الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إطلاق طاقات الحياة (قراءة في علم النفس الإيجابي)

هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث

(Hashem Abdallah Alzben)

2019 / 11 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قبل مدة كتبت عن الإنسان المهدور من واقع مُعاش وكتشخيص لحال مُجتمعاتنا المقهورة والمهدورة، وفد بيّنت بأن الهدر يأتي كنتيجة للقهر المُمارس على الأفراد والجماعات، وكخطة علاج سيكولوجية للهدر الإجتماعي الذي وصل حدّ الإضطراب والمرض المُؤدي لحالة من الشلل والموت الجَمعي، نأتي أخيرًا على ثالث كتاب في سلسلة الدكتور مصطفى حجازي التي بدأتْ بـ"التخلّف الاجتماعي" كمدخل لسيكولوجية الإنسان المقهور و الدراسة التحليلية النفسية الاجتماعية "الإنسان المهدور"، وصولاً لكتاب "إطلاق طاقات الحياة" وهو مجموعة قراءات في علم النفس الإيجابي، تقع في 302 صفحة، تتكون من ثمانية فصول تتناول التعريف بعلم النفس الإيجابي؛ نشأته ومُسلماته وجذوره وإنجازاته، والتفكير الإيجابي والتفاؤل والأمل، والدافعية الجوانية الأصيلة، والإقتدار الإنساني، والقيادة التحويلية المُنمية، وأخيرًا وليس آخرًا الإنفعالات الإيجابية، السعادة وحسن الحال.

في مقالي المُعنون بـ "عن الإنسان المهدور" تناولتُ دلائل وألوان الهَدر الذي يتعرض له الإنسان، وبالتحديد المواطن العربي، وكيف أصبح الهَدر جَمعي وعام، والإنسان/الفرد المهدور هو صورة مُصغرة عن شعب مهدورةٌ طاقاته ومقهورة إمكاناته، فالأمر كأنه حلقات مُتتالية من الهدر والقهر، من أصغر فرد لرأس الدولة وصولًا لنظام عالمي قائم على هذه العملية.
بعدما أنهيت كتابيّ: التخلف الاجتماعي والإنسان المهدور، تشكلّت لديّ صورة واضحة عن واقع إجتماعي/يومي كنت أراهُ ولكن كان يبدو إعتباطيًا أو محتومًا، أو بلفظ آخر "واقع طبيعي وعادي"، وإهتديت لكتاب "إطلاق طاقات الحياة" الذي جاء كحل مُمكن لمُعضلة القهر والهدر الوجودي.

علم النفس الإيجابي:
هو فرع حديث من فروع علم النفس، عمرهُ عقدين فقط.
يُركز على أوجه الإقتدار الإنساني وتنمية الإمكانات الفردية والجماعية، وتعزيز هذه الإمكانات والقُدرات، بعكس فروع علم النفس الأخرى التي ترتكز على تشخيص الإضطرابات وكشفها، ونشأة علم النفس الإيجابي جائت كردّ على الإفراط في التركيز على المرض والإضطراب والقصور لدى الفرد والجماعة، ويتمسك علم النفس الإيجابي بأطروحة تقول بأن في مُقابل الاضطراب والقصور لدى الإنسان هُناك أوجه صحة وقُدرة، ومُقابل التشاؤم واليأس هُناك تفاؤل وأمل.

سنوات طويلة من القهر والهدر، تجعل الإنسان مُحاصرًا بوحوش التجريم والتحريم وموت للطاقة الحيوية، وبالتالي يكون تقديره لذاته بأنه عاجز تمامًا عن الإبداع والإنتاج، فضلًا عن مواجهة ومُجابهة واقعه المأزوم والرديء، فلا حول له ولا وقوة على تغيير واقعه للأفضل أما مصيره فهو مجهول وضبابيّ، عندها يأخذ موقع التبلّد والإستسلام للقدر الحتمي والمفروض، ويقع في وهدة الإكتئاب الوجودي وإجترار المُعاناة وبُؤس الواقع المُعاش، وهذا يظهر في الثقافة الإجتماعية القائمة على الندب والحُزن العام والعارم الذي يجتاح الحياة ويُحيلها لسلسلة من المآسي والمِحن واليأس، وهذا ما يُصطلح عليه بالعجز المُتعلم، وهو مصطلح تقني في سيكولوجية التعلّم لدى الإنسان وكذلك الحيوان.
إن العجز عن مُجابهة الواقع هو الذي يُؤدي للإستسلام للوضعية المُؤلمة، ويُؤدي للسلبية والمزاج المُكتئب والشعور الذاتي بإنعدام القيمة وتقدير الذات، ومُمارسة العدوانية، والوقوع تحت سيطرة الأفكار الإنتحارية الواعية واللاواعية.
وكما هو معروف في نظريات علم النفس الإيجابي، فإن كل تعلّم قابل لإعادة تعلّم او لتعلّم مُختلف في الإتجاه.
يعني يُمكن تعلّم المُجابهة كما يتم تعلّم العجز.

طاقة الحياة هي "القوة" الدافعة للتقدم والنماء والعُمران والتطور، وهي نقيض لنزوات الموت المعروفة في نظرية التحليل النفسي التي حظيت ببحث وتحليل مُفصل من قبل العلماء التحليليين بعكس طاقة الحياة.
طاقة الحياة وفق نظرية فرويد (التحليل النفسي) تتجسد في القوة التي تدفع الكائن الحي للتكاثر والإرتباط والنمو والتوسع، فطاقة/إرادة الحياة هي سبب العُمران الإنساني والإنجازات البشرية على مر العصور والأزمنة،

وكمثال طبيعي على طاقة الحياة؛ الربيع الذي يعقب فصل شتاء عاصف، والعُمران الذي يحدث بعد دمار شامل، وتجدد الأرض بعد حريق أو فيضان.
وقد أبدع الفيلسوف آرثر شوبنهاور، مفهوم "إرادة الحياة، The will of life"، هذا المفهوم يعتبر كل الكون يتحرك وفق إرادة الحياة الأولية التي تتجسد في التكاثر والنمو وتجنب الموت، كما يرى الفيلسوف فريدريك نيتشة بأن "إرادة القوة"، هي من أقوى الإرادات وتحتوي تلك الإرادة على إرادة الحياة.
وأعظم تجلي لطاقات الحياة يكون في الأوضاع الإستثنائية الحرجة، وهنا لا مجال للتعميم ففي حالات الحرب العنيفة أو الكوارث الطبيعية غالبًا يستسلم الإنسان لقدره وواقعه، ولكن ثمة شعوب أثبتت قوة الطاقة الحياتية وقدرتها على مُجابهة قوة الموت والتدمير،
ففي قطاع غزة المُحاصر منذ أعوام، والذي يتعرض كل فترة للقصف والإعتداء، تجد الغزيين في مواجهة كلَّ ذلك يُمارسون حياتهم الطبيعية؛ يدرسون ويتفوقون في دراستهم وأعمالهم، ويعملون على كسر حصارهم ويُقاومون المُحتل،
توجد أمثلة تعزُّ عن الطرح، تُجسد مُجابهة الغزي لواقع القهر والهدر المُمارس عليه، وكما هو حال الفلسطيني الغزي نرى حال الفلسطينيين من أبناء الضفة الغربية، في واقع الحواجز الأمنية والإعتقالات والتصفية الجسدية والإعتقال الإداري التعسفي وجدار الفصل العنصري،
وكذلك الشعبين الألماني والياباني بعد خسارة الحرب العالمية الثانية،
فدولتيّ ألمانيا واليابان اليوم تُنافسان الدول التي إنتصرت في الحرب العالمية، في مجالات الحياة كافة.

عندما نذكر "الواقع" دائمًا يرتبط هذا المفهوم بوضعية آنيّة سلبية ومليئة بالتشاؤم، وضعية نتجت عن تراكمات، وحلقات مُترابطة من السلبيات والنزعات التشاؤمية والمُعوقات. ترتطم الرؤى والأحلام والأهداف بجدار "الواقع"، حيث تتوقف هُناك وتتساقط لتموت وتندثر.
اللاجدوى حُكم ضمني لأيّ نشاط أو فعل. والإنسان في هكذا وضعية يُصبح كائنًا مهزومًا بالضرورة، خاضعًا لحتمية الهزيمة، وتُعمم هذه الحالة على وطن بأكمله وأقليم أو منطقة كالشرق الأوسط مثلًا.
تُقوّم الأمور بسلبية. ترتكز النظرة الفاحصة/الناقدة على ما هو سلبيّ وعلى الأزمة أو النكسة، نعم ليس علينا غض الطرف عن السلبيات وإنكار وجودها، ولكن الإهتمام بالمُشكلات من حيث أنها مشكلات مُستعصية، وهكذا هو واقعنا... هذا الإهتمام السلبي يُلغي إمكانية تعزيز القُدرات حتى ولو كانت تلك القُدرات ضئيلة مُقابل المُشكل العظيم.
تشخيص المشاكل الفردية والجماعية بشكل سطحي/بإظاهرها فقط والإستسلام لها، ما هو إلا إمعان في المُشكلة وتعميمها بحيث تُصبح واقع لابد منه، وقدر محتوم!
النظرة الإيجابية لا تعني البلادة والإنكار، هي تدخل في صميم تطبيق أفكار علم النفس الإيجابي الذي مثلما أسلفت يتناول أوجه الإقتدار والنجاح، بدلاً من طمسها بتبني أوجه الضعف والخلل.
والتفكير الإيجابي يأتي كنقطة إنطلاق لتلك الطاقة الحياتية الكامنة في الفرد والمجتمع، وهو إتجاه ذهني يهتم بكل الأشياء التي تُؤدي للنمو والنجاح والتطور.
أولى خطوات التفكير الإيجابي هو "الوعي"، فالوعي يُؤدي لإستيعاب الواقع الذاتي والموضوعي، بسلبيات هذا الواقع وإيجابياته، هو ببساطة كشف الواقع، فهو يقوم بوظيفة الإنتباه للذات والمُحيط وكيفية الإستجابة الذاتية للمُؤثرات الخارجية، وكذلك يقوم الوعي بوظيفة التوجيه الذاتي والتي تُتيح للفرد حُسن التصرف في التعامل مع الواقع كيفما كان.

ومن المفاهيم المُهمة في علم النفس الإيجابي، مفهوم "الدافعية"، وهو ترجمة لكلمة: Motivation الإنجليزية والمُشتقة من كلمة(Movere) اليونانية والتي تعني "تحرك".
من خلال السلوك الظاهر تظهر الدافعية، وللدافعية مُكونين هُما:  الهدف ومقدار القوة المُحركة للسلوك.
تتأثر الدافعية ككل القدرات الإنسانية بالجانب والوراثي(البيولوجي)، والثقافة الاجتماعية.
فهناك دوافع بيولوجية كالدافع للبحث عن الغذاء والإبتعاد عن المخاطر.. الخ، ودوافع ترتبط بالتكيّف الإجتماعي والبيئي.
وتشكل الظروف الآنية والتاريخية البعيدة والقريبة، قوة فاعلة في إعادة ترتيب أولويات الدوافع على الصعيدين الذاتي والمُجتمعي، يتضح مما ذُكر بأن الدوافع تتنوع، وتتأثر بالخارج كما تتأثر بالداخل(دافعية برانية/دافعية جوانية). وقد تتضائل الدوافع وتندثر لتحل مكانها وضعية الإستكانة والخضوع، ويفقد الشخص سيطرته على ذاته، ولا يستطيع تحديد دوافعه، وبالتالي يفقد إرادته الذاتية.
وفي أعلى حالات الدافعية الجوانية يحدث "الإستغراق" وهو بإختصار القيام بالعمل على أكمل وجه دون ملل أو بذل جهد مُضاعف، بحيث يتماهي "المُستغرق" مع عمله، وينسى الواقع الخارجي. وهذا الأمر لا يحدث إلا عندما يعمل الإنسان ما يُريد ويرغب.

ذكرنا الإقتدار الإنساني وهو نقيض حالات العجز والإضطراب.
و"الإقتدار المعرفي" هو بمثابة رأس الإقتدار الإنساني، إنه مصدر النهضة والتطور والتغيير للأفضل على الصعيدين الشخصي والإجتماعي.
وكمُحاكاة لمقولة ديكارت:"أنا أُفكر إذًا أنا موجود"، نقول بهذا الصدد:"أنا أعرف إذًا أنا موجود"، يعمل الإقتدار المعرفي جنبًا إلى جنب مع القُدرات التقنية، ليُؤدي للنهضة المنشودة والتطور المُمكن، حجر الزاوية في الإقتدار الإنساني يتمثل في المُثابرة والمُواجهة،

ويأتي "الذكاء العاطفي" كمُكمل لتطبيقات علم النفس الإيجابي، وقبل تعريفه نذكر آليّته العصبية، وهو عبارة عن تكامل وتآزر عمل النشاط الإنفعالي الذي يحدث من خلال اللوزة العصبية في الدماغ، مع النشاط المعرفي للقشرة الدماغية، فمجرد وجود خلل في ذلك التكامل والتآزر، يحدث إضطراب الذكاء العاطفي، ويُصبح الشخص سجين إنفعالاته التي تُسيطر على سلوكياته، دون ضبط أو توجيه من قبل العمليات المعرفية الإدراكية، وهذا يُشخص حالات الغضب المُتفجر والعنف والسلوكيات العدوانية.
بحسب عالميّ النفس ماير وسالوفي، يُعرف الذكاء العاطفي على أنه مجموعة المهارات التي تُسهم في التقدير والتعبير والتنظيم الفعّال للإنفعالات ذاتيًا وخارجيًا.
وللذكاء العاطفي خمسة أبعاد بحسب نموذج غولمان، وهي: الوعي بالعواطف الذاتية، وإدارة العواطف، وحفز الذات، والتعاطف، والتعامل مع عواطف الآخرين،
ومن خلال التدريب والبرامج العلاجية يمكن تنمية الذكاء العاطفي وتطويره.

يحدث أن يعيش الإنسان في بيئة "مُحَطّمة"، يعاني الكثير من الصعوبات والتحديات ومع ذلك يُنجز ويُبدع، هذا الإنسان طبّق "المرونة الإستيعابية" بشكل لا واعي، كأن الإنسان في مرونته تلك، كنبتة خيزران تنحني أمام ضغط الرياح الشديدة، وتعود للإنتصاب بعد زوال الضغط، وكتعريف مُبسط للمرونة الإستيعابية، هي قُدرة الناس (أفرادًا وجماعات) على التعامل مع المحن والشدائد.

من الغايات الأساسية التي يسعى الإنسان لتحقيقها دائمًا، وفي كل مراحل حياته، هي غاية "السعادة وحُسن الحال"، هذه الغاية التي لا تتحقق إلا عندما يتم القضاء على كل أشكال القهر والهدر، وبناء وتعزيز الإقتدار الإنساني، وبذلك تُصبح السعادة حتمية أخلاقية.
السعادة هي إحدى مُقومات حُسن الحال، وهي حالة فُضلى من الرضا والإرتياح والمشاعر الإيجابية والإنفتاح على الحياة والإقبال عليها، وللسعادة فلسفيًا منظوران؛ منظور اللذّة ومن خلاله ترتبط السعادة بالحصول على مُتع ولذائذ الحياة وإستهلاكها، ومنظور الحياة الطيبة الذي صاغهُ أرسطو، حيث السعادة تتعلق بفضائل الحياة والحُب والعطاء والوجود القيّم.

نحنُ عندما أدركنا مُثبطات السعادة في واقعنا، ونفذنا خطة علاج على أساس قُدرة الإنسان وإمكانياته الغير محدودة، حققنا نتيجةً ذلك "الرفاه الإنساني" المنشود وصنعنا واقعًا مُغايرًا، واقع يُحترم فيه الإنسان ويُقدَّر ويُشارك في تنمية وطنه بلا تخوّف من مُستقبل ولا غرق في حاضر أو ماضي.

طاقات الحياة لا تموت، إنما تتعطل بفعل تكرار وإستمرار عمليات القهر والهدر، فالشعوب التي تحكمها أنظمة إستبدادية، ومارست تلك الأنظمة إستبدادها لعقود وظنّت بأنها بذلك أخضعت إرادة الشعب وأمتلكت مصيره... تتفاجأ تلك الأنظمة بثورة شعبية عارمة، تُسقط النظام وتُعيد تشكيل الواقع من جديد، كما حدث في ثورة الشعب التونسي أواخر العام 2010.

مُجتمعاتنا العربية اليوم بحاجة ماسّة وعاجلة لبرامج تنمية فعلية، تتناول حُسن حال الفرد ومُقومات سعادته، التي تنعكس على الدولة ومؤسساتها، وليس من قبيل الترف تناول الحاجة لحُسن الحال والسعادة التي يتناولها علم النفس الإيجابي كقضية أساسية وكعلم نظري، في واقع مليء بالعطالة والفوضى وخُطط تنموية/نهضوية لا تتجاوز الورق وورش العمل والمؤتمرات، بل كل الحاجات الإجتماعية اليوم كما في الأمس القريب والبعيد تدور في فَلك هذه الحالة النفس/إجتماعية، سعادة وحُسن حال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من


.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال




.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار


.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل




.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز