، كالطبيب تماماً. نحن جالسون في غرفة الانتظار الكونية آملين سماع كلمة مريحة أو مُعَزّية من أحد الأنظمة الفكرية الشمولية التي تنسينا همومنا وتخفف عنّا وضعنا _يضف على وجودنا معنى_ لكنها لاتفعل ذلك إلا بشروطها المجردة والخاصة وغير الشخصية. العقل ميّت، لكن ذلك ليس لأنّه غير قادرٍ على العثور على إجابات، بل لأنّ الإجابات التي يقدّمها العقل أو أي نظام فكري شامل وحده لايمكنه تلبية الاحتياجات الإنسانية الحقيقية.

# العقل كمصدر للدين
---------------------
قد يبدو من قبيل التناقض القول أنّ العقل هو مصدر الدين. الدين برمّته يدور حول الأمور الروحية، والصوفية، والغامضة، صحيح؟ هذا صحيح، ولكن مع أنّ القطع والشذرات المفردة للدين قد تكون سحرية ومبهمة، وعندما يتمّ جمع هذه الشذرات في نظام عقائدي، والتصرفات المتوقعة منها في نظام أخلاقي، سنرى العقل وهو يعمل. العقل يأخذ خليط مجموعة من المعتقدات الصوفية والممارسات والطقوس العرفانية وتصوغها على شكل ديانة. والكنيسة الكاثوليكية أوضح مثال، لكنها بالكاد تعتبر المثال الوحيد عن مؤسسة تقدم بنية دينية منتظمة بطريقة رتيبة ومصاغة بشكلٍ شامل. لم تكن محاكم التفتيش نتاج تجربة الإله المُحِبّ، لقد كانت تطبيق لمجموعة معينة من التعاليم المرتبة والمنتظمة عقلانياً حول ذلك الإله الذي اعتبرته الكنيسة ضرورياً لكونها مسيحية. وبنفس الشكل اليوم، عندما يصرّح مشايخ ودعاة الإسلام والمسيحية أنّ الكوارث والزلازل والحوادث والحروب والأوبئة ماهي إلا نتيجة حياة آثمة، قد تبدو جنونية حقاً. إنّهم يحاولون نسج الأحداث والمعتقدات ببعضها البعض لتشكيل سرد متماسك وثابت. ويشير العديد من العلماء والملحدين العقلانيين إلى أمثلة كهذه لتوضيح الضرر الذي يسببه الإيمان بالله. إنّ الحقيقة هي تجربة الإيمان _بالنسبة لهم_ تجربة محبّة الله، ومحبّة الجار، نادراً ماتجعل الناس يقعون في المشاكل. فعندما نضع هذه المشاكل جانباً أو نشوّهها عن طريق التفكير الأعوج أو المفرط في إطار نماذج لاإنسانية هنا تبدأ المشكلة. هذه الفكرة هي نقطة الانطلاق التي انطلقت منها الوجودية بشقّها المسيحي، التي تحاول تجريد الدين من بنيته العقلانية والمنتظمة ومن ثمّ العودة إلى التجربة المباشرة للألوهية والإنسانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو