الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسلسل SEE

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2020 / 1 / 2
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تحت سلطة الكنيسة، وما مثلته من ظلم وتخلف، عاشت أوروبا قرونا قاسية ومضنية، عانى الناس خلالها من الخوف والإرهاب، وملأت قلوبهم الكآبة والأحزان، ومورس بحقهم شتى أنواع التعذيب والعنف، غارقين في مستنقعات الفقر والجهل وانعدام الأمن.. ملايين الفقراء قضوا نحبهم في الحروب الدينية، وبسبب الطاعون، وباسم الحروب الصليبية والظفر بالجنة، أو اقتيدوا إلى محاكم التفتيش، بعقوبات شملت الحرق والإعدام بأبشع أساليبه.

سُميت تلك الحقبة القاسية بعصور الظلام؛ ليس لأننا لا نعرف عنها الكثير، بل لأن نور الحياة والمعرفة ظل محبوسا خلالها في حصون الجهل والخرافة. لا أحد يعرف على وجه اليقين متى بدأت عصور الظلام بالتحديد، ولكن لا أحد يختلف مع ما ورد عنها من صور مظلمة وشهادات مروعة، تلمسها مختبئة في مدونات الكنيسة، وقصص سلالات النبلاء والأرستقراطيين؛ وهي الأصوات الوحيدة التي برزت من تلك الحقبة، حيث كانت الكنيسة وحدها ومعها حلفائها الإقطاعيين من يملكون حق الكلام، يقومون بدور الله، ويتحدثون باسمه، ويقتلون باسمه، يوسمون الناس صنوف العذاب باسمه، أو يبيعونهم صكوك الغفران! وفي حقيقة الأمر، كان الموضوع برمته عبارة عن تكريس لسلطة الكنيسة، وتوسعة حدود الملك، ومناطق نفوذ الإقطاع، وزيادة ثروات الطبقات الحاكمة.

في تلك الحقبة كانت الكنيسة كل شيء في القارة الأوروبية، فقد سيطرت على كل مناحي الحياة، من الولادة إلى الزواج حتى الممات. ولم يكن لها ذلك، لو لم تكن الأمّية متفشية على أوسع نطاق، إذْ منعت الكنيسة الناسَّ من تعلم القراءة والكتابة، بل واعتبرتهما خطراً، يهدد مكانتها، ويدنس قداستها!
كل من تكلم، أو فكّر، أو اختلف مع الكنيسة، أو عبّرَ عن احتجاجه على مظالمها، اعتبرته من الخصوم، بل من أعداء الله المهرطقين الذين يستحقون أقصى العقوبات. كوبرينيكوس عوقب، وجاليليو أُدين، فوبرنو أُعدم، وغيرهم الكثير. ملايين النسوة أحرقن بتهمة السحر!

أثناء مشاهدتي للمسلسل الأمريكي SEE، تخيلتُ تلك الحقبة بكل مآسيها..

المسلسل من إخراج "فرانسيس لورانس"، بطولة الأمريكيين "جاسون موموا"، و"ألفري وودارد"، والهولندية "سيلفيا هوكس"، والأيسلندية "هيرا هيلمار"، إنتاج 2019، جرى تصويره في كندا، بتكلفة 15 مليون دولار للحلقة الواحدة.

تقوم فكرة المسلسل على تصور للحياة بعد عدة قرون، بعد تفشي فيروس مجهول، أدى إلى هلاك البشرية، بحيث لم يتبق على قيد الحياة سوى مليوني إنسان فقط، لكن هؤلاء الناجون من الموت يصابون بالعمى، ثم يورثونه للأجيال اللاحقة..

في تلك الفترة يكون الناس قد تكيفوا مع العمى تماما، بل إن فكرة البصر تكون غريبة عليهم، لا بل مستهجنة ومدانة، لدرجة أنها تصبح تهمة بحد ذاتها (تحديدا تهمة الهرطقة والسحر)، وكل من يشك المجتمع أو السلطات بأنه مبصر يُقاد إلى المحرقة.

تحكم ذلك المجتمع ملكة مستبدة، يعمل تحت إمرتها قائد (يسمونه صائد الساحرات)، وهو لا يقل عنها بطشا وقسوة، وطالما اجتاح جيشه القرى فأهلكها وقتل كل من يقاومه، واقتاد الباقيين عبيدا للملكة..

ولأن جميع الناس في ذلك المجتمع "عميان"، لم تعد لهم حاجة بكل ما نعرفه من اختراعات وأدوات ومعمار.. يعيشون حياة في منتهى البدائية، تقتصر على تأمين الطعام والشراب والنوم.. حياة تشبه حياة الإنسان الأول، مع فارق بسيط يكمن في بعض الأسلحة والأدوات التي بقيت من عصر الإنسان المتحضر، وطبعا مع زعم رجال الدين بأن تلك الأسلحة والأدوات أرسلتها الآلهة لهم، بعد أن رضيت عنهم..

تدور أحداث المسلسل حول تعقب قائد الجيش لرجل مبصر، أنجب توأمين مبصرين (ولد وبنت)، بغية قتلهم.. وهذين التوأمين تعلما القراءة والكتابة من خلال مجموعة كتب وروايات وخرائط ولوحات فنية تركها لهم والدهم (أيضا من مخلفات عصر الإنسان)..

ويبدو أن المؤلف "ستيفن نايت"، أراد تشبيه عصور أوروبا الوسطى (عصور الظلام) بمجتمع متخيَّل يعمّه ظلام فعلي، حيث كل أفراده فاقدي البصر. وتشبيه العلم والمعرفة بنعمة البصر. وتشبيه الجهل الذي عممته الكنيسة على الناس وفرضته عليهم بشتى السبل بحالة العمى التي سادت ذلك المجتمع الافتراضي. وتشبيه إدانة الكنيسة لكل محاولة تبصّر وتفكير مع مطاردة الملكة وقائد جيشها لكل شخص مبصر.

تلك هي الفكرة العامة للمسلسل، ولكن بين السطور ثمة أفكار أعمق وأبعد، مثل أنّ الظلم والتعسف والحروب والصراعات والأطماع تظل سمات ملازمة للبشر، حتى في مجتمع يفتقر لكل ما هو مغري، مجتمع غاية في البساطة، لكن السلطة تظل دائما قهرية..

وفكرة تنحية العلم جانباً، والتي أوجدت مجتمعا بدائيا ليس فيه آداب ولا فنون، ولا إبداع، ولا مخترعات، ولا رياضة، ولا وسائل ترفيه، ولا رأي مخالف، مجتمع سكوني جامد تحكمه سلطة استبدادية، بل إنّ هذا تحديدا ما مكّن السلطة من البقاء والاستمرار..

وفكرة توظيف معتقدات دينية للسيطرة على عقول الناس، وأسرها برواية متهافتة، لكنها تجد قبولا كاسحا يقينيا من قبل جمهور الغوغاء..

فكرة العمى ليست بالجديدة، فقد طرقها البرتغالي "جوزيه سارماغو"، في رواية العمى، ولكن من منظور آخر، قد يتقاطع مع فكرة المسلسل في أوجه معينة، حيث تتحدث الرواية (والتي تحولت إلى فيلم سينمائي أيضا) عن وباء غامض يجتاح إحدى المدن، فيُصاب سكان المدينة بالعمى فجأة (باستثناء الطبيبة)، مما يخلق موجة عارمة من الذعر والفوضى، مما يستوجب تدخل الجيش من أجل السيطرة على الأوضاع (الحلول الأمنية العقيمة)، ولكن الوضع يزداد مأساوية حين يتخلى الجيش عن الحشود، ما يؤدي إلى سيطرة العصابات على ما تبقى من طعام ومياه ودواء. حينها يبدأ الناس في الاقتتال فيما بينهم. ويتكشف مدى هشاشة منظومة الأخلاق والقيم والقوانين التي تتهاوى أمام حاجات الناس الغريزية، وأمام حالة الخوف العامة. تلقى الرواية أيضا الضوء على الجانب الإنساني المتمثل في الطبيب وزوجته الذين بقوا متماسكين، ومتحضرين، حتى اختفى المرض فجأة كما ظهر فجأة.

مجتمعاتنا على أية حال، مصابة هي أيضا بحالات من العمى، العمى عن استخدام العقل، وعن استخراج مكامن الإنسان الطيب من دواخلنا..

مع التأكيد على أن العمى الفعلي بحد ذاته ليست تهمة، أو انتقاص، أو إساءة، هي حالة مرضية أو وراثية قد تصيب أي إنسان، والكفيف إنسان كامل الأهلية، لا يحتاج للشفقة، بل يحتاج مثل أي إنسان آخر للاحترام والتقدير..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah