الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعب يريد إسقاط القناع

هشام آدم

2019 / 9 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قبل فترة طويلة كتبتُ ملاحظاتي على المسلسل المصري المشهور (رأفت الهجّان) في تغريدة على الفيسبوك. وقلتُ فيما قلتُه آنذاك، أن هذا المسلسل -على غرار الدراما والسينما الأمريكية- يهدف إلى حقن الشعب بشعور كاذب بالتفوق والانتصار، في صورة البطل القومي الذي لا يُقهر، فحتى أعتى أجهزة المخابرات لا يُمكنها كشف حقيقة البطل المصري رغم تواضع الإمكانيات العلمية والتدريبية لدى أجهزة المخابرات المصرية. تمامًا كما تفعل السينما الأمريكية والتي تحقن الشعب الأمريكي بوهم التميّز والتفرّد والبطولة الزائفة، والظهور بمظهر المُخلّص للعالم، والمنتصر للخير والقيم الإنسانيَّة.

إن من شأن هذه الأفكار أن تخلق حالة من القطيعة بين الإنسان وبين الواقع، وهو ما يجعل الإنسان مسجونًا داخل فقاعة صُنعت خصيصًا من أجله، وسرعان ما تنفجر هذه الفقاعة بمُجرد ملامسة الفقاعة لأطراف الواقع الحادة والخشنة، ليجد الإنسان نفسه أمام واقع لا يعرف عنه شيئًا. واقع بشع، وقاس، ومؤلم جدًا، فتكون ردة الفعل الطبيعية هو أن يرفض تصديق هذا الواقع، فيسهل عليه تصديق نظريات المؤامرة. إنه من الأسهل والأجمل له، أن يُصدّق تآمر العالم كله ضده، وضده شعبه وثقافته ودينه، ليس لأنه يُؤمن بذلك فعلًا، ولكن لأنها الوسيلة المناسبة للاحتفاظ بتلك الصورة الجميلة التي عاش داخلها لسنوات.

لقد قدّم مسلسل (رأفت الهجان) جرعة كبيرة من الخداع النفسي للشعب المصري، وقدّم لهم تلك الصورة التعويضية التي أرادوا أن يكونوا عليها، في شخص رأفت الهجان. الشاب المصري الذي استطاع خداع المخابرات الإسرائيلية؛ بل وكسب ثقتها وثقة الشعب الإسرائيلي. وليس هذا فحسب، بل جعلته دنجوانًا لا تستطيع الفتيات الإسرائيليات (وحتى الغربيات) مقاومة سحره، منذ اللحظة الأولى أو اللقاء الأول. وقد قدّمت هذه الفكرة بطريقة ساذجة، لا تحترم فيه عقلية المشاهدة، فخرجت بذلك من الإطار الاحترافي المحايد للأفلام الوثائقية، ليتبين لنا أننا أمام عمل درامي يهدف إلى الشحن والتوجيه المعنوي، تماما كما كان فيلم (رد قلبي) من إنتاج عام 1957.

ومؤخرا مسلسل (الزيبق) من إنتاج عام 2017، والذي قام ببطولته النجم الشاب كريم عبد العزيز، وكالعادة، فلم ينس صناع الفيلم إضافة الجانب الدنجواني على البطل، فلا يكاد يقابل فتاة أو امرأة إلا وتقع في حبه وغرامه من النظرة الأولى، وتلك النظرة الأولى تكون كافية جدا أن تغرق في عشقه وغرامه، بل وتبدأ بالغيرة عليه من الأخريات، في الوقت الذي تمتاز فيه شخصية هؤلاء الفتيات بالجدية والصرامة مع الرجال الآخرين. ويفرد لنا المخرج الكثير من وقت المسلسل في تبيان كيف تتهافت الفتيات والنساء على البطل بطريقة لا تحترم عقلية المشاهد، ولا تخدم فكرة العمل الأساسية أصلًا، ولكنها العقدة الملازمة لصناعة (البطل)، في السينما المصرية، فبطل الأعمال السينمائية يجب أن يكون محبوبا، ومحاطًا بالنساء، دون سبب أو تبرير واضح لمثل هذه الإضافة على العمل ككل.

ورغم أن مثل هذه الأعمال تضعنا أمام سؤال أخلاقي حول حرية شعب أو جماعة ما في تزوير التاريخ أو بتدخل العنصر الذاتي في تقديم الأعمال ذات الطابع التاريخي أو على الأقل المغاير للواقع، فإن هذا الأمر ليس مما يهمني في هذا المقال. فالأفلام الأمريكية التي حاولت رفع معنويات الشعب الأمريكي، وتعويضه بعد الهزيمة التي منيت بها أمريكا في حربها في فيتنام، إلا أن أحدا لم يستطع منع أمريكا أو منع أي دولة أخرى من تناول أي قضية تاريخية بحسب رؤيتها الذاتية.

ولكنني في هذا المقال أهدف إلى تناول التأثيرات النفسية لمثل هذه الأعمال على المدى الطويل، لاسيما وأن النموذج الأمريكي والمصري لا يمكن إغفالهما وإغفال تأثير المدى عليهما. فعلى مستوى النموذج الأمريكي، فلا أظن أنه أصبح خافيا على أحد كيف ساهمت هوليوود والسينما الأمريكية في إقناع الشعبي الأمريكي أن أمريكا هي أرض الأحلام، لكثرة ما تم ترديد هذه العبارة في أعمالها الدرامية والسينمائية، تماما كجملة (مصر أم الدنيا)، والتي أصبحت كالحقيقة العلمية أو المسلّمة التي لا تقبل الجدال أو الشك، في حين أن عبارة (أرض الأحلام) كانت التعبير الذي أطلقته الشعوب الأوربية التي هاجرت إلى أمريكا، فكانت ترى في الأرض المكتشفة حديثا، أرضا للأحلام، لاسيما وأن هذه المجموعة كانت ترى في هذا الاكتشاف أملا في دولة مختلفة عن الدول التي جاءت من هذه المجموعة.

كما أن عبارة (مصر أم الدنيا) أطلقها سكان الصعيد، والذين كانوا يرون في القاهرة جنة زاخرة بما لم يروا مثله ولا يمكنهم رؤيته في قراهم ونجوعهم الفقيرة والمتواضعة. ومازال المصريون حتى اليوم يطلقون على القاهرة اسم (مصر)، في سيطرة وهيمنة كاملة للمركز على حساب الهامش والأطراف. وبالتالي فقد كانت عبارة (مصر أم الدنيا) تجسديا للدهشة القروية الأولى من عوامل المدنية، لا أكثر. ورغم البدايات المحلية لمثل هذه العبارات، إلا أنها مع الوقت، ومع استخدام وتكرار الشحن النفسي في الميديا، أصبحت هي نفسها جزءًا من الشحن النفسي التعويضي.

المشكلة التي صنعتها السينما والدراما المصرية للشعب المصري، هي أنها حبستهم في قوقعة مغلقة منعزلة عن بقية شعوب المنطقة، فهم لا ينظرون إلى الدول العربية أو حتى الدول الأفريقية المجاورة إلا من منظور (الشقيقة الكبرى)، وهذه النظرة الأستاذية هي بالتحديد الحاجز الحقيقي الذي يفصل بين المصريين وبين الواقع. كما أن الميديا المصرية شحنت الشعب المصري بشحنة من الوطنية الزائدة عن الحد، حتى حلت الوطنية مكان الهوية. في عمق الشخصية المصرية ثمة قناعة راسخة بأنهم أفضل الشعوب على وجه الأرض، كيف لا وهم أصحاب أقدم حضارة بشرية (أو هذا ما تم شحنهم به)، وبصرف النظر عن صحة هذا الأمر من عدمه، فإن التركيز على هذا الجانب زاد من انعزال الشعب المصري وتقوقعه داخل فقاعة الوهم التي تمت صناعتها وخلقها خصيصًا لهم.

المشكلة الحقيقة ليست أن يعيش أي شعب داخل فقاعتهم الخاصة بهم، ولكن تكمن المشكلة الحقيقية في أن يتعاملوا مع الآخرين وفقًا لهذه الفقاعة، لاسيما إن كانت الفقاعة مفارقة للواقع والتاريخ. وهذه المفارقة هي التي تتسبب في خلق القطيعة والصدمة بين الإنسان والواقع، مما يدفعه إلى إنكار الواقع ورفضه، وبالتالي سهولة تصديق أن الواقع ما هو إلا مجرد مؤامرة تحاك ضده، أو بالأصح تحاك ضد الصورة الذهنية التي رسمتها له الميديا.

إن البوادر الحقيقية لهذه المشكلة تكمن في التصورات التي تتخلق في ذهن الشاب المصري لدى اغترابه من مصر، وذهابه إلى أي دولة (عربية أو غير عربية)، مفترضًا أن الشعوب الأخرى ستتعامل معه وفقًا لما يراه هو عن نفسه من داخل الفقاعة، فيتعامل بزهو وفخر بانتمائه، ظنًا منه بأن الآخرين ينظرون إليه وإلى انتمائه تماما كما ينظر هو إليه، ولكنه عادة ما يصاب بالصدمة عندما يشعر بأنه ليس له مكانة خاصة أو مميزة، والأسوأ من ذلك عندما يكتشف أن انتماءه مصدر من مصادر القلق بالنسبة إليه.

نعرف مثل هذا مما يمكن رصده من ردود أفعال المصريين على ما تتعرض إليه بعض الجاليات المصرية من إهانة وتعذيب، مختزلة في سؤال جوهري للغاية (لماذا يعاملنا الآخرون بهذه الطريقة؟) وتتم صياغة جميع الأجوبة المحتملة بالنسبة إليهم وفقًا لفقاعة الوهم، مما يعزز نظرية المؤامرة.
وقد يظن البعض أنني أتناول الشعب المصري بشكل خاص لغرض ما، ولكن أحب أن أذكر مرة أخرى بأن النموذج الأمريكي والمصري هنا ما هما إلا مجرد نماذج وأمثلة هي الأكثر وضوحا في المشهد، ولكن يمكننا رصد تأثيرات هذه الفقاعة لدى كثير من الشعوب، لاسيما شعوب منطقتنا، والتي تمتاز بعقدة الوهم بطريقة أو بأخرى. فنحن في السودان مثلًا نعيش داخل فقاعة، تجعلنا نشعر بأننا الأكثر تميزًا من غيرنا في كل شيء، فموسيقانا مميزة عن موسيقى بقية الشعوب، ومن لا يستطيع تذوق موسيقانا، فهو يعاني من مشكلة في ذائقته الموسيقية، ونحن الأفصح لسانًا، ولهجتنا هي الأقرب إلى الفصحى من غيرنا من بقية الشعوب (العربية)، ونحن الذين علمنا شعوب المنطقة معنى الثورة، فنفتخر بأننا قمنا بثلاث ثورات، في حين أن كثرة الثورات ربما كانت دليلًا على عدم الوعي السياسي للشعب.

فهاهو الشعب الفرنسي لم يقم إلا بثورة واحدة في تاريخه، ولكنها كانت ثورة تصحيحية وضعت الأسس والقواعد لكل ما جاء بعد ذلك، وهنالك بلدان لم تشهد ثورات على الإطلاق، ورغم ذلك فهي تتمتع بمناخ ديمقراطي، وتطور ونمو اقتصادي وصناعي. فالمسألة لم تكن أبدا بالعدد والكم. ولكنه حب التفاخر بأي شيء. إننا حرفيا نبحث عن أي شيء يميزنا، عن أي شيء يجعلنا أفضل من الآخرين، وهذه أمارة من أمارات عقدة النقص والشعور بالدونية. ربما ساعدت شهرة الدراما المصرية في وضوح النموذج المصري، ولو كان لبقية الدول الأخرى تاريخ مصر السينمائية، لكان لنا الآن أكثر من نموذج واضح لكارثية هذه الفقاعة الوهمية.

إن مثل هذه الفقاعة، في عصر كالذي نعيش فيه اليوم. عصر العولمة والانفتاح على الآخر، تعتبر علامة غير جيدة، فتقوقع مجتمع كامل، وانغلاقه يجعل من الصعب جدا إحداث أي تغيير فيه. وعلينا أن نعمل على إسقاط هذا القناع الانعزالي الذي نرتديه، وتفجير هذه الفقاعة الوهمية، لنتصالح مع الآخر، ولنعلم أننا جزء من هذا العالم ومساهمون في صناعة تاريخه بالكامل. لا منّة لأحد فينا على الآخرين، ولا فضل لأحد على أحد. إن مثل هذا القناع وهذه الفقاعة، قد تكون النواة الحقيقية للعنصرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا ثورة ولا بطيخ
هاني شاكر ( 2019 / 9 / 26 - 22:39 )

لا ثورة ولا بطيخ
________

الدانمارك دولة صغيرة هادئه مسالمة ... شعبها متعلم ، متقدم ، هادئ ... لم تقم بثورة ولا بطيخ ، لكنها اهم و انفع من كل الدول العربية مجتمعة

صحيح كلامك استاذنا ... ليس بكثرة الثورات تُقَدر الشعوب

.....


2 - العقدة الأكبر من مصر أم الدنيا: نحن خير أمة
ليندا كبرييل ( 2019 / 9 / 27 - 04:54 )
الأستاذ هشام آدم المحترم

تحياتي الطيبة وأتمنى أن تكون بأحسن حال

كلامك عزيزي ينطبق على الشعوب والمجتمعات والأفراد
على كل واحد فينا
ما أكثر الذين يعتقدون اعتقادا راسخا أنهم يتمتّعون بشعور التفوّق والتميّز الذي يمنحهم شرعية تقويم الآخرين ، انطلاقا من هذه المكانة الرفيعة التي هيّأتْها لهم أوهامهم فسجنتهم ضمن أسوار أصبح من الصعب تهديمها

ظننّا أننا أهل الثورات فإذا بالثورات تكشف عن حقيقة أننا أهل التقتيل والتدمير، وعدم وعي شعوبنا بمصلحتها

نحن في عالم جديد، يكتسح كل ميل للانغلاق والاقتعاد والتقوقع، ومهما عاش أهل الفقاعات الوهمية في لذيذ أحلامهم، فإن التاريخ إلى الأمام ولا يسأل عمّن يتركون فجوات الحياة خالية

تحياتي الطيبة إلى الأستاذ هاني شاكر الذي طال غيابه كثيرا، وأرجو أن يكون بخير

للأستاذين القديرين احترامي وتقديري



3 - انه عصر الفقاعات
محمد البدري ( 2019 / 9 / 27 - 05:06 )
عزيزي هشام آدم
اتمني عليك اكمال مسلسل الفقاعات وما اكثرها، اما الفقاعة الاكبر والاكثر دويا فلماذا لم تتوقف عندها؟
إنها قضية تحرير فلسطين التي انتهت وتفجرت بدبوس ابرة في يونيو 67 في مؤخرة الزعيم والتي لم تؤلمه اطلاقا فالزعيم لا يتألم، حسب المشهد الذي املاه القومي العروبي صدام حسين لاخراج الرصاصة دون بنج علي المخرج توفيق صالح، انما احس بها ولازال الشعب المصري ويسمع دوي انفجارها بصديدها حتي اليوم. الم تسمع فيديوهات محمد علي وفيفي عبده. انها مجرد بقاليل وليست فقاقيع لان ما خفي كان اعظم.

تحياتي


4 - انطباع
على سالم ( 2019 / 9 / 27 - 05:24 )
تحليل الفقاعه المصريه هى حقيقه واقعيه فى الشارع المصرى المأزوم منذ عقود طويله , نعم توجد فقاعات كثيره مختلفه فى فكر وكيان اولاد الشعب المصرى البائس الذى يعانى من دمار نفسى شديد وخلخله عقليه ونفسيه حاده وسطحيه فى التفكير وعبط فى السلوك وتفاهه فى الكلام , عندما يضخ الاعلام المصرى المغرض الكاذب الداعر حمله ضخمه ويقول ان الشعب المصرى من اعظم شعوب العالم ويملك اكبر حضاره فى التاريخ وتفخيم فى الذات وانهم افضل البشر فى الكون وسيد البشر , عندما يخلوا المصرى المخدوع الى نفسه يكتشف انه عبد وذليل ومنعدم الكرامه ولايملك عمل ولابيت ولاوظيفه وجائع معدم يعانى من البؤس والالم والاحتقار والتهميش والقمع والضرب والسجن والاغتصاب والاعتقال والساديه , هنا تحدث له انتكاسه ومرض الفصام والفوضى الفكريه والهلاووس السمعيه والبصريه , الحقيقه ان عقله يعانى من العظمه التى يتشدق بها وحقيقه انه عويل وتافه وليس له وزن او اى احترام , هذه معضله كبيره عند الشعب المصرى الحاقد الناقم المحروم

اخر الافلام

.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_


.. تستهدف زراعة مليون فدان قمح تعرف على مبادرة أزرع للهيئة ال




.. فوق السلطة 387 – نجوى كرم تدّعي أن المسيح زارها وصوفيون يتوس


.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال




.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا