الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وما الفائدة من وجوده إذاً ؟

ياسر المندلاوي

2006 / 5 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ثمة إله وإله، وثمة دين ودين. والعلاقة بين الإله والدين، مضطربة، إضطراب البشر في سعيهم للتحرر من الألم والعذاب والإضطهاد، وقلقة، قلقهم في البحث عن الله، ليس لذاته، وإنما لصفاته وأولها الخلود. وبين حدي القلق والإضطراب، إله يخلق دينه، ودين يخلق إلهه. وكيفما كان الإله، خالقا أو مخلوقا، فإن وجوده يؤشر عجز الناس عن إدراك كنه الأشياء المحيطة بهم، مثلما يؤشر نزوعهم لتجاوز مثالب الواقع، إلى ما يتوافق وحاجات الإنسان إلى الطمأنينة، على إطلاقها، لا حصرها في شأن إنساني دون غيرها من الشؤون. فحينما يكف الإله عن الإستجابة لما يتوق إليه البشر، تنتفي الحاجة إلى وجوده، فينصرفون عنه إلى غيره. وحينما ينتهي الدين إلى غير مقاصد الإله، يستبدله بآخر ليتم به تلك المقاصد. ففي بداية القرن السادس ق.م إجتمع اليونانيون حول معتقدات إسطورية، تشكلت في هيئة الدين الأولمبي، نسبة إلى إسم جبل أولمبس، حيث تسكن أسرة الآلهة برئاسة (زفز). ولما كانت الآلهة بصورة إنسان، ومن غير كهنة (كان يقوم مقامهم أشخاص تنتخبهم الجمعية الشعبية)، شاع أمرها وزاد نفوذها بين العامة والخاصة. وما أن تحول الدين الأولمبي إلى ديانة رسمية، تقدس إضطهاد العبيد، حتى إنصرف الناس عن عبادة آلهة الأولمبيين، إلى عبادة (ديونيزوس) الحامي للزراعة، إله الخمر والخصب والتصرف الجامح.
وفي مصر القديمة، إنصرف الناس عن الإله الرسمي للدولة لصالح الإله الشعبي (أوزير) أو (أوزيريس)، الذي حقق إنتصارا باهرا على الإله الرسمي (رع) مع نهاية الأسرة الحاكمة السادسة، بإعتباره مخلِِصا للبلاد من الجور والإضطهاد والبلاء.
في الإشارتين السابقتين، إستبدل الدين إلاهه بعد أن إستنفذ الأخير دواعي وجوده بتحوله إلى أداة للظلم والطغيان. ولنا في تعاقب الأديان التوحيدية، ولاسيما اليهودية والمسيحية والإسلام، شواهد أخرى على إستبدال الإله لدين بآخر، بعلة الإنحراف عن القصد الإلهي في إتمام مكارم الأخلاق، توطئة للفوز بالخلود في العالم الآخر.
لا شك إن لفكرة الخلود مركزيتها في غالبية العقائد الدينية، ولاسيما التوحيدية منها، وعلى قدر إرتباط هذه الفكرة بالعالم الآخر، فإنها في رابطة عضوية مع فكرة وجود الله، وبالسلوك البشري، إذ أن الخلود في الفردوس أو الجنة، وربما في النار، يرتهن بأداء الإنسان في حياته الراهنة (الدنيا) على وفق الإلزامات الأخلاقية عن الله. فالإيمان بالعالم الآخر، على وفق هذه الإلزامات، من وجهة النظر الدينية، علة النظام الأخلاقي الدنيوي، كونه يضبط الأداء الأخلاقي للبشر في الدنيا، أملا في الفوز بالآخرة. وبهذا المعنى فإن إنهيار الإيمان بالآخرة، الذي هو هو إنهيار الإيمان بالله، يتبعه إنهيار النظام الأخلاقي برمته. وهذا ما نخالفه بالقول بأن وجود الأخلاق لا تربطه صلة سببية بفكرة وجود الله والعالم الآخر أو عدمهما. نعم، له صلة بالإيمان الذي قد يتخذ شكلا دينيا، وقد لا يتخذه إلا في حدود موافقته الدين بصفته ( وفاء لمبدأ، إخلاصا أو أمانة شديدين، ضميرا حيا، عاطفة أو تعلقا ورعين) – قاموس إكسفورد -. كما ونخالفه ثانية بالقول بأن هناك الكثير من البشر لا يعتنقون أي دين ولا إيمان لهم بإله، ومع ذلك لا يمكن قذفهم بالرذيلة أو تجريدهم من المباديء الأخلاقية التي يؤمنون بها، مثلما لا يمكن تزكية المرء لمجرد إعتناقه لدين من الأديان. وبناء على ما سبق ذكره، لا مندوحة من مخالفة إطلاقية الفكرة الكانطية (نسبة إلى عمانوئيل كانط) عن الغائية الخلقية للسلوك البشري، وردها إلى حقيقتها الحصرية، كونها تخص اولئك الذين يؤمنون بوجود الله في القول والعمل. إن وجود الله في هذه الحالة، يشكل علة خلقية للمؤمنين به، وليس كما يريده كانط، علة خلقية للعالم، إلا إذا وافقناه في الزعم بأن السلوك البشري محكوم
بالإلزامات الأخلاقية الصادرة عن الله، سواء أقر البشر بوجود الله أو أنكر هذا الوجود. ومثل هذا الزعم في حال القبول به، يؤدي بنا إلى ما يمكن تسميته بالجبرية الأخلاقية التي تجاوزتها الحركات الفكرية الإسلامية منذ زمن بعيد، رغم دوام سيادة الفكر الجبري في عموم الدين.
وفي سياق رؤية العقائديين للعلاقة بين الخلود والعالم الآخر ووجود الله والسلوك البشري، يقفز إلى الواجهة إنهيار النظام الأخلاقي للجماعات والأفراد، إذ أن التسلسل المنطقي للأفكاريقودنا إلى نتيجة مفادها إن إنهيار النظام الأخلاقي للبشر، جماعات وأفراد، يدل على إنهيار إيمانهم بالآخرة، وتاليا بالله ذاته، وإن تظاهروا بخلافه. وذلك لأن الإيمان بالله وفق الديانات التوحيدية، ولا سيما الإسلام، يشترط الإيمان بالعالم الآخر، فيما يتضمنه من معنى للخلود، كونه ناظم سلوك المؤمن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومتى ما أعلن المؤمن، قولا أو عملا أو بكليهما، إنكار الإيمان بالعالم الآخر وبفكرة الخلود، فإنه يعلن موت الله. وحينئذ يستبدل الله ذاك الذي أماته بالذي أحياه.
إن الأزمنة والأمكنة المختلفة تجود دائما بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن بالخلود وبالعالم الآخر، الأمر الذي يعني أن هناك، دائما وأبدا، من يميت الله مثلما هناك من يحييه. فمنهم من يحييه في القول والعمل، ومنهم من يحييه قولا ويميته عملا أو يميته قولا ويحييه عملا، ومنهم من يميته قولا وعملا. وأرذلهم ذاك الذي يحييه قولا ويميته عملا لأنه منافق، يقول آمنت بالله وباليوم الآخر، وما أن يخلو إلى شياطينه، حتى يقول إنما أنا مستهزيء، وهو نفسه ليس بأكثر من هزأة.
إن الذي يحيي الله قولا ويميته عملا، لا يمكنه أن يكون معترفا بالخلود وبالعالم الآخر، لأنه لو كان كذلك، لبذل جهده كي يؤتى، يوم يدعو الله كل أناس بإمامهم، كتابه بيمينه، فيقرأه ولا يظلم فتيلا، ولمنعه إيمانه عن إتيان الأعمال التي تبطل حلال الله وتبيح حرامه. وحيث إنه يأتي بكل ما يخالف زعمه الإيمان قولا، فإنه في حقيقة الأمر، لا يؤمن بالله، وإنما بإله الكاتب الإسباني (ميجل دي أونامونو)، الذي لا فائدة من وجوده، ما دامه يحكم في الأرض وفي السماء من غير بعث ولا نشور، ولا يعد عباده بعالم آخر.
ويوما قال (لوثر)؛" إذا لم تعتقد في اليوم الآخر، ما ساوى إلهك عندي شيئا". فهل الذي يوغل في دماء الأبرياء، ويسرق أموال وثروات العراق، ويجاهر كذبا، ويدفع الرشا، يعتقد باليوم الآخر؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حتة من الجنة شلالات ونوافير وورد اجمل كادرات تصوير في معرض


.. 180-Al-Baqarah




.. 183-Al-Baqarah


.. 184-Al-Baqarah




.. 186-Al-Baqarah