الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرق والتاريخ ( كلود - شتراوس في مواجهة روجيه كايوا )

باور أحمد حاجي
كاتب

(Bawer Ahmed Haji)

2019 / 9 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في عام ( 1952م ) طرحت منظمة اليونسكو مشروع إصدار سلسلة من الكتيبات الرامية إلى دحض الأفكار العنصرية , ومن بين تلك الكتيبات واحد لكلود ليفي- شتراوس ( 1908- 2009م ) بعنوان ( العرق والتاريخ ) , فقد عانى شخصياً من العنصرية لأنه اضطر إلى العيش في المنفى لمجرد أنه يحمل اسماً يهودياً , وكان الرجل يتمتع بالمصداقية العلمية اللازمة لتناول هذه المسائل , وبالإضافة إلى ذلك لم يكن اهتمامه بالمسألة أكاديمياً صرفاً , فالأنتروبولوجيا كما أوضح في كثير من الأحيان في مؤلفاته ليست بالنسبة إليه مجرد مبحث علمي من بين مباحث علمية أخرى , بل هي نقطة اختتام موقف فكري ومعنوي نشأ منذ قرون عديدة يطلق عليه اسم المذهب الإنساني .
وخلافاً للكتيبات الأخرى التي طلبت المنظمة تأليفها للغرض نفسه , حقق كتيب ( العرق والتاريخ ) نجاحاً مدوياً وأثار لغطاً وجدالاً لاسيما المناظرة بين الكاتب وأحد الذين سيصبحون زملاءه في الأكاديمية الفرنسية وهو روجيه كايوا ( 1913- 1978م ) , فقد كان شخصية فكرية مرموقة في تلك السنوات , وروائياً وشاعراً وكاتب مقالة وباحثاً اجتماعياً , وعلاوة على ذلك يشغل منصب مدير منظمة اليونسكو , وكان بوسع المرء الاعتقاد أنه سيؤيد الأفكار التي أعرب عنها ليفي- شتراوس , ولكنه أظهر استياءً بسبب ما تراءى له تنكيراً للغرب , وفي مقالة طويلة تحمل عنوان ( العد العكسي للأوهام ) صدرت في المجلة الفرنسية الجديدة , سخر من الذين اختاروا الإتنوغرافيا لأن رغبة في التحدي لا تقاوم كانت تدفعهم إلى تفضيل الأشكال البدائية كموسيقى الجاز على موزارت , والاختلاجات التي يسببها استحواذ الجن التي لا يؤمنون بها على عبادة إله لا يؤمنون به كذلك , ولكن خطأه أنه إله أجدادهم , وهو إله يخجلون من أنهم آمنوا به .
كان كايوا يريد أن يكسب تأييد الساخرين , ولقد نجح في ذلك فردّ عليه ليفي- شتراوس الذي اتهم بالاسم في مجلة ( الأزمنة المعاصرة ) التي كان يشرف عليها جان بول سارتر , رداً جامحاً وبين : أنه كان ديوجين يبرهن الحركة وهو يمشي , والسيد كايوا يرقد لكي لا يراها , إنه يرجو على هذا النحو أن يحمي من أي تهديد تأمله المغتبط لحضارة –هي حضارته- لا يجد ضميره ما يلومها عليه .
تصدّرت سجالهما مسألة تاريخية ومعنوية ما زالت مطروحة , ويمكن إيجاز مضمونها كما يلي : في أيامنا الراهنة لا جدال في أن هناك حضارة هي حضارة الغرب أصبحت الحضارة المرجعية بامتياز للبشرية جمعاء , وفي أن صعودها أدى إلى تهميش جميع الحضارات الأخرى , وأحياناً إلى إلغائها , ويبقى أن نعلم ما إذا كان القيّمون على الحضارات المهزومة قد حصلوا مادياً وفكرياً على ما يعوّضون به عما فقدوه من ناحية الهوية وأسلوب العيش , إنه سجال يستمر بتعبير أمين معلوف , ويستمر طويلاً بأشكالٍ شتى , لاسيما بشأن معرفة ما إذا كانت حصيلة الاستعمار بالأمس أو العولمة حالياً , يجب أن تعتبر إيجابية أو كارثية بصفة عامة .
يرى كايوا أن ما قدّمه الغرب من إسهام لمجمل البشرية كان فريداً وشمل ميادين كثيرة , ولا بد أن يكون المرء نكداً أو مدفوعاً بكراهية الذات لكي لا يسلّم بذلك , فيما اعتبر ليفي- شتراوس أن من غير المقبول أن تجيز حضارةٌ لنفسها وإن كانت حضارته , وإن كانت أكثر الحضارات إشراقاً سحق الحضارات الأخرى على طريقها براحة ضمير , كيف يسعنا أن نبقى هكذا في تأمل مغتبط , ولدينا في قلب أوروبا الدلالة على البربرية التي يعجز الخيال عن تصورها لأولئك الذين ينادون بإصرار شديد بتفوّق الغرب والعرق الأبيض ؟ ولقد كتب يقول : البربري هو الإنسان الذي يؤمن بالبربرية . فردّ عليه معارضه : هذه الجملة إنما تحوّل فقط الإغريق والصينيين إلى برابرة بامتياز , نظراً لأنهم حدّدوا أنفسهم بوصفهم المتحضرين بالمقارنة مع الهمجية السائدة من حولهم التي يٌعترف لهم رغم كل شيء بالجدارة والعظمة لارتقائهم عليها .
استمر السجال بين الرجلين لبضعة أشهر على مرأى ومسمع من المفكرين الفرنسيين المهتمين لاسيما وأن البلد كان يعيش وسط أنواء حقبة إلغاء الاستعمار , ثم صمت الجدل لا بسبب مصالحة , ولا حتى بدافع السأم , بل لأن كتاباً صدر في تلك الفترة بعنوان ( مدارات حزينة ) , وبدّل صورة ليفي- شتراوس ومكانته وجعله بين عشية وضحاها أكثر مناعة من أن يتعرّض للنقد .


مصادر
1- شتراوس , كلود ليفي , بدون تاريخ النشر : العرق والتاريخ , ترجمة : د . سليم حداد , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت .
2- معلوف , أمين , 2017م : مقعد على ضفاف السين ( أربعة قرون من تاريخ فرنسا ) , دار الفارابي- بيروت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تحرك تصريحات بايدن جمود مفاوضات الهدنة في غزة؟| #غرفة_الأ


.. ممثلة كندية تتضامن مع غزة خلال تسلمها جائزة




.. كيف سترد حماس على بيان الوسطاء الذي يدعوها وإسرائيل لقبول ال


.. غزيون يستخدمون مخلفات جيش الاحتلال العسكرية بعد انقطاع الغاز




.. صحيفة الغارديان: خطاب بايدن كان مصمما للضغط على إسرائيل