الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة العلمانيين العرب هل نرحل إلى المريخ يا سادة؟

فخر الدين فياض
كاتب وصحفي سوري

(Fayad Fakheraldeen)

2006 / 5 / 22
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تختصر العلاقة بين المجتمعات العربية وبين مفهوم العلمانية علاقتنا بالحداثة والعصر ومنظومته القيمية.
علاقة تجاذب وتنافر في آن، تحوي الكثير من سوء الفهم والقليل من الثقة!!
ففي حين تنظر مجتمعاتنا نحو العلمانية بعين الشك والريبة.. فإن العلمانية تطل برأسها خجولة وخائفة ولا تعرف كيف تبين نفسها لهؤلاء القوم الذين يتحدثون بلغة مختلفة.
لكن في المقابل هناك غزلاً دفيناً يدغدغ هذه المجتمعات إزاء هذه الغربية الوافدة إلينا من مجتمعات حققت إنجازاتها الحضارية وفرضت نفسها على الكون..
ربما تعبر هذه العلاقة عن صدمة الغرب التي لم نتخلص منها بعد؟!
(العلمانية ليست ضد الدين)..
طالما ترددت هذه الجملة في فضاءاتنا العربية على مدار قرن من الزمن.. ومع ذلك تصر النخبة العربية الحاكمة والتيارات السلفية والقوموية التي ما زالت لا ترى حلاً وطنياً وقومياً يحقق سيادة القانون والديمقراطية إلا في الإسلام.. تصر على رفض هذه المقولة.
العلمانية في أبسط صورها تعني فصل الدين عن الدولة، وتعني حماية الأديان والمذاهب السائدة وغير السائدة من الاضطهاد.. وتنظر إلى الدين بوصفه موقفاً روحياً وفردياً لا يجوز المساس بقداسته من جهة، ولا يجوز للدين أن يمتد بطقوسه ومفاهيمه وقوانينه نحو الدولة ومؤسساتها التي تعتبر إنجازاً وطنياً لكل أبنائها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم..
بهذا المعنى فإن العلمانية تعني تعميم قيم المواطنة كانتماء أول ورئيس إزاء باقي الانتماءات العرقية أو الدينية أو المذهبية..
إنها بديهيات العالم المعاصر، ولم يعد من المقبول في علم بناء الدولة الحديثة أن يعود أحد لمثل هذه الأسس أو المبادىء التي يشبه دورها السياسي والفكري في بناء دولة الوطن أو الأمة دور الأبجدية في علم اللغة.. فلا يمكن أن يوجد علم لغوي بدون أبجدية يرتكز عليها.. بل لا يمكن أن توجد لغة.. وآنذاك لا مجتمع ولا علاقات خارج المفهوم القطيعي للبراري أو الغابات..
ومع ذلك هناك إصرار على معارضة العلمانية بالدين.. في سبيل إيجاد مبررات لرفضها.. وبالتالي تُلصق بكل علماني تهمة الإلحاد... أي بمعنى آخر يصبح سفك دمه (حلالاً!!) لأنه كافر وربما مرتد.. وغير ذلك من قاموس التكفير العربي والإسلامي السائد في أيامنا هذه..
النخبة العربية الحاكمة تحارب العلمانية وتضطهد دعاتها لتبقي على أنظمتها فترة أطول وهي التي تعلم علم اليقين أن حياة هذه الأنظمة في مرحلة لفظ الأنفاس الأخيرة لأنها فقدت كل دعائم استمرارها (وهذا حديث آخر لنا عودة إليه) إلا دعامتين أساسيتين هما: العسكر والطائفية.
فعسكرة الحياة المدنية والسياسية والثقافية خلقت مناخاً من الإرهاب والخوف في قلوب الناس، في حين ظلت الطائفية (فزّاعة) يخيفون بها الطوائف من بعضها البعض، ومعلوم أن النظام العربي (بشكل عام) يروج بشكل مخفي وشبه علني لفكرة الوحش القابع داخل كل (طائفة) والجاهز للانقضاض على باقي الطوائف لولا (حكمة!!) العسكر.. وقبضتهم الحديدية، وليس خافياً على أحد أن لكل نظام عربي عمقاً طائفياً يعتبره الخط الدفاعي الرئيسي في حماية الحكم واستمراره.
أما التيارات السلفية التي انخرطت في العمل السياسي وتنظّر اليوم لحكم (إسلامي) فإنها رأت في العلمانية عدواً أساسياً لتطلعاتها في الحكم والسلطة.. إذ أن العلمانية تعري هذه التيارات من زيف انتماءاتها الروحية وتبين بطلان ادعاءاتها بالعودة إلى السلف الصالح.. لأنها تتحول إلى دعوة دينية عقيمة حين تحمل صولجان الحكم وتطأطىء رأسها لضروراته السياسية والاقتصادية في عالم لم يعد فيه (التمر واللبن) يشكلان كفافاً معيشياً للناس، ولم تعد تجارة (الإبل والماشية) قابلة لتحقق أمناً اقتصادياً !!
ولكي تعيش في الألفية الثالثة وتنخرط في صراع الحضارات والأمم عليك أن تتحدث بلغة العصر ومفرداته والتي تمثل العلمانية لبنة أساسية في بناء الحاضرة الحديثة.
أما التيار القوموي الذي تبنته معظم الأنظمة العربية كان قد روج للعلمانية على مدار عدة عقود ترويجاً أيديولوجياً منافقاً ارتدى أثناءه التقدمية والاشتراكية والصراع مع إسرائيل أقنعة في سبيل التأسيس لحكم شمولي استمد معطياته العملية من التجربة الستالينية من خلال حكم الحزب الواحد والمخابرات حتى لو اختلفت الآليات الشكلية في الحكم!!
فبعد أن أثبت الواقع فشله في كل ما ادعاه.. عاد اليوم إلى (حاضنة الدين) على أمل أن يسترد بعضاً من (الشعبية) التي فقدها في هزائمه المتتالية في معارك التقدم والاشتراكية والسيادة الوطنية والتنمية الحقة وحقوق الإنسان.. والأهم معركته الكبرى التي ادعاها على مدار نصف قرن... مع إسرائيل.
وبالتالي يأتي اليوم تنكّره للعلمانية في سياق هذه العودة الذليلة إلى الحاضنة (الشعبية) التي بدورها فقدت ثقتها به واعتبرته من مخلفات الاستبداد.. وتجربة العسكرتارية في الحكم.
و تكمن محنة العلمانيين العرب اليوم في ثلاثة تحديات:
1 ـ الوجه الاستعماري للغرب الذي يتعامل مع شعوب المنطقة العربية بوصفها (فجوة) تاريخية في العصر.
2 ـ الأنظمة العربية الشمولية التي تحاول إقصاء دعاة العلمانية في إطار حربها على الديمقراطية بشكل عام.
3 ـ التيار السلفي الذي عاد إلى واجهة العمل السياسي والشعبي.
وبادىء ذي بدء لا بد من التأكيد على حقيقتين:
آ ـ إن العلمانية هي جزء أصيل من الثورة الديمقراطية، ولا يمكن تحقيقها دون مفاهيم عقلنة السياسة والمجتمع ونشر الحريات العامة وحمايتها.
ب ـ علينا التمييز بين العلماني المتغرب عن إشكاليات الأمة (وليس المقصود هنا المفكرين العرب المقيمين في
المنافي والمهاجر فالتغرّب عن هموم واقع الأمة موقف لا علاقة له بالمكان) وبين العلماني المرتبط بواقع الأمة وإشكالياتها، وهو العلماني الذي ألقى على كاهله مسؤولية تاريخية تتعلق بمواجهة موجة تفكيك الأوطان إلى طوائف ومذاهب ويسعى نحو الثورة الوطنية الديمقراطية الحقة. هذا العلماني تحديداً هو المقصود بالمحنة.
أما العلماني الذي يروّج لدخول العصر من بين سيقان (نانسي عجرم) فلا يعيش محنة ولا هم يحزنون، على العكس هو يسيء لهذه العلمانية كما تسيء (نانسي عجرم) للفن بوصفه موقفاً جمالياً من الحياة والموسيقى واللغة والروح والجسد أيضاً..
ولو عدنا إلى التحديات الثلاثة التي تواجه دعاة العلمانية (والديمقراطية في آن) فإننا سنجد أن العلماني المرتبط بجذور الأمة هو بالضرورة ضد هذا المد الاستعماري الجديد الذي تمارسه أميركا اليوم على العالم العربي.. إذ أن العلمانية في العالم العربي كانت قد نشأت في غمار حركة التحرر الوطني من الاحتلال العثماني أولاً ثم الغربي لاحقاً..
لقد رفع قادة الاستقلال عن الدولة العثمانية شعار (الدين لله والوطن للجميع) والشعار نفسه تم رفعه في الثورة ضد الفرنسيين والإنكليز ويكفي أن يكون سلطان الأطرش وهو ابن أقلية مذهبية في سوريا ـ قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى ثم حكومة ما بعد الاستقلال برئاسة فارس الخوري وهو العربي المسيحي حتى نؤكد أن قادة ثورات التحرر الوطني في العالم العربي كانوا يتحركون من قلب العلمانية وروحيتها الحقيقية في سبيل تحقيق أهدافهم الوطنية آنذاك..
وبالتالي فإن هذه العلمانية لم تتغرب يوماً ما.. وهي التي تدعو اليوم بشكل حقيقي (دوناً عن مزايدات الأنظمة) إلى التصدي للمشروع الإمبراطوري الأميركي الجديد مما يعني أنها المستهدفة أولاً من هذا المشروع لأنها تمثل عائقاً حقيقياً في وجهه من خلال رفضه ورفض التعاون معه على حساب سيادة الوطن.
بعد الاستقلال تبلورت الحركة العلمانية العربية في غمار النضال الديمقراطي ضد الأنظمة العربية الديكتاتورية.. ولقد كان استهدافها فاحشاً وكارثياً على الحركة السياسية العربية عموماً في أيامنا هذه، فلقد بطشت الأنظمة بالأحزاب التقدمية وشتتتها في أصقاع الأرض فضلاً عن التصفيات الجسدية والاعتقالات الطويلة في أقبية المخابرات.. وما زالت اليوم تعيش المحنة نفسها في أوطانها..
أما التحدي الثالث وقد يكون الأكثر خطورة اليوم فيتجسد في انتشار التيارات (السلفية ـ السياسية) من جهة، وانتعاش الموقف الديني من الحياة والسياسة في الأوساط الشعبية العربية كردة فعل على هزيمة الأنظمة في كل معاركها الوطنية (كما أسلفت) ما خلا انتصاراتها على الإرادة الشعبية وتطلعات الناس نحو العيش بكرامتهم في وطن آمن، ويستهدف العلماني اليوم من هذه الفئات الواسعة لأنه لا يستطيع العيش ضمن (وطن) الطائفة أو المذهب.. وحقيقته تمنعه من ممالأة الجماهير.
وبالتالي عادت نغمة التكفير لهؤلاء بوصفهم أعداءً للإسلام، وفي الذهن الشعبي يستحيل تخيل فرد علماني ومتدين في آن.. وهو النموذج العادي والطبيعي للفرد في الأمم التي حققت ثوراتها الوطنية والديمقراطية،إذ أن العلمانية لم تكن يوماً ضد الدين بل على العكس فهي تحترم الدين وطقوسه بوصفه موقفاً يتعلق بحرية الاعتقاد والتفكير والتدين.. وإلى آخر الحريات الشخصية..
محنة العلمانيين العرب أن مساحاتهم تضيق يوماً بعد يوم.. فالوجه الاستعماري للغرب يرى فيهم عقبة كأداء في وجه مشروعه الإمبراطوري في المنطقة لأنهم الوحيدون القادرون على إثبات زيف دعاويه في الديمقراطية وحقوق الإنسان وغير ذلك.. لأنهم يمثلون هذه الدعوة في بلدانهم وقد دفعوا ثمنها غالياً..
والأنظمة تضطهدهم وتحاصرهم بدءاً من لقمة عيشهم وصولاً إلى المعتقلات التي تفغر فاهها واسعاً لاستقبالهم.. أيضاً لأنهم لم يتنازلوا عن ثوابتهم الوطنية والديمقراطية أمام تحديات الاستبداد والبعد الشمولي للأنظمة وفسادها.
والجماهير الواسعة تجتاح البرلمانات والشوارع بقيادة التيارات السياسية المتدينة وهي تطأ أجساد العلمانيين بأحذيتها.
وليس أسهل من قتل ديمقراطي ـ علماني حقيقي رفض لعبة الأنظمة المنافقة والتيارات (الإسلامية) التي تمالىء الجماهير في سبيل مكاسب تكتيكية، والأهم رفض الدور الأميركي في المنطقة..
أقول ليس أسهل من قتل هذا الشخص دون أن يطالب به أحد..
هل هناك محنة أشد وأبعد من هذه..
كيف يمكن أن تكون علمانياً وطنياً وديمقراطياً وفي الوقت نفسه تعيش داخل وطنك بكرامة دون أن تتعرض للتكفير أو الاعتقال أو تتهم بالخيانة؟..
أليس أمراً محيراً.. إلى حدود المأساة؟!!
ربما سيطلب العلمانيون العرب من هذا العالم أن يبني لهم مساكن (شعبية) جاهزة لاستقبالهم على المريخ مثلاً.. وهناك لا توجد أميركا ولا توجد أنظمة مستبدة.. والأهم لا توجد تيارات سياسية دينية تحز رقبة من يقول: الدين لله والوطن للجميع؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين


.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ




.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح


.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا




.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم