الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايوب..الرهان الجائر وجدلية الايمان والتجديف(5)

ماجد الشمري

2019 / 10 / 22
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تفاقمت مشاعر ايوب السوداوية بعد الاستماع لخطابات اصدقاءه المستفزة و المتحاملة عليه،والمنحازة كليا لله.فكان بين حين وآخر،يوجه سهام نقده واعتراضه لماقيل ومايقال.بقيامه بتفنيد ودحض مزاعمهم،بنزاهة الله وعظمته،واصبح رافضا و منكرا للصورة الوردية النبيلة للرب التي رسمها ولمعها وبدئب يجليها اصدقاءه،ومدى اتساع الهوة بين مقالتهم،ومقاله،والتضاد الحاد في التوجه و المقاصد والمعاني بينه وبينهم.فقد ادرك تماما،ان الله ليس الا طاغية جبار،مستبد متصلب،متغير المزاج بين التعكر والصفاء،واعتباطي في مشيئته،وغير متوازن في قراراته،ولايعرف الثبات والحق،يظلم ويطغى دون ان يرف له جفن،ليس المذنبين فحسب،بل والابرياء عموما!.لايبالي،ولاتهزه عذابات البشر وموتهم العنيف،فيقول بلوعة وأسى:"عجبا..أصرخ من جوره،ولامن مجيب،وأدعو شاكيا،ولامن منصف،طريقي سيجه،فلاأعبر،وبالظلام غطى سبيلي".انها صرخة انسان معذب
مقهور، استغاثة جليه معبرة امام جبروت رب لايتجاهله ويتغافل عنه فقط،بل وايضا لايرحمه،ويضع حدا لعذابه،ويميته.لايضع الحق في نصابه كما يجب فحسب،بل يتعمد القسوة والايذاء،وسلوكه عدوانيا سافرا،طبيعة وقدرة،لارأفة، ولاعطف،ولاشفقة هناك.يبث ايوب شكايته بحرقة المظلوم قائلا:"هدمني الى الاساس فهلكت،ورجائي اقتلعه كشجرة،واضرم علي غضبه،ومن اعدائه اعتبرني،غطت الديدان والتراب والغبار جسدي،تهشم جلدي،وجسمي نتنا لبني امي".لمس ايوب ان ربه شديد العقاب وعن سابق اصرار ونقمة،ولكن على البريء مثله،وبلا اسباب او دواع.
اسرف ايوب في طرح حججه الشاكية،وتضخمت وطالت لائحته الاتهامية تجاه الله.فأثارت رهبة وخشية اصدقاءه المبلدين والمخدرين بتقواهم،بحيث عادوا لنشيدهم الورعي الممل و الذي لايحسنون غيره،ومن جديد انطلقوا مصوتين كببغاوات رطينة،عن:العدل والعناية الالهية،وعظمة ونزاهة الله.هم يمجدون القدير الاكبر،وايوب يئن ويتوجع من جربه الذي ينهش جسمه-لماذا الجرب بالذات؟!لانه مرض كلاسيكي من العالم القديم؟!مرض جلدي بشع يسبب الحكة والقيح وتقرن الجلد.فلو عاش ايوب في العصر الحديث لابتلاه ربه بمرض مثل الايدز او السرطان!-.ليرد عليهم،ومن جديد ايضا:"جميعكم مواسون بؤساء".القاريء العادي للسفر الايوبي يتعاطف حتمامع مايبديه ايوب من تظلم وجور عار في حقيقته،ولايمكن حجبه،والغياب التام لاي منطق ومعقولية في مانزل به من آلام وكرب،ووحدته الباردة،كمنبوذ كريه تعيس تخلى عنه حتى الاقربون.والبون الشاسع بين انسحاقه تحت ظلم قاهر لامبرر له،وبين براءته البيضاءالناصعة كالثلج،واضحة ومرئية حتى للاعمى!.كان الخطاب التقوي لاصدقاء ايوب هو انعكاسا وتعبيرا عن الصوت والخط الرسمي السائد للايمان اللاهوتي،والثقافة الدينية-التربوية المهيمنة على مدارك شعب العبرانيين،ومن ضمنهم مؤلف السفر الايوبي،فهو دفاع ومنافحة عن العقيدة اليهودية القويمة،وهي التسليم بقضاء الله وقدره دون شكوى او تذمر.فأذا اسبغ الله عليك فضله ونعمته ،واغدق بركاته،فعليك الشكر وتمجيد الرب،وان ضربتك نقمة الله وغضبه وانزل بك البلاء-ولله اسبابه الخافية-فواجبك الديني يفرض عليك الصبر والاحتساب والدعاء،وطلب المغفرة والعفو!.هكذا هي العلاقة بين الرب وشعبه،فامام السراء او الضراء،ليس هناك الا استجابة واحدة واجبة:القبول والشكر، والتسليم والرضى،فكل شيء من عند الله.ولايمكن قبول مايخدش هذه الاستقامة الايمانية ويعكرها،كخطاب ايوب المتمرد والعاصي لقدر الله.لذا يجب الوقوف بقوة امام السيل التجديفي المبلبل والمدمر الذي اطلقه ايوب بحق،مخالفا وصايا الخنوع للرب!.ولكن تبقى حجة ايوب معقولة وتساؤلاته محقة،لمن ينظر بحيادية مجردة في قضيته.فأنسان بار مستقيم،ولاشك في ايمانه،ورجل صالح في تعامله مع الناس،تعرض لظلم فادح في جوره:فقد الابناء والممتلكات،ونزل به داء جلدي عضال لاشفاء منه،وهاهو في قعر الحضيض من الهوان والذل والنبذ والعذاب.فكيف سيكون لسان حاله وموقفه من اطروحة العدل والحكمة والنزاهة الالهية المزعومة؟!.من الطبيعي جدا ان يكون انينه صارخا مدويا بكلمات نارية من الاستنكار،والشك،والشعور بالخذلان والهزيمة،بعد ان تصدع ايمانه بعدل الله وعنايته ورحمته.فالله لايميز او يفرق بين البراءة والذنب،يعاقب خبط عشواء احيانا،وبناءا على مراهنات مع غريمه-الشيطان- احيانا اخرى،وبلا معايير قيمية اخلاقيا او عقليا.ويبين ايوب لاحد اصدقاءه فحوى مسلك الله تجاهه،قائلا:"مزقني غضبا،وابغضني،واحمرت عيناه علي،خصومي فتحوا عيونهم علي".واكثر من ذلك:"الله سلمني الى الجائرين،وفي ايدي الاشرار طرحني،ويسفك على الارض مرارتي،احمر وجهي من البكاء،وعلا جفني ظلال الموت،مع ان يدي بريئة من الجور،وصلاتي لاتشوبها شائبة".ولصديق آخر يعرض فجيعته الكبرى:"اخواني ابتعدوا عني،وازدرى بي معارفي،واقاربي،واصدقائي خذلوني،واهل بيتي تناسوا ذكري،ولهاثي صار كريها عند زوجتي،حتى الصغار اشمئزوا مني،وفي غيابي يتكلمون عني".واكثر من ذلك،يمضي ايوب في عرض حاله:"الله قيده،وتركه يذوي،مثل شيء نتن".وعندما يصر اصدقاءه،كرة اخرى على:عدل الله وكرمه،ينفجر ايوب بأنكاره،كمكلوم عديم الحيلة،بأن لاعدل الهي هناك البتة في معاملته،بل وليس هناك من عدالة الهية نحو البشر قاطبة.ليتحول ايوب بعدها،عارضا لصورة مقارنة مفارقة،بين بؤسه، وبين رفاه وسعادة الفاسدين والاشرار،سائلا:"لماذا يعيش الاشرار ويشيخون،ومع الايام يزدادون اقتدارا؟وثورهم يلقح ولايخطيء،وبقرتهم تلد ولاتسقط،واطفالهم يمرحون كالغنم،واولادهم يرقصون كالغزلان".وسواء،اكان الانسان محظوظا،ونال قسطا من السعادة والفرح،ام كان محروما بائسا حزينا،فسينتهي الجميع الى نفس المصير :الموت.هذا ماكان يهمس به ايوب مغمغما تلك الكلمات،وكأنه يحدث نفسه،متفلسفا:"هناك من يموت بعز شبابه،وفي منتهى السعادة والهناء،جنباه مليئان شحما،ومخ عظامه طريا،وهناك من يموت بمرارة،من غير ان يذوق طعم السعادة،كلاهما يضطجعان في التراب،ويكسو جسديهما الدود".وبالرغم من عذابه الجسدي والنفسي،وتقلبه بين الم فقدانه لابناءه،وعذاب داءه الذي ينخر جسده المتفتت بقيحه،والم ضميره المتهافت تحت وقع الظلم الفادح،والمجاني في لامعقوليته،وانحطاط عالمه من السؤدد ونعيم العيش الرغيد الى الدرك الاسفل من البؤس والفاقة والمعاناة،الا ان لغته الشعرية-الفلسفية المتسائلة الشكاكة ظلت نضرة وحيوية،تبعث على الاعجاب،وتشدنا لروح أيوب القلقة الحائرة،والباحثة عن المعنى،معنى:العدل،الظلم،الايمان،التجديف،الخير،الشر،البراءة،الخطيئة.وفي كل مرة يقفز السؤال الملح بين فينة واخرى،مادا لسانه،ليجلد الضمير والعقل:كيف يكون ماحدث لايوب من دمار وخراب،هو العدل الالهي؟!.فكيف يكون الظلم اذن؟!.وقال رهان الرب(ايوب):"والقدير بعد ساكن معي،واولادي يحيطون بي..يراني الشبان فيحيدون،والشيوخ فينهضون واقفين،يمسك الامراء عن الكلام،ويجعلون ايديهم على افواههم،كانوا يستمعون لي بأشتياق،ويصغون لمشورتي صامتين،ينتظرونني انتظارهم للغيث،لم يعاملوا ايوب هكذا لانه لايعمل سوء فحسب،وليس فقط لانه اعان سائليه،بل لانه بحث عن البؤساء ليسعفهم،لاني كنت اغيث المسكين،واعين اليتيم الذي لاعون له،وتحل علي بركة البائسين،وتطرب لي قلوب الارامل،لبست الحق فكان كسائي،وبقى العدل حلتي وتاجي،كنت عينا بصيرة للاعمى،ورجلا صحيحة للاعرج،وكنت وحدي ابا للفقير،وسميعا لدعوى الغريب،وكنت اهشم انياب الظالم،ومن فكه انتزع فريسته،والان يمعن النظر في حاضر ايامه"."اما الان فيضحك علي من يصغرونني بالايام،من ابيت ان اجعل آبائهم في عداد كلاب غنمي،اولاد الدناءة هم،بلا اسم طلعوا،وانشقوا من الارض،والان صرت لهم اهجية،ومثلا شائعا للسخرية،يكرهونني ويبتعدون عني،ولايتورعون ان يبصقوا في وجهي".اهذا-وكما قال اصدقاء ايوب-هو عدل الله؟!.واذا كان ظلم الانسان للانسان نطلق عليه مع الغضب:دناءة وخسة،وبربرية يأنف منها الحيوان.فماذا نسمي فعل الله بعبده ايوب ،والذي فاق كل الحدود، وكسر كل المعايير؟!.
........................................................................................................................................................................................................................
يتبع.
وعلى الاخاء نلتقي...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا