الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في المشهد اليمني (3/3)

منذر علي

2019 / 9 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يمكن رؤية التجليات و التأثيرات المختلفة للهجرة على البنية الاجتماعية ، من خلال إلقاء نظرة خاطفة على الفوارق بين الأوضاع السياسية والفكرية والاجتماعية القائمة بين دول المغرب العربي، كتونس والجزائر ، والمغرب ، وبين بعض دول المشرق العربي، وبشكل خاص، في دول مثل السعودية والإمارات وقطر واليمن. ففي المغرب العربي ، يمكننا أن نلاحظ بجانب المظاهر السلبية للانقسامات، التي نتجت عن المرحلة الاستعمارية ، كالانقسام اللغوي وغير ذلك، ثمة بسبب التثاقف ، Acculturation ، الناتج عن الهجرة والجوار الجغرافي والروابط اللغوية ، وعوامل أخرى كالترجمة والبعثات التعليمية إلى الغرب ، ، تجليات ايجابية باهرة وكثيرة .

إذْ نرى بجانب مظاهر التمدن المتعددة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، المفكرين التنويريين البارزين، المهيمنين على مسرح الفكر ، أمثال عبد الله العروي ، و محمد عابد الجابري ومالك بن نبي و محمد أركون، وهشام جعيط ، وعبد المجيد الشرفي ، وغيرهم من المهمومين بتحرير العقل، بينما نجد في شبه الجزيرة العربية ، المنكوبة باثراء والجهل ، وخاصة في دول المتجر الكبيرة ، supermarket states ، نوع آخر تمامًا من المجتمع . ففي الإمارات نجد السياسيين المعطوبين بالجهل والحماقة ، الذين تقلقهم وتقض مضاجعهم ، مثلًا ، وحدة اليمن ، أمثال أنور قرقاش و ضاحي خلفان وعبد الخالق عبد الله. وفي الكويت نرى مثقفين من النوع الرديء أمثال احمد الجار الله وفهد الشيلمي وأنور رشيد ، الذي يتسلون بمآسي اليمن ، و يروجون لانفصاله ويقدمون تحليلات معطوبة بالجهل والأحقاد عن الأوضاع في اليمن والجزيرة العربية .

و في السعودية نرى المفكرين التكفيريين البارزين على مسرح الفكر والسياسة، أمثال عبد العزيز بن عبدالله آل الشيخ، و صالح اللحيدان، ومحمد العريفة ، وفي اليمن نرى عبد المجيد الزنداني وعبد الله صعتر ، وعبد الله العديني ، وعبد الملك الحوثي ، وهاني بن بريك وغيرهم.
وهذه الطائفة الأخيرة لا تشغلهم قضايا العالم المعاصر ، ولكنهم مهمومين بما أورده صحيح البخاري ، في منتصف القرن التاسع الميلادي، فتشغلهم الأمور والأحكام التي تتصل بغسل الوجه واليدين ، والاستنجاء بالحجارة ، والبول قاعدًا وقائمًا ، والاغتسال عريانًا في الخلوة ، والصلاة في مرابض الغنم ، وفي مواضع الإبل فضلًا عن انشغالهم بتكبيل العقل ، والتنكيل بالناس.

صحيح أنَّ نسبة الهجرة اليمنية إلى الخارج قد اتسعت في السنوات الأخيرة ، سواء الهجرة القهرية coercive ، أو الاختيارية optional، وشملت ، بدرجات متفاوتة ، دولًا كثيرة ، مثل مصر وتونس والمغرب، و ماليزيا وتركيا والهند ، والصين ، وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، والسويد، وبلجيكا ، وروسيا ، و أوكرانيا وكندا والولايات المتحدة ، إلاَّ أنَّ بعض المهاجرين ، للأسف، نقلوا ، مع حقائبهم ، إلى الخارج تناقضاتهم وأمراضهم الوطنية المتنوعة.

ولئن كان من المتوقع أن تفرز الهجرة إلى هذه البلدان نتائج إيجابية إلاَّ أنها لن تظهر قريبًا ، وقد لا تأتي أوكلها أو انعكاساتها الإيجابية على الواقع اليمني في المُستقبل . ذلك أنَّ جزءًا كبيرًا من أبناء المهاجرين يذوبون في المجتمعات الجديدة ، فيفقدون هويتهم الأصلية اليمنية ولا يكتسبون بشكل كامل الهوية الجديدة ، فتنشأ لديهم هوية مرتكبة، Confused identity . كما أنَّ جزءًا أكبرًا من المهاجرين اليمنيين من ذوي الكفاءات العالية ، كالأطباء والمهندسين والمحاميين والصحفيين والدبلوماسيين، والسياسيين ، يهاجرون وهم فوق منتصف العمر أوفي مرحلة التقاعد ( 35 - 65 عاماً ) وبالتالي لا يتاح لكثير منهم العمل في مجالات تخصصاتهم ، بسبب خلفياتهم التعليمية والصعوبات اللغوية والأوضاع العنصرية في المهجر ، فيضطرون للعمل في مهن حقيرة ، أو ينظمون إلى طابور البطالة ويعيشون على هامش الحياة، أو يلتحقون بطابور الارتزاق الذي يجري تمويله من قبل الدول الخليجية .

وفي اليمن ثمة نوع آخر من التنوع ، يتصل بالموروث الفني واللغوي فهناك الفن الغنائي الصنعاني والحضرمي واللحجي والتهامي والتعزي، وينتشر بشكل واسع داخليًا ، وبنسب متفاوتة في العالم العربي، وخاصة انتشار الفن الحضرمي في الخليج وخاصة من قبل الفنانين البارزين أمثال أبو بكر سالم ، وعبد الدرب أدريس وأحمد فتحي ، ومن قبل من تبناه وروجه من الفنانين العرب، أمثال الفنانة المغربية أسماء المنور، و الفنان اللبناني ملحم زين، و في فلسطين المحتلة من قبل اليهود اليمنيين، أمثال عفراء هزاع، و برخة كوهن ، وزيون جولان ، وغيرهم.
وعلى صعيد التنوع اللغوي ، هناك نسبة ضئيلة من اليمنيين يتحدثون المهرية والسقطرية ، وهناك استخدام محدود للعبرية بين الأقلية اليهودية المحدودة ، يجري تداولها بين اليهود خلال دراساتهم الخاصة ، وأثناء أدائهم لصلواتهم وطقوسهم الدينية .

و على الرغم من أنَّ اللغة العربية هي السائدة ، وهي القاسم المشترك لليمنيين، إلاّ أن مستوى اللغة العربية في تدهور مضطرد ، بسبب تدهور التعليم وتفشي الأمية على نطاق واسع ، وخاصة بين النساء. و اللغة الفصحى كثيرًا ما تتداخل مع اللهجات المحلية المتنوعة كالصنعانية والحضرمية والتعزية والعدنية ، التي تتداخل معها، بدرجة أقل ، مفردات أجنبية ، تركية ، مثل: كندرة ، وسرسري ، وتتن ، وقوطي ، وخاشوقة ، وشرشرف ، وهندية، مثل : بفته ، و بهار ، وكراني ، وبالدي ، وروتي ، وبانهيس ، وإنجليزية ، مثل قلص ، وسيكل ، وسوفه ، ولوري ، وباص ، وبيب ، ودريول ، و واير ، و موتر ... الخ بالإضافة إلى انتشار اللغات الأجنبية، كالانجليزية والفرنسية والروسية ، على نطاق محدود بين أبناء الفئات الميسورة ، واتساع رقعة اللهجات البدوية لسكان مأرب والجوف ، وبادية حضرموت في المناطق الحضرية .

إنَّ وجود اللغات الأخرى واللهجات المتعددة في مجتمعنا ، ظاهرة طبيعية تعبر عن التنوع التاريخي القائم ، ولكن في ظروف الانحطاط الشامل، الذي يلون حياتنا في الوقت الراهن ، تنتشر رقعة اللغات الأجنبية ، وتتسع رقعة اللهجات المحلية ، على حساب العربية الفصحى ، و تلقي اللهجات المحلية الاستحسان وأحياًن كثيرة تلقى الاستهجان، حتى من قبل بعض المثقفين، وتستخدم كوسيلة للسخرية والتحقير ، من هذا الطرف أو ذلك ، في إطار الصراع السياسي ، والتنافر المناطقي والجهوي.

و في اليمن ثمة موروثات ثقافية خفية وأخرى ظاهرة ، فثمة موروث هندي - بريطاني ، وآخر عثماني، لا يتجسد فقط في الجانب اللغوي ، ولكنه يتجسد في الطرق المختلفة لقضاء الوقت ، وفي المظاهر المتنوعة ، المتصلة باللباس ، فضلاً عن تنوع المطبخ اليمني، Cuisine. فنرى مثلًا المطبخ اليمني المهتم بمنتجات البحر المتأثرة بالهند في عدن والساحل اليمني عمومًا، ونرى المطبخ الأقل اهتماما بالمنتجات البحرية في المناطق الداخلية ، الجبلية والسهلية .

إنَّ التنوع ، Diversity، ظاهرة طبيعية ، ومن شأنها أنْ تثري المجتمع، ولكن التركيبة الهشة للمجتمع، The fragile structure of Yemeni society، وضعف الدولة الوطنية ، the weakness of the national state، وفي ظروف التوتر والتخلف والتغذية الخارجية التي تقوم بها الدول الإقليمية في الجسد الوطني المتهالك ، يجري تحويل التنوع إلى تشتت ، وبعد ذلك يجري اختراق المجتمع عبر هذه الثقوب ، و من ثم ، وفي غمرة الصراعات المتنوعة ، يجري طمس التنوع الطبيعي ، وبعث الفرو قات الاجتماعية والثقافية واللغوية والطائفية والدينية و السياسية والتاريخية ، وتحويلها إلى تناقضات قاتلة ، تُوظَّف في كثيرِ من الأحيان ، بشكل تحقيري ، في الصراع السياسي والاجتماعي بين الشعب اليمني وطلائعه الوطنية ، وبين القوى الخارجية ، وأتباعها من النخب المُتربِّحة من دم اليمنيين وكرامتهم وعزة وطنهم ، حتى ليبدو للمرء أنَّ القواسم الوطنية الكبرى المشتركة، كالتاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعرق والثقافة ، على وشك أن تتهاوى ، أمام قوى التخلف والتطرف ، كما يجري اليوم في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ اليمن ، المثقل بالأحزان .
للحديث بقية....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو