الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المليشيات المسلّحة بين الخراب والعبادة

نصير عواد

2019 / 12 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لا نبالغ بالقول انه لا يوجد أكثر من العراقيين التصقت أذانهم بجهاز الراديو، وتسمرت أعينهم أمام الشاشة الفضية، لمعرفة ما يجري في بلدهم من تغييرات لا ينقطع حبل المفاجأة فيها. وما حدث في الأيام القليلة الماضية ببغداد وكربلاء والناصرية من عمليات قتل واختطاف للمتظاهرين السلميّين، على يد المليشيات المسلّحة، ليس سوى حلقات من سلسلة زمنية امتدت على مساحة نصف قرن من الحروب والمعاناة. وكما في كل مرّة تأخذ أحداث العراق المأساويّة أبعادا عالميّة وبيانات شجب أمميّة، ثم سرعان ما تعود إلى رف النسيان، فلقد ملّ الجميع متابعة بلد لا يعرف أبنائه الطريق إلى الاستقرار.
إنّ أطلاق النار على المتظاهرين السلميّين بساحة التحرير كان بمثابة أطلاق نار على الشعب العراقيّ بأكمله، ذكّرتنا الحادثة بحقيقة ان هذه ليست أول مرة تشهر فيها قوى الإسلام السياسيّ السلاح بوجه المتظاهرين، ولقد سبق للمدنيين الذين نظموا تظاهرات أسبوعية في أعوام (2011 _ 2014_ 2018) ان واجهوا شتى أنواع القمع والتنكيل والتخوين، فالعراق ومنذ سقوط الديكتاتور يسير وفق منطق السلاح، سقط بسببه كثيرون، بمن فيهم اصحابه. صحيح انه قبل حراك تشرين (2019) لم يشهد الشارع العراقيّ مسيرات مسلّحة أو أطلاق دائم للرصاص، ولكن المليشيات كانت حريصة على تثبيت سلطتها، تراقب وترصد حراك الشارع بشكل يومي. تمارس نوعا من العنف الرمزي المبرر دينيّا، لا يدركه سوى ضحاياه، أفراد وجماعات. نحن عندما نتحدث عن السلاح لا نقصد به فقط ظروف الحرب، فالعراق تعوّد على ذلك، وهو ينتقل منذ نصف قرن من حرب إلى أخرى، ولكننا نقصد به انفلات السلاح الشخصي والثقيل، وانتشاره في البيوت والشوارع والمساجد، عدّه البعض فتوحا حزبيّة وطائفيّة ستعمل على تأبيد سلطتهم. ولكن بعد أعوام من تراكم المكتسبات والعثرات، وظهور طبقة من امراء حرب ومقاولين وسماسرة ووزراء يستثمرون في السلاح والحروب، صُدم الشارع العراقيّ، وتراجع خطوتين إلى الخلف. ثم وجدت نفسها كوادر الأحزاب الإسلاميّة، الذين واجهوا الديكتاتوريّة السابقة، في عزلة عن حاضنتهم السياسيّة. وتقدم المشهد رجال من دون تاريخ، يتدثرون بثياب سود وأسلحة ناتئة من خلف ملابسهم.
مَنْ مِنّا لم يعانِ من وجود المليشيات بالشارع العراقيّ؟ ومَنْ منا يزعم انه لم يرَهم ولم يحس بثقل وجودهم؟ فعملية اغتيال واحدة في الشارع ستترك أثرا في وجوه العامة وألسنتهم وحكاياتهم، فكيف بمئات التهديدات والاغتيالات على مدى ستة عشر عام؟ وعلى بالرغم من تنوّع قماشة المليشيات وتعدد مراجعها الدينيّة إلا انهم جميعا يجلسون على سجادة مشتركة في الحوار والتنافس، سداها المال ولحمتها السلاح، ما صنع فوضى اجتماعيّة صار فيها البلد اشبه بسوق كبير للخردة. فوضى اضعفت قيم المجتمع الاخلاقيّة ومنعت ظهور شرائح وطنيّة تنهض باقتصاد البلد، وظهرت بدلا عنها فئات جديدة من السماسرة والتجار وأمراء الحروب الذين يمتلكون الأموال، من دون ان يعرفوا كيفية استثمارها وتشغيلها في الصالح العام. أردنا القول ان التنافس بين احزاب الإسلام السياسيّ المهيمنة على الحكومة هو في أحد وجوهه تسليحي، غير معني ببرامج اقتصاديّة وتنمويّة. لأن الفكر الطائفيّ الذي تؤمن به يؤسس للنزاعات لا ينهيها، فكر مهيج، عدواني، يزكي أفعال القتل والنهب، ويجعل من سرقة مال الدولة لغرض تسليح المليشيات أمر يحبه الله ويرضاه، فالنفط والغاز في ظنهم ثروات لا مالك لها سوى الله.. وعباده الصالحين.
إنّ اختلاف المصالح والمرجعيّات بالعراق أوجد مروحة من احزاب الإسلام السياسيّ ذات الصبغة الطائفيّة الشديدة التعقيد، تعتمد قداسة عميقة، تسمح بالقتل وبأداء الصلاة في وقت واحد، بعد أن أنشأت مليشيات مسلّحة خارج سلطة الدولة، لا علاقة لها بالثقافة والمعرفة والانضباط العسكريّ، وتخضع في عملها إلى فتاوى رجال دين وأمراء حرب. ميليشيات جل افرادها من ابناء الأرياف الذين نبتت لحاهم توا، وفلاحون لا يمتلكون اية مهارات، وجدوا في الانضمام للمليشيات فرصة فيها المال والسلاح والمهابة. بل حتى انصاف المتعلمين من فقراء المدن انتموا للمليشيات المسلّحة بعد ان شعروا انه لا جدوى من العمل والدراسة وممارسة المهنة، ساعدهم في ذلك فشل التعليم والبطالة والخراب الاقتصادي.
إن المتتبع للأحداث بالعراق سيجد ان الاحزاب التي لديها اجنحة مسلّحة ما ان ترتكب غلطة، وتوجه لها أصابع الاتهام، حتى تلبس ثوب الضحية وتلجأ للحديث عن شهداءها ودورها في دحر الإرهاب الداعشي، الأمر الذي يجعل التمييز بين الحشد الشعبيّ وبين المليشيات المسلّحة ضرورة لفك الاشتباك، ووسيلة لإعطاء كل ذي حق حقه. صحيح ان هذه الأحزاب قدمت الكثير من التضحيات في سوح القتال، وأنها ساهمت فعليا في مقاومة الإرهاب واستعادة المدن التي احتلها داعش، ولكنها في ذات الوقت وظّفت فتوى المرجعيّة الدينيّة في مواجهة الإرهاب لصالحها في توسيع نفوذها السياسيّ والعسكريّ، وصنعت دولة ظل قوية إلى جانب الدولة العراقية الضعيفة. وعندما يرتبط الدفاع عن الوطن بانفلات السلاح وبأذلال المواطن فهذا يعني خللا في المصداقية، يكون فيها السلاح وسيلة للاستبداد والهيمنة، والدفاع عن نفوذ الأحزاب ومكاسبها المادية. الشارع العراقيّ بدوره أدرك مبكرا الخطاب المخاتل لأحزاب الإسلام السياسيّ في التسلّح والسيطرة، فلقد سبق لهذه المليشيات ان نغصت عيشه وأرعبته وهددته في ابسط حقوقه، وتركت عنده الانطباع بانها ستعود إلى طبيعتها حالما تهدئ الأوضاع، ولذلك بقي المواطن متوجسا من بقاء السلاح خارج سيطرة الدولة، وقلقا من عودة ظهور المسلحين بالشارع. ولذلك كان ذهاب بعض عناصر الفصائل المسلّحة إلى الموصل وسوريا فترة راحة مؤقتة للمواطن، فبغياب العدو سيبقى المقاتلون يتجولون بالشوارع دون عمل او مهنة، يعتدون على الاقتصاد وعلى الطبيعة وعلى قيم المجتمع. كان الكثير من المقاتلين الذين عادوا من جبهات القتال يشعرون بالفخر وراحة الضمير لتلبيتهم نداء المرجعية الدينية بالدفاع عن الوطن، ولكنهم شعروا بنكران للجميل في الشارع، وبنظرات الناس القلقة والخائفة من سلاحهم، بسب الخلط بين المليشيات المسلّحة وبين الحشد الشعبيّ.
انّ امتلاك السلاح ليس ضمانة أكيدة للحياة ورضى الرب، فهو أداة قتل وتهشيم للذات الإنسانيّة. يقلّل عند حامله الخوف والتعب والجوع، ويسلبه ميزاته الإنسانيّة في الرحمة والعطف والحب، إضافة إلى ان حمل السلاح طويلا خارج اطر الدولة يضعف كثيرا الالتزام بالقوانين والأعراف التي تضمن أمن المجتمع واستقراره. ونستطيع القول ان الذين حملوا السلاح، وفقدوا أحبة وأصدقاء، يعرفون أكثر من غيرهم حقيقة ان السلاح لا يخلق حياة مستقرة، وان حامله لا يشعر بالأمان حتى لو غلّف ذلك بسيلوفان البطولة والمقاومة والزهد بالحياة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إليكم مواعيد القداسات في أسبوع الآلام للمسيحيين الذين يتّبعو


.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم




.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله


.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط




.. 102-Al-Baqarah