الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فكرة -المظلوميّة- نفط لا ينفد

نصير عواد

2019 / 9 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كلّ الذين فقدوا ما بأيديهم لبسوا ثوب المظلومية، اليهود والكورد والشيعة والمسيحيين والاخوان المسلمين...، بعد ان دلتهم خبرتهم إلى ان تعبير "المظلوميّة" يثير المشاعر كلّما جرى حشره في الحوار الدائر حول الحقوق. الحركات اليقينيّة، دينيّة كانت أو قوميّة أو طائفيّة أو حزبيّة، هي الأكثر تبنيا لفكرة المظلوميّة. فهي حركات تحمل مبادئ مطلقة، تمزج بين الماضي والحاضر، وتستند إلى وقائع وأسماء لا غبار عليها، سداها الحزن ولحمتها البطولة.
المعروف عن الاحساس بالظلم انه رافق البشرية منذ البدايات، وان هناك أسماء وحركات وثورات عُرفت بذلك، ولكن ليس الجميع نجحوا برسمِ صورةٍ نمطية للـ"المظلوم" عابرة للزمان والمكان كما فعل اليهود والشيعة والكورد. وهذا على الاغلب ناتج عن تمركزهم حول الدّين والمذهب والقوميّة، إضافة إلى عوامل تاريخيّة واحداث معاصرة نجحت هذه المجموعات في استغلالها وتوظيفها لإبقاء جذوة الفكرة حاضرة في الذاكرة الاجتماعيّة. بمعنى أن فكرة "المظلوميّة" ليست حديثة النشأة، او انها نشأت عند قوم دون غيرهم. فهي مرتبطة بالصراعات والحروب، فيها الموت عنصر أساس، يجر خلفه بكائيات وثياب سود وفقدان "إمامة" وضياع حقوق، كل ذلك مسور بروايات وحكايات تعضّد الفكرة. عندنا في العراق خلّف الصراع السياسيّ-الاجتماعيّ عدّة مظلوميّات، دينيّة وقوميّة ومذهبيّة، لكلّ واحدة اعراضها وافرازاتها. مظلوميّة شيعيّة ضاربة في القِدَم تشكو فقدان إمامة ومقتل آل البيت (ع) وقسوة الديكتاتور، وأخرى كورديّة ترعرعت قبل واثناء الحربين العالميتين تشكو ظلم الحكومات العراقيّة المتعاقبة منذ تأسيس الدولة وحتى اليوم، وثالثة سُنيّة جاءت مع الاحتلال الأمريكيّ للعراق تشكو ضياع الملك وظلم ذوي القربى. وهناك مظلوميّات خفية ومستمرة تحدث للغجر والايزيدين والمسيحيين والصابئة. هؤلاء الاخيرين ناموا على جروحهم، فليس لديهم مال وسلاح وإعلام يتحدث عنهم، في حين ان الشيعة والسُنة والكورد استمروا بالهرولة خلف بقرة المظلوميّة، يحلبونها بمناسبة ومن دون مناسبة، انتهوا إلى ان حولوها لعبةً حزبيّة، ذهبت بمعاناة الضحايا الحقيقيين.
لا نبالغ بالقول ان اغلب الذين يدّعون "المظلوميّة" هم ميالون للعنف. يخبئون السلاح ويشكّلون الكتائب السّرية ويكدسون الأموال اللازمة لإدامة العنف. فالأحزاب السياسيّة التي وصلت كرسيّ السلطة بالعراق تشعر بالتهديد من شعبها ومن الأحزاب الأخرى، حتى لو لم يكن التهديد جديّا. وهو ما دفعها إلى صنع تنظيمات ومؤسسات تعمل في المنطقة الرماديّة بين الشعارات الدينيّة، أو القوميّة، وبين واقع الحياة اليوميّة. سعت فيها تلك الأحزاب جاهدة إلى عسكرة تنظيماتها والإبقاء على مساحة بين مؤسساتها السّرية وبين مؤسسات الدولة الرسميّة، من دون التخلي عن نفوذها في البرلمان والحكومة والقضاء. ثم الهوا العامة بفوضى القوانين التي تقاطع بعضها بعض، والتي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع. قوانين فُصلت على مقاس الأحزاب لا على مقاس الوطن والمواطن، صارت بموجبها سلطة الأحزاب تستمد قوتها من ضعف سلطة الحكومة، وتسهل انتقال بعض مهام سلطة الحكومة إلى سلطة الأحزاب المسلّحة، من دون الإعلان عن ذلك رسميّا، حتى لا يتم بشكلٍ مفضوح انتزاع امتياز (قيادة الدولة) كما حدث مؤخرا في اعتقال المليشيات للسيد "حمزة الشمري" ابن المرجعيّة وصاحب صالات القمار بالعاصمة بغداد. إنّ ضعف الدولة العراقيّة، في جزء منه، كان نتيجة دستور "بريمر" الأمريكي الذي هدم الدولة وأطلق عنان المكونات. فعندما تضعف الدولة وتنشط أحزاب المكونات ستنشأ لا محالة سلطة معلنة وأخرى غير معلنة، وهذا من شأنه ان يخلق اضطرابا يضع المواطن في حيرة أي من السلطتين أهم؟ وهل سيتبع هذه أم تلك؟ فالدولة ترتكز إلى قوانين ومؤسسات ثابتة في حين ان احزاب "المكونات" حركيّة تعمل وفق مصالحها، وقد تخرق الأحزاب قوانين الدولة للوصول إلى اهدافها. في مثل هذه الظروف المعقدة تشتغل فكرة "المظلوميّة" بوصفها متراسا للدفاع والهجوم في آن، فيها للأساطير والشعائر ركن ركين في حائط المتراس. وما زالت ماثلة في الذاكرة نزاعات "المكونات" بعد سقوط الديكتاتور، وكيف كان القرن الأول للهجرة حاضرا فيها بأحداثه وأسمائه وألقابه. نزاعات ومذابح لم يأتِ بها افراد يمكن تسميتهم بل أتت بها أحزاب قوميّة وتيارات طائفيّة تخندقت خلف حقوق مظلومة ونصوص مقدسة، جعلت إبعادهم عن خندقهم وسلبهم ما حصلوا عليه صعبا ومستحيلا.
أحيانا نشهد تنافساً بين "المظلوميّات" يرسم مشهداً بائساً للضحايا وهم يتقاسمون ارث جلادهم، يتبارون فيه بعشقهم للأرقام، تصبح معه مائة مقبرة جماعيّة مئات المقابر، ومائة قرية كورديّة مدمرة مائة ألف، وستتضاعف الأرقام تباعا مع ضحايا القصف الكيمياوي والانفال وتهجير الاقليات... وهي ارقام نسمعها فقط من افواه السياسيين، ولن نسمعها من مؤسّسات محليّة ودوليّة معنية بهذا الشأن المؤلم. أحيانا يحمل في طياته التنافس بين "المظلوميات" تبادلا للتهم، يغمزون فيه إلى سير الكورد على خطى اليهود في التحايل وابتزاز الدولة العراقيّة، وكيف ان ساستهم كدسوا الأموال والسلاح وبنوا المدن، وفي ذات الوقت يشكون حالهم و"مظلوميتهم" مع ان آلية التحايل على الآخر، وابتزازه، تمارسه كل المجموعات العراقيّة، بعد ان عرفوا انها آلية مُجربة في الحصول على الحقوق. صحيح ان استمرار الابتزاز لأعوام طويلة ينتج ردود أفعال متباينة من التحريض والاحتقار، كما حدث لليهود في الدول الاوربية، ولكن هذا لم يمنع اليهود من الاستمرار في ابتزاز تلك الدول، تحت بند المظلوميّة وغرف الغاز، للحصول على امتيازات ماليّة وسياسيّة. أردنا القول ان افتضاح التكسب السياسيّ والماليّ من فكرة "المظلومية" لا يقلل من بقاءها كالجمرة تحت الرماد، يجري إخراجها والنفخ فيها عند كل أزمة، لتسخين المخيلة ورص الصفوف في الصراع الدائر. ولذلك فإن الحديث عن أفول فكرة "المظلوميّة" فيه الكثير من التبسيط، فالحروب وغياب العدالة الاجتماعيّة والتدافع على الغنائم، الذي عادة ما يذهب ضحيته الفقراء والضعفاء، كفيل بإنتاج الظلم ومد فكرة "المظلوميّة" بطول بقاء. وما يحدث بالعراق أشار إلى ان خطاب "المظلوميّة" له حضور وقدرة على إعادة إنتاج مفرداته وأسمائه في فوضى الصراعات الحالية على الرغم من انه يبدو أحيانا خارج السياق، كاريكاتوريا، سيما حديث الساسة وهم يحتقرون الاعتبارات ذات الطابع النفعي ويتباكون على حالهم، وهم في ذات الوقت يملكون المال والنفوذ والمليشيات، ويستطيعون اسكات خصومهم تحت مظلة القانون او خارجها.
إنّ أغلب الأحزاب السياسيّة العراقيّة الجديدة جاءت كردّة فعل على نظام الحزب الواحد، وأنشأت مؤسساتها معتمدة على نهب أموال الدولة. وعندما سنحت الفرصة لأحزاب الإسلام السياسيّ (الشيعي) بالوصول إلى كرسيّ السلطة تحوّلت مَن مجموعات مظلومة إلى أحزابٍ طائفيّةٍ بأذرع مسلّحة، تنفذ مهمات متناقضة ومتوازنة في آن. أحزاب تناوئ الاحتلال والإرهاب وفي ذات الوقت ترهب الشارع وتذل المواطن، وكأنها في صراع ضد الجميع. يذكّرنا ذلك بمصطلحات الثوريين بداية القرن (19) التي كانت تنادي بالثورة الدائمة. ورغم اختلاف المنطلقات إلا ان احزاب الإسلام السياسيّ (الشيعي) افادت نظريّا من المصطلح، ومزجته بإرث "التقية" الذي حوّل نشاطها إلى السّرية التامة، فلا أحد يعرف كمية سلاحها ومصدر أموالها وعديد مقاتليها. إنّ تسليح المليشيات خارج إطار الدولة، وضد إرادة المجتمع المنقسم على نفسه، جلب مشكلاته معه، وأضعف الوطنية العراقيّة، تجلى في اعلان بعض الفصائل المسلّحة بالوقوف إلى جانب دول مجاورة والقتال في قضايا بعيدة عن الوطن. اعطى ذلك الانطباع بأن هذه المليشيات غير قادرة على الاعتراف بالوقائع على الأرض، وإنها بحاجة دائمة إلى مناطق ساخنة تنمو فيها، بالتالي فإنها حتى لو انتهت من اعداءها الواقعيين (البعثيين والامريكيين والداعشيين) ستعمل على تصنيع أعداء جدد (موضوعيين) في حمى الصراعات السياسيّة القادمة. فبسبب حداثة تشكّلها لا تستطيع احزاب الإسلام السياسيّ تجنب الصراعات، وغالبا ما تتعثر في حراكها بعوائق لا عهد لها بها، تواجهها بالسلاح والفتاوى. فهي قاتلت بعضها اثناء التدافع على السلطة والنفوذ، وقاتلت مَن نطق الشهادتين لأسباب طائفية، وهاجمت الغجر العزْل لأغراض المناورة والدعاية الدينيّة، ثم انتهى شرارها للحديث عن فئات مؤجلة مواجهتها، كالعلمانيين والشيوعيين. كشف ذلك عن حقيقة انه لا توجد عند المتشددين احداث وفتاوى منتهية الصلاحية، وانهم قد يستعيدونها لصنع الأعداء والأعداء المحتملين.
رغم التغييرات التي حدثت في بنية الإسلام السياسيّ الشيعيّ، بعد وصولهم كرسيّ السلطة، إلا ان خطابهم لم يذهب بعيدا عن فكرة "المظلوميّة" وانهم ما زالوا ضحايا بني أُميّة، وعلى ما يبدو انهم سيبقون كذلك. انهماك خطاب "المظلومية" بالتاريخ والاساطير والبطولات الحزينة لا يمنع المصادفات والصراعات على النفوذ والثروة في ان تتكفل بعملية انبعاثه وارتدائه أثواب جديدة، وقد تنشط فئة منهم بخلق الحجة التي تستدعي الدفاع عن المظلومين في أمكنة بعيدة أو لـ(لحماية مراقد الأئمة) في دول مجاورة. بكل الأحوال المليشيات المسلّحة ليست بحاجة إلى تبريرات سياسيّة أو مسوغات قانونيّة ودوليّة للدفاع عن المذهب هنا او هناك، فعملهم مستوحى من التزام دينيّ-سياسيّ لا يمكن تخطئته، حتى لو افتقد المنطق. وبالتالي فإن هذه الاحزاب لن تكف عن التمدّد وتهديد الآخرين، ولن تنصرف عن فكرة " المظلوميّة" حتى لو ظلمت الآخرين، ولن تتخلى عن السلاح حتى لو تحققت أهدافها. فهي جاءت وسلاحها بيدها، وقد لا تستطيع البقاء والاستمرار من دونه.













التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أي دور قد تلعبه المعارضة العلمانية في سوريا بعد الإطاحة بالأ


.. تقوم على الطائفية والدولة الأمنية.. ملامح سياسيات حافظ الأسد




.. موازين | المسلمون في الهند.. أي مستقبل؟


.. ساعة حوار من دمشق | أسباب ظهور الطائفية في سوريا بعهد الأسد




.. موفد العربية طاهر بركة: الشرع يؤكد طلب إيران حماية سفارتها و