الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجودية[15]: موت الله والدين

إبراهيم جركس

2019 / 10 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


======================
مع أنّ موت الله حدثٌ لم يكن يتعلّق بالله وحده، إلا أنّه يتمحور حول مفهوم الله. بالأصح ربما كان يتمحور حول الدين والله. فالدين بطبيعة الحال يقدّم الجواب ويمنح الله مكانته ومعناه. فكّر بالفروقات بين الديانة اليهودية وكتابها المقدس، حيث أنّ إرادة الله مُعَبّرٌ عنها من خلال كثرة القواعد والقوانين وتنوّعها، والديانة المسيحية حيث يصهر المسيح جميع هذه القواعد والقوانين في قاعدة واحدة تتمثّل في محبّة الله ومحبّة الجار. هنا، لدينا تصوّران مختلفان عن نفس الإله، بل وحتى عن نفس القوانين والقواعد، ضكن تقليد واسع وشامل. ثمّ لدينا فرق كبير وواسع بين التصوّر/التصورات اليهودية-المسيحية للإله، ومفهوم الألوهية في الديانات الوثنية والشرقية.
الدين يضع كل شيء في مكانه، حتى الله نفسه. إنّه يحكم الكون ويساعدنا على فهمه، ويمنحه المعنى والغاية. وهو يفعل ذلك من خلال خلق أو تصوّر قصّة عن الله، عن ماهيته وهويته، وعن مشيئته، وعن علاقتك به. إنّ معناك/غايتك/هدفك/مقصدك، فهمك لمكانك في الكون، بل حتى فهمك لعلاقتك بالناس الآخرين محدّدة ضمن إطار علاقتك بالله. إنّ موت الإله، فيما يتعلّق بالدين، يعني القول أنّ الرواية التقليدية حول هذه العلاقة قد انهارت. لم تعد تمتلك المقوّمات التي تساعدك على صاغة فهمك للعالم من حولك ولمكانك فيه.

# كيف ماتت المسيحية على سبيل المثال؟
------------------------------------------
مرّت الديانة المسيحية عبر مرحلتين خبرت فيهما نجاحاً باهراً، إذ مهما كان النقد الذي قد توجّهه إليها أو ضدّها، سيتوجّب عليك الاعتراف بأنّ الله كان حياً وعلى أحسن مايرام. هنا نتحدث قليلاً على كل مرحلة من المرحلتين:
الأولى: /المسيحية المبكّرة/ كان المسيحيون الأوائل يميلون إلى التكتّم والانعزال، لقد عاشوا ضمن جماعات صغيرة وقروية عادةً. في ذلك الوقت، لم تكن المسيحية عقيدة أو منظومة عقائدية، بل طريقة في الحياة. حتى الطغاة من الرومان الذين اضطهدوا المسيحيين كانوا يشهدون بنزاهتهم وبساطتهم وصدقهم وإخلاصهم لمعتقداتهم. قال نيتشه أنّ الناس يجب أن يعيشوا في خطر، والمسيحيون الأوائل كانوا يعيشون وفقاً لهذه المقولة. فمجرد قولك أنّك تجبّ يسوع المسيح كان كافياً لأن يجعل منك إنساناً ممقوتاً، بل حتى طعاماً لذيذاً للأسود. وقد تتعرّض في أحسن الأحوال للنبذ. لم تكن العقيدة المسيحية مجرّد شيء ورثته عن الناس أو عرفاً من الأعراف أو التقاليد الت يمارسونها. بل كانت نتاج خيار متورّط أو متحمّس. كانت المجتمعات المسيحية الأولى تتشارك هذا المعتقد من خلال الشغف المبتادل والمشترك بينهم والنمط المشترك للحياة فيما بينهم وليس عن طريق التبشير أو الفرض على الآخرين. فلو نظرت إلى اليهود الحسيديين اليوم أو شعب الأميش في ولاية بنسلفانيا اليوم، لتعجّبتَ حقاً وتسائَلت ما إذا كان الله ميتاً بالنسبة لهؤلاء القوم. وعلى غرار المسيحيين الأوائل، فقد نظّموا كامل حياتهم وفقاً لرؤية دينهم الجديد.
الثانية: /المسيحية الوسيطة/ المجتمعات الصغيرة يمكن ترتيبها وتنظيمها حسب طريقة المسيحيين الأوائل، ولكن مع تزايد أعداد الناس في المجموعة، وازدياد عدد أفرادها وتابعيها، تتغيّر طبيعة المعتقد نفسه. يبدو أن البشر يميلون بشكل طبيعي نحو البنى التراتبية ويقبلون بها. ومع تطوّر العقيدة المسيحية إلى ديانة، فقد انتقلت من مرحلة الخبرة والتجربة إلى مرحلة المنظومة العقائدية _نظام لاهوتي قائم ببنية عقائدية منظّمة ومعقّدة جداً إضافةً إلى نظام سياسي أدخل المعرفة والسلطة في صميم البنية التراتبية/الهيراركية. مع أنّ معظم الناس اعتبروا ذلك نهاية الدين المسيحي الحقيقي، إلا أنّ الكنيسة قد ازدهرت وانتعشت كنظام تراتبي مطلق واضعةً كل شيء _من الله نفسه، إلى الوجود والكون، والملوك وحتى الفلاحين وباقي المخلوقات_ في مكانه بالضبط. وخلال ظهور هذا النظام، عرف كلٌ مكانه الذي رُسِمَ له، وعرف كلٌ ما معنى أن يكون حياً. كان رواية الكنيسة (أساساً) مقبولة عالمياً وقدّمت الأرضية المناسبة التي يقوم عليها المجتمع وكل شيء آخر.
وبعد أن أصبحت الكنيسة نظاماً عقائدياً مطلقاً، أصبحت كياناً منيعاً. والمشكلة مع الأنظمة المنيعة المطلقة هي أنّها مطلقة. أحد الأسباب في أنّ المؤسسات العقائدية كالكنيسة مثلاً محافظة جداً وعدائية بصورة عنيفة تجاه أي معتقدات أو أفكار أخرى لا تتوافق أو تتناسب معها هو أنّ أساس النظام المطلق يتمثّل في أنّ كل شيء يتناسب معه. فبعد أن تبدأ بالتلاعب بافتراضاتها الأساسية، ستغدو قادراً على إعادة صياغة الأمور فكرياً وتنظيمها حتى تتناسب مع الأفكار الجديدة. لكنك قد ناقضت مسبقاً وعلى نحو صعب التغيير أكثر الافتراضات الأساسية لدى النظام: أنّ الكون مكان منظّم وأنّ هذا النظام يكشف ذلك التنظيم، ويفهم مكان كل شيء، ويمكن أن يكون دليلاً لفهم مكانك في الكون.
لذا عندما يدّعي مثيرو المشاكل أمثال كوبرنيكوس أنّ، من الناحية العلمية، القول بأنّ الأرض تدور حول الشمس يبدو أكثر منطقية وعقلانية، فإنّ هذا كافٍ بالنسبة للكنيسة القول أنّ هذا الزعم هرطقة وأنّه من شأنه أن يقوّض اسس الإيمان القويم. وسيحدث ذلك فعلاً على المدى البعيد. إنّ التقدّم البطيء للعلم قد قوّض النظرة المثالية والحصرية التي صاغتها الكنيسة إلى جانب دور الكنيسة كَحَكَم نهائي للحقيقة وكصائغ لتلك النظرة.
ومع تزايد السلطة السياسية للكنيسة، أصبحت واحدة من القوى المتنافسة ذات التأثير على المجتمع. لكنّ الأنظمة الشمولية المطلقة تنتعش وتزدهر على فردانيتها وواحديتها وإقصائها لمختلف النظم الأخرى. لم تكن سلطة الكنيسة وتأثيرها هما الأمران الوحيدات اللذان تعاظما، بل أيضاً قدرتها على إضفاء المعنى والقيمة على عناصرها. وبعد أن أصبحت الكنيسة قوّة بين عدّة قزى متنافسة، أصبحت خياراً متاحاً بين عدّة خيارات متاحة بدرجة أو بأخرى. لكن ذلك يتضمن سؤالاً مفتوحاً. وبعد أن يحدث ذلك، فإنّ بريق وأمان اليقين المطلق يُفقَد، وتنكسر القبضة التي كانت الكنيسة تُحكِمها على المجتمع. وبدون القوّة الثقالية لهذا اليقين المطلق وحالة الاطمئنان والاستقرار التي يقدّمها، يميل الناس للابتعاد ليس فقط عن عضويتهم في الكنيسة، بل أيضاً عن التقبّل الكامل للنظرة الكنسية.

# مع حلول القرن التاسع عشر، عندما كان الوجوديون الأوائل يكتبون نصوصهم، كان نظرة الكنيسة إلى الوجود والعالم قد قوّضت وتفكّكت مسبقاً. إذ أنّ معظم أوجه التقوى والاستقامة في ذلك العصر كانت مجرّد مظاهر شكلية وسطحية مفروضة من خلال العُرف الاجتماعي. حتى أنّ مرتادو الكنائس كانوا عالقين في نفس المأزق وشاعرين بالاغتراب بنفس درجة هؤلاء الذين كانوا قد ابتعدوا عن الكنيسة. لماذا؟ لأنّ المسيحيون يشبهون في تنظيمهم تنظيم الساموراي.
من المتعارف عليه في اليابان أنّك لا تستطيع أن تصبح ساموراي. قد يكون بإمكان حمل سيف، أو أن تضع نفسك تحت تصرّف أحدٍ ما، أو أن تتبع قاعدة شرف خاصة بك، لكنك لن تصبح ساموراي أبداً. لأنّ كون الشخص من الساموراي معناه أنّه شيء أكبر من ذلك بكثير. فأن تكون ساموراي معناه أن تكون جزءاً من شيء أكبر منك بكثير، يعني أن تكون ضمن إطار شيء يحمل أهمية ثقافية وحضارية معيّنة. أن تكون ساموراي معناه أن تكون جزءاً من تقليد ذو معنى يشمل المجتمع بكامله.
هل يمكن للناس أن يكونوا مسيحيين اليوم؟ بالتأكيد، لكنهم لن يكونوا مسيحيين بالمعنى الذي كان فيه المسيحيون خلال المئة عام التي سيطرت فيها الكنيسة على مختلف المؤسسات السياسية والفكرية والثقافية والحضارية في أوروبا. فالمسيحية كنظام شمولي مطلق يقدم نظرة ذات معنى متجانسة لمجتمع بكامله، قد ماتت الآن. والعالم الذي كانت فيه تعاليم الكنيسة تنعكس في جميع حقائق العالم المادي لم يعد موجوداً. حتى إذا كنت تؤمن بالله، وتؤمن بألوهية يسوع المسيح، فإنّ ذلك النمط من المسيحية قد مات واندثر كما اندثر نظام الساموراي.
بالنسبة للوجوديين المسيحيين، كان هذا الأمر جيداً إلى حدٍ ما. فقد كان ثمن الاطمئنان المطلق الذي منحته الكنيسة التنازل عن مسؤوليتك الفردية والشخصية تجاه إيمانك وانخراطك الشغوف فيه. وهذا _بالنسبة للوجودي_ مكافئ للتنازل عن إنسانيتك (ويمكن القول عن روحك وبيعها للشيطان).
وبعد أن تفقد الكنيسة هذه المكانة الميزة والمطلقة، يصبح لزاماً على الفرد أن يعيد تعريف نفسه. فالمسيحية _المسيحية الحقيقية، الشخصية، الشغوفة_ تصبح مرةً أخرى خطيرة وتصبح مرةً أخرى ممكنة. لكنّها ليست شيئاً يمكننا أن نستهين به. إنه أمر صعب. لأنّ المسيحية قد خسرت مكانتها كنظام سائد، فقدت بريقها، فالإله ميّت بالنسبة للمسيحي كما هو بالنسبة للملحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه