الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو فلسفة غيرية، إنسانيا وإيكولوجيا

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2019 / 12 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قدمت هذه المداخلة بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة في إطار الندوة التي نظمت بثانوية الحسن الثاني ببنسليمان
ـ يظهر من خلال العنوان أننا نتوجه نحو المستقبل ولا نتوجه نحو الحاضر ولا إلى الماضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كيف ذلك ؟
نحو فلسفة غيرية : نقصد بها إطار فكريا منفتحا يستحضر الإنسان الآخر من دين آخر، ومن لون آخر ومن له رأي آخر ومن له جنس آخر . ويستحضر كذلك الجانب الإيكولوجي كآخر مثل الطبيعة وما تتضمن من حيوانات ونباتات وتربة وهواء وماء وغير ذلك .
وأطرح السؤال التالي:
هل الحداثة التي بلورها فلاسفة الأنوار مسؤولة عن المآل الذي وصلنا إليه ؟
ـ وهل هذا المآل يدفعنا إلى اليأس من واقع الإنسان والمجتمع والطبيعة ؟
ـ ولكن قبل أن ننشد هذه الفلسفة الغيرية ينبغي أن نعترف أننا مدينون للحداثة والتحديث في جميع مظاهر الحياة التي نعيشها.
ـ أبدأ أولا بالحداثة :
وأقول أننا مدينون :
للعالم البولوني كوبرنيكوس الذي أحدث ثورة في علم الفلك في النصف الأول من القرن 16، لقد أوقف الشمس وحرك الأرض، إذ غير نظرة الإنسان إلى العالم، فلم يعد العالم مغلقا ومريحا، ولم يعد العالم قبة سماوية بها أجرام سيارة تدور حول مركز الكون المتمثل في الأرض، وإن غاليلو الذي طور الثورة الكوبرنيكية عمليا بعد اختراعه للتلسكوب سيجعلنا نفهم كم كانت حواسنا تخدعنا وتكذب علينا. إن العالم لا نهائي يتجاوز حدود حواسنا الضعيفة التي توجد من أجل الحياة والتكيف مع محيطها لا بناء المعرفة، وقد دفع الفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو حياته ثمنا لهذه الحقيقة التي زلزلت الإنسان الأوروبي في القرن 16م.
وأقول كذلك أننا مدينون :
للفيلسوف الفرنسي ديكارت، فبعد الانقلاب المعرفي الذي أحدثه كوبرنيك في النظام المعرفي للكون لم يعد عقل ديكارت يقبل أي فكرة بصورة ساذجة دونما تمحيص وتدقيق، وبعبارة أدق ظهر لديكارت أن على العقل أن يتحرك وهو يقظ وحذر ومسلح بكل التريث اللازم، فالعالم لا يبوح بسره بمجرد ما تراه الحواس، فالحقيقة ليس معطاة، بل تصنع صناعة وقد حدد في كتابه: مقالة في المنهج أربع خطوات للوصول إلى الحقيقة: البداهة، والتحليل والتركيب والمراجعة.
وأقول أننا أيضا مدينون:
للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لقد أحدث الرجل ثورة في مجال الأخلاق، إذا كان المجتمع يعتبر الصبر قيمة أخلاقية، فلا وجود لإنسان أكثر صبرا من المجرم، إذ يتربص بضحيته سنوات وينفذ جرمه بدم بارد، ولذلك ينبهنا كانط أن ليس كل من يصبر فهو إنسان خير، فالأمور تقاس بالنية أو الإرادة الطيبة في صفائها ووضوحها، إنها نابعة من عمق الذات.
وأقول أننا مدينون :
للفيلسوف كارل ماركس في القرن 19، الذي قال أن كل فكرة تروج إلا وتحمل مصالح مضمرة لفئة أو طبقة اجتماعية . بمعنى أن الأفكار ليست بريئة.
وأقول أننا مدينون:
للفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي قسم العالم إلى تمثل وإرادة، فالتمثل هو السطح، بينما الإرادة هي العمق حيث تسود الطاقة العمياء، وإلى فرويد حيث قسم عالم الإنسان إلى الوعي حيث السطح واللاوعي حيث هناك سراديب ومكبوتات خفية.
ـ في ميدان الطب، نحن مدينون لوليام هارفي مكتشف الدورة الدموية، إذ بين أن الدم يسري في دورة مغلقة خلال الجسم ابتداء من القلب، فالشرايين فالأوردة التي ترجع به إلى القلب.وهذه الفكرة لم تكن معروفة في القرن 17.
ثانيا بالنسبة للتحديث:
ـأقول نحن مدينون للعالم توماس أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي عام 1879 باستخدام الخيط القطني واستمر المصباح في الإضاءة لمدة 40 ساعة، لقد استطاع أديسون تحويل الطاقة الكهربائية إلى ضوء، والآن مدة الإنارة صارت أطول مع استخدام فتيل من معدن التجنستين.
ـ أقول أننا مدينون للعالم لويس باستور الذي اكتشف اللقاحات التي تعمل على تحفيز الجهاز المناعي لتطوير الأجسام المضادة .
لكن : هل الحداثة هذه والتحديث هذا تضمنا الآخر ؟
بالطبع استفادت جميع الشعوب من التحديث العلمي، استفادت من الهاتف والكهرباء والسيارة ومن اللقاح ومن الأسلحة وغير ذلك
إلا أن مظاهر التحديث كانت كارثة على الإنسان والطبيعة .
وبالطبع يعزى سبب هذه الكارثة إلى المنظرين الأوائل للحداثة :
يقول ديكارت: «يمكننا أن نجد بدلا من هذه الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، فلسفة عملية، وأن نجعل أنفسنا سادة الطبيعة ومالكيها» مقالة الطريقة، ص 194ـ196 ت جميل صليبا .
يقول أوغست كونط: «فمادامت معرفة قوانين الطبيعة تسمح لنا بالتنبؤ، فكذلك يمكنها بشكل واضح أن تقودنا في الحياة العملية إلى تغيير هذه القوانين، الواحدة تلو الأخرى، لما فيه مصلحتنا»، أ كونت، دروس في الفلسفة الوضعية، ص 45
وبروح عجيبة البرودة يخبرنا هيغل في كتابه العقل في التاريخ أنه فيما يتعلق بالسكان الأصليين (الهنود الحمر) في أمريكا اللاتينية والشمالية ، فلم يبق إلا القليل من سلالتهم وأن سبعة ملايين أعدموا من طرف الإسبان والأنغوساكسون والبرتغاليين . ويعلل سبب اختفائهم بدون مواربة وبدون تردد بضعف تكوينهم الإنساني وبدونيتهم أمام التفوق الحضاري والثقافي للأوربيين.
وفي ظل استعداء منظري الحداثة للطبيعة وللإنسان الآخر، دعونا الآن ننظر إلى انعكاس الحداثة على التحديث :
ـ إن الحداثة المغلوطة التي لا تعترف بالآخر والتحديث على مستوى السلاح ساهما في إبادة 112 مليون إنسان يعيش في الأمريكتين ينتمون إلى 400 شعب مثل الأزتيك والإنكا والمايا والشيروكي . يمكن الرجوع إلى الدراسة الهامة التي أنجزها الأستاذ بجامعة بوسطن منير العكش : أمريكا والإبادات الثقافية أمريكا والإبادات الجنسية، عشيات الكوخ : حكايات الهنود الحمر ...
ـ بسبب التقدم التكنولوجي على مستوى السلاح، فقد العالم 60 مليون قتيل خلال الحرب العالمية الثانية.
ـ خلفت الحرب الأهلية السورية حتى الآن ما يزيد عن 400 ألف قتيل .
ـ إن تدمير الموارد الطبيعية وخاصة الغابات من أكبر التهديدات التي تواجه مستقبل الحياة في الأرض، ففي القرن الأخير دمرت ما يزيد عن 50 في المئة من غابات العالم .
ـ رغبة في السيطرة على موارد العالم من ماء وخشب وبترول تنفق أمريكا 610 مليادرات دولار سنويا على السلاح والصين 228 مليار دولار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا أطرح السؤال: هل خرجنا من حالة الطبيعة أو حالة التوحش أو حالة الحرب الدائمة التي تحدث عنها توماس هوبز في كتابه الليفياتان خلال القرن 17م ؟
في سنة 1945 تأسست الأمم المتحدة، وتنص مبادئها على عدم تدخل دولة ضد دولة أخرى واحتلال أرضها، إلا أن أمريكا في مارس 2003 تدخلت ضد العراق وكأننا نعيش في حالة الطبيعة، لا حالة الحضارة والقانون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما العمل؟ كيف ننشد فلسفة غيرية تحترم الطبيعة والغير؟ وما جدوى الفلسفة ؟
علينا أولا نتخلص من الأنانية التي تحكمنا ونكون غيريين متصفين بثقافة الاختلاف والقبول بالآخر الذي يختلف معنا في الدين والرأي والجنس واللون وحتى الطبيعة والحيوان
ننصت لبعض الحكم:
أولا في الفلسفة:
ـ قال الفيلسوف ابن عربي أن الإنسان إذا استظل بشجرة صارت بينهما صحبة أو صداقة ملزمة ويرعاها ويتعهد بها سواء كانت مثمرة أو غير مثمرة.
ـ تحدث الفيلسوف الألماني إدمون هوسرل في كتابه التأملات الديكارتية عن الوعي القصدي، قائلا بأن الوعي هو إدراك لشيء ما، وهذا الشيء قد يكون الغير، الطبيعة ... . دعا إدمون هوسرل إلى استحضار الآخر في سلوكنا
ـ تحدث الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي في كتابه فينومنولوجية الإدراك عن البينذاتية . وهي أرضية مشتركة يؤسسها الأنا والغير للتفاهم والحوار
ـ في كتابيه روح الزمان ونحو سياسة حضارية، دعا إدغار موران إلى ثقافة إنسانية كونية تحترم الآخر بعيدا عن أشكال التعصب والعداء سواء ضد الطبيعة أو ضد الإنسان.
ثانيا في الإسلام
ـ جاء في القرآن الكريم: « لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا، إن رحمة الله قريب من المحسنين»، سورة الأعرف، الآية 56
ـ وجاء في الحديث النبوي «إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة، فليغرسها» رواه أنس بن مالك
ـ ويحكى أن الفقيه الشيرازي كان يمضي في الطريق والتقى مع كلب، فأراد تلميذه أن يضربه، فنهره وقال : لا تضربه إن الطريق مشترك بيننا وبينه . بينما في وقتا هذا يحكي أن المستشرق الياباني نوبوأكي نوتوهارا أنه لاحظ في شوارع القاهرة المصرية أن طفلا يعذب طائرا حتى قطع رجله، ولذلك فالشارع في مدننا من نصيب المتغولين .
ثالثا في البوذية
ـ يقول سيدهارتا غوتاما بوذا (563 ق م ـ 483): أيها الإنسان لا تغضب، فلن تعاقب على غضبك، بل ستعاقب بغضبك.
ـ من لا تخطر لهم أفكار حاقدة يجدون السلام.
ـ عندما تطوف بين الناس، ستدرك تباين أفكارهم وآرائهم وعاداتهم وستدرك أن الخير والشر نسبيان.
تتأسس البوذية على ثمانية أركان:
1 الإيمان بالحق، الإيمان بالحقيقة
2 القرار الحق أي لا يؤذي الإنسان في تصرفاته أي مخلوق سواء كان إنسانا أو نباتا أو حيوانا
3 الكلام الحق : البعد عن الكذب والنميمة وعدم استخدام اللفظ المشين
4 السلوك الحق : عدم القتل أو السرقة
5 العمل الحق مثل عدم أخذ الإنسان ما ليس له
6 الجهد الحق : السعي دائما نحو الخير
7 التأمل الحق : الهدوء دائما وعدم الاستسلام للفرح أو الحزن .
8 التركيز الحق : وصول الإنسان إلى مرحلة السلام الدائم .
رابعا : حكم الهنود الحمر
حين عزمت قبيلة دواميش إحدى قبائل الهنود الحمر الاستسلام للأمريكيين عام 1855 قال زعيم القبيلة هذه الحكمة:
(طباعنا تختلف عن طباعكم، المياه اللامعة في الغدران ليست مجرد مياه، بل هي دماء أجدادنا، إذا بعناكم الأرض فعليكم أن تعلموا أنها مقدسة، وعليكم أن تعلموا أولادكم أنها مقدسة، إن كل وهج في مياه البحيرات الصافية يروي أحداثا وحكايات من حياة شعبي، وهمهمة الماء هي صوت أجدادي، الأنهار إخوتنا تطفئ ظمأنا وتحمل زوارقنا وتطعم أطفالنا )
ويقول أيضا:
(ما طعم الحياة إذا لم تستطع الإصغاء لصوت القبرات أو خصام الضفادع على ضاف البركة ليلا؟ أنا رجل أحمر لا أفهم ذلك . الهندي الأحمر يحب همهمة الريح تلامس سطح البركة، وأريج النسائم مغسولة بمطر الظهيرة ومضمخة بعطر الأنفاس . الحيوان والشجرة والإنسان كلهم يتقاسمون ذات الأنفاس.
أختم بهذا الكلام والسلام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية