الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طقوس الموت و الدفن و تطورها

رماز هاني كوسه

2019 / 10 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


شكل الموت نقطة النهاية لرحلة الانسان على الأرض و اختلفت الطرق التي تعامل بها البشر مع الجسد البشري بعد الموت منذ القدم . ففي عصور ما قبل التاريخ الأرجح أن الانسان حينها تعامل مع الموت كأي حدث عارض يمر به برحلة حياته فتركت أجساد الأموات في البرية لتتحلل و تنهشها الوحوش . أما ما وصلنا من مستحاثات لهياكل عظمية شبه كاملة تعود لمليونين أو ثلاثة ملايين عام قبل الميلاد مثل المستحاثة لوسي المكتشفة في إثيوبيا فالأرجح حفظت بهذا الشكل من التلف بقعل عوامل الطبيعة كسقوطها في برك طينية أو برك من القار او في الثلج و الجليد مما حماها من نهش حيوانات البرية . و مع تطور الوعي لدى البشر بمرور الزمن بدأنا نلاحظ ظهور بوادر للاهتمام بموضوع الموت و الجسد البشري بعد الموت من قبل المجتمعات البشرية حينها .
الاكتشافات الأثرية تشير لأن عملية الاهتمام بالجسد البشري بعد الموت بدأت تظهر من العصر الحجري القديم الاوسط و الاعلى و يلاحظ ذلك لدى إنسان النياندرتال الذي انتشر بين 100 الف و 40 الف عام قبل الميلاد من حيث الاهتمام بدفن الموتى لديه و هذا ما يظهر من مكتشفات كهف الديدرية قرب حلب في سوريا الذي عثر فيه على بقايا عظام طفل في الثانية من عمره ينتمي لجنس النياندرتال و دفن الطفل في الكهف ممددا على ظهره و قدماه محنيتان و وضع تحت راسه حجر من الصوان في مظهر يدل على وجود طقوس دفن لدى السكان حينها .و مثلها مغارة السخول في فلسطين التي عثر بها على مقبرة تضم بقايا أفراد بالغين و أطفال دفنوا ممدين فيها بطريقة مثنية و تعود البقايا لأفراد من أوائل الجنس البشري العاقل (هوموسابينز). يضاف لها ما عثر عليه في كهوف كرومانيون في جنوب فرنسا من بقايا هياكل عظمية لبالغين و أطفال دفنوا فيها و تعود لجنس الانسان العاقل المبكر أو ما يوصف بالإنسان العاقل الأحفوري . و شوهد مع البقايا وجود قطع من الصدف المثقوب المستعمل للزينة في إشارة لطقوس دفن واضحة لديهم . الأمر المشترك بين الأمثلة السابق أن الدفن يتم في كهوف صخرية مترافق مع طقوس جنائزية واضحة . ربما تم اختيار الكهوف لأنها أماكن آمنة نسبيا للبشر بتلك المرحلة . لكن مجرد اهتمام الانسان حينها بدفن الجثث في أماكن آمنة يشير بوضوح لوجود نوع من الاحترام و المكانة للجسد الميت تحتم العناية به و عدم تركه في العراء ليتحلل و يؤكل من قبل الحيوانات . و يحمل في طياته إشارة لنوع من معتقد ديني بوجود حياة أخرى بعد الموت لدى البشر مما يفسر وضع أدوات الزينة مثلا و إن كان ذلك غير حاسم . أما الدفن في الكهف فالأرجح أنه كان لاعتباره سكنا للبشر حينها لذلك تم اختياره لدفن الأجساد كنوع من تكريمهم و احترامهم . رغم أن الدفن في الكهف قد يحمل دلالات دينية تشير بعودة الإنسان بعد موته الى باطن الأرض بشكل مشابه لولادته الأولى من بطن الأم و رحمها ... أي العودة لرحم الأم الأرض . طبعا يبقى ذلك أمر غير حاسم لعدم وجود أدلة كافية له .
تطورت عادات الدفن بالتدريج من العصر الحجري القديم و ليومنا الحالي . فمثلا في أريحا بفلسطين بحدود 7000 ق.م وجدت جماجم قد نزع عنها فكها السفلي و دهنت هذه الجماجم بمادة صلصالية و رصع مكان العيون بالصدف في محاولة لإكساب الجمجمة مظهرا حيا . من الممكن أن هذا الطقس يشير لفكرة عبادة الأسلاف و يحمل جذورا لفكرة الحياة بعد الموت لدى انسان تلك المرحلة أو تعبر عن رغبته بوجود مثل هذا المفهوم . نفس المشهد نلاحظه في تل الرماد قرب دمشق و بفترة زمنية قريبة من أريحا. تقليد آخر نراه بالأناضول في تشاتال هيوك بالرسوم التي تمثل طائر العقاب و هو يأكل أجساد بشرية منزوعة الرأس . فمن طرق الدفن هنا وضع الجثث بالعراء لتنهش الطيور لحمها و من ثم تلف بحصير من القصب و تدفن تحت أرضية المنازل و يدفن معها بعض الأدوات كالأسلحة و الحلي مثلا مما يؤشر على وجود مفهوم للحياة الأخرى لديهم . نفس الأمر في وادي النيل حيث يدفن الميت و هو ملفوف بحصير مع بعض الأدوات بجواره .
و مع تطور مفهوم الدين و ظهور الإعتقاد بوجود حياة أخرى بعد الموت حدث تغير في طرق الدفن و عاداته .فمثلا في الألف الرابع قبل الميلاد نجد أن الدفن أحيانا كان يتم في جرار فخارية طبعا اختيارها لم يكن عشوائيا بل لدلالتها الدينية التي ترجع جذورها لعهد الألوهة الأنثوية عندما كانت الإلهة الأم هي أكبر الآلهة لدى المجتمعات البشرية و من رحمها تولد الحياة فالأنثى بمرحلة سابقة من حياة المجتمعات البشرية كانت هي محور الحياة و من تقود المجتمع و البشرية و من الطبيعي حينها أن تكون الإلهة أنثى . فجاء شكل الجرة ببطنها الدائري الكبير و العنق و القاعدة الضيقان محاكاة لشكل الأم و المراة الحامل . البطن الكبير للإشارة لأهمية هذه المنطقة و قدسيتها بجسم الأنثى فهي التي تمنح الحياة للبشر . مع اهمال للقدمين و اليدين لدورهما الثانوي هنا بالمعنى الديني . فالجرة تمثل الإلهة الأم الأولى و الدفن فيها اشارة للعودة الى مصدر الحياة الأول و هو الأم . و قد انتشرت عادة الدفن في الجرار الفخارية بمناطق متعددة من منطقة دلمون (البحرين ) التي عثر بها على مقبرة للأطفال دفنوا في جرار فخارية في منطقة قرية سار . في جبيل بمنطقة لبنان الحالية . في تونس (قرطاج ) بمنطقة سالامبو التي عثر فيها أيضا على رفات أطفال دفنوا بجرار فخارية .
في سومر تظهر مفاهيم دفن جديدة متعلقة بالملوك و الحكام حيث كان يدفن الملك ومعه أدوات كثيرة لاستعمالها بالحياة بعد الموت بالإضافة لعادة التضحية الجماعية مع الملك حيث كان يدفن معه العشرات من الرجال و النساء لمرافقته و خدمته كما في مدينة أور مثلا في الجبانة الملكية التي اكتشفها وولي و عثر فيها إلى جانب جثة الملك و الأسلحة و الزينة ما يقارب الثمانين جثة لرجال و نساء دفنوا فيها مع الملك . و هذا التقليد يشير الى وجود نوع من الاعتقاد بالحباة بعد الموت و بأن من دفن مع الملك ليقوموا بخدمته في الحياة الأخرى . نفس الأمر وجد في مصر بنفس الفترة الزمنية و لكن لم يدم هذا التقليد لفترة طويلة . طبعا في مصر ترافق دفن الحكام مع كبر في حجم مقابرهم . فالأهرام هي مقابر للفراعنة أساسا و كانت مدافنهم غنية بمختلف انواع التحف و الأدوات لتساعدهم في حياتهم الأخرى . و كانت فكرة الحياة بعد الموت في وادي النيل خاصة بالفراعنة فقط فهم من يتمتعون بالخلود و بالتدريج انتقل هذا المفهوم للنبلاء و منه لعامة الشعب .
أما في سائر أرجاء المشرق فقد كان التقليد الاساسي لعامة الشعب هو الدفن التقليدي في باطن الأرض إما في حفرة أو عبر نحت قبر الصخور الكلسية ليوضع به الجسد و يتم العثور على العديد منها في مدن سوريا عند الحفر لبناء اساسات الأبنية السكنية . . في حين كان بإمكان علية القوم و النبلاء و الأثرياء الاهتمام بتفاصيل مقابرهم بشكل أفضل . كبناء غرف في باطن الارض جهزت خصيصا كمدافن مثل مدفن ربعانو في أوغاريت الذي يعود للألف الثاني قبل الميلاد . أو الدفن في أبنية هرمية الشكل أو برجية مثل مقابر عمريت الكنعانية قرب طرطوس في سوريا (أماراتوس .... و يرد اسمها في سجلات مدينة أوغاريت بهذه الصيغة أومرايت) و التي تعود لأواسط الألفية الأولى قبل الميلاد . و هي مدافن فوق أرضية مبنية من الحجارة و يأخذ سقفها أما شكلا هرميا أو شكلا مقببا . و هي شبيهة بالمدافن البرجية التي تميزت بها مدينة تدمر و كانت تسمى بيوت الراحة أو بيوت الأبدية و التي وصل ارتفاع المدفن فيها لحدود 20 متر كما في مدفن ايلابيل . و كانت تزين عادة بتماثيل للأشخاص المدفونين مع توثيق لأسمائهم و بعض العبارات التي تذكر الآلهة . و قد اعتاد التدمريون على البذخ بتزيين مقابرهم فنرى المقابر الاسرية عادة تحتوي على تمثال لرب الأسرة مرتديا أجمل ثيابه و حوله تماثيل لأفراد عائلته .
لاحقا يظهر تقليد دفن غريب أو تعامل غير مألوف مع أجساد الموتى ترافق مع الزرادشتية في الألفية الأولى قبل الميلاد فالتعامل مع الميت يختلف هنا . كان الأموات يوضعون على التلال و الجبال لتأكل أجسادهم الطيور و الحيوانات ) مفهوم مشابه لما كان موجود بالناضول بالالف السابع قبل الميلاد). مرد ذلك لاعتبار الزرادشتية أن الجسد البشري بلا روح غير طاهر و نقي و لا يجوز تلويث الارض به .
و مع ظهور الأديان الإبراهيمية ظهرت أشكال أخرى للدفن , فمن تقاليد الدفن اليهودية بالقرن الأول قبل الميلاد أن يوضع الميت في كفن من الكتان و يمدد بمغارة لمدة عام و بعدها يعود أهله لفتح المغارة و جمع العظام و وضعها في صندوق حجري كتب عليه اسم الميت و يوضع في مدفن العائلة و المسيح دفن بعد الصلب بهذه الطريقة حيث لف جسده بقماش الكتان و وضع في مغارة سد بابها بحجر. و يوجد العشرات من هذه التوابيت الحجرية اكتشفت في فلسطين و بعضها يحمل أسماء كيوسف و يسوع و مريم .
أما لدى العرب فظهرت طقوس دفن عديدة منها طقس يحمل دلالات للحياة بعد الموت و وجود حساب و عقاب رغم عدم ايمانهم بديانة سماوية و لكن الأرجح أنه تسرب لهم من المسيحية . و هو تقليد يسمى البلية , من الفعل بلي أي تلف . و كان يتم خلاله ربط الناقة بجوار قبر الميت حتى تموت جوعا و تتحلل و تبلى , و يعود ذلك لرغبتهم في أن لا يحشرو يوم الحساب راجلين على اقدامهم بل يكون لهم دابة يركبون عليها أثناء ذلك . قد تكون عادة التضحية بحيوان بعد الموت و توزيع لحمه على المحتاجين تعود لهذه العادة . و إن كانت تحمل معنى آخر حاليا .
بالعموم سكان المناطق المدنية بالرافدين و سوريا و مصر اهتمو بالموت و طقوس الدفن أكثر بكثير من المناطق الصحراوية و يدلل على ذلك المقابر الكثيرة التي عثر عليها بهذه البلدان و التي ما كانت لتصمد لولا اهتمام اصحابها بتأسيسها و تشييدها بشكل فخم و قوي يصمد على مر السنين. في حين أن سكان المناطق الصحراوية لم يهتموا بالموت كمثل أقرانهم الشماليين . و كانوا إذا ما توفي احدهم دفنوه بحفرة و انصرفوا لحياتهم و مشاغلهم دون بناء للقبر أو تزيين له و هو أمر موجود لليوم . على عكس سكان الهلال الخصيب الذين يهتمون ببناء و تشييد القبور لموتاهمو تزيينها ليومنا هذا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا