الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج طرابيشي .. رائد مشروع النقد التراثي ج-1

بشار غدير

2020 / 1 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"إن العقل لا يكون عقلا إلا إذا كان نقديا " ربما تعكس هذه المقولة لصاحبها جورج طرابيشي أبرز ملامح المشروع الفكري الذي قدمه هذا المفكر العملاق خلال محطات انتاجه الثقافي حيث احتل النقد الشطر الأكبر من مجالات اهتمامه وخاصة في رباعيته النقدية للجابري وملحقاتها ، ولا يسع القارئ المهتم إلا أن يقف بإجلال أمام هذا الجهد الفكري الجبار والمعرفة الموسوعية التي تمثلت بالإضافة لنقد مشروع الجابري بأكثر من مئة كتاب مترجم وعشرات المؤلفات التي تناولت قضايا التراث والفلسفة والنقد الأدبي .
واذ كان من شبه المستحيل التعريف بكامل ذلك الانتاج الغزير للمفكر طرابيشي ولو حتى بصورة مختصرة فإننا سنحاول فيما نقدمه هنا التركيز على أهم الموضوعات التي تناولها طرابيشي وبخاصة في نقده لمشروع الجابري في نقد العقل العربي ومن ثم في كتاباته في الهرطقة والنهضة .
طرابيشي ونقد نقد العقل العربي
يذكر طرابيشي في مقدمة كتابه الأول لنقد مشروع الجابري " نقد نقد العقل العربي: نظرية العقل" أنه أفرد ثماني سنوات لينهي عمله الاول من سلسلة أعماله الخاصة بالرد على المفكر محمد عابد الجابري ، وفي سبيله للتصدي لهذا المشروع كان عليه أن يقرأ التراث اليوناني بجملته ، والتراث الأوروبي الفلسفي والعقلي في طوريه الكلاسيكي والحديث، فضلاً عن التراث العربي الإسلامي، الفلسفي أساساً، وكذلك التاريخي، والفقهي، والكلامي، والنحوي . ويتبدى هدف مشروع طرابيشي النقدي منذ صفحاته الأولى في تخليص القارئ من الاشكاليات التي يأسر بها الجابري العقل العربي وتفكيكها قبل دحض النتائج التي توصل إليها هذه الاشكاليات ، ومن هذه الاشكاليات التي سنسلط الضوء على بعض تفاصليها : اشكالية التفكير بالعقل والتفكير في العقل ، اشكالية التوزيع الثلاثي للأنظمة المعرفية العربية إلى "برهان وبيان وعرفان" ، اشكالية العقلانية المغربية واللاعقلانية المشرقية (قضية ابن سينا ومشرقيته) .
اشكالية التفكير في العقل والتفكير بالعقل :
تكمن صعوبة التصدي لأسئلة واشكاليات الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي في فرضه لشبكة من الاشكاليات التي قد توقع ناقده أو قارئه في فخ التصدي لنتائج هذه الاشكاليات من دون التفكير في جذر الاشكالية وموضوعية طرحها أساسا ، وقد كانت اشكالية التفكير العقل والتفكير في العقل إحدى هذه الاشكاليات التي يلخصها طرابيشي على شكل قياس برهاني يتكون من مقدمتين ونتيجة : مقدمة أولى يفرضها الجابري بتقرير أن التفكير في العقل( التفكير في ذاتية العقل وخصائصه وقضايا الوجود المجردة) أسمى من التفكير بالعقل (استخدام العقل كأداة للتفكير) ، مقدمة ثانية فرعية تفترض أن العرب واليونانيين والأوروبيين وحدهم من مارس التفكير في العقل وصولا إلى النتيجة القائلة بأن درجة عقلانية العرب واليونانيين والأوربيين أعلى من باق الشعوب الأخرى . وعلى الرغم مما قد تبدو عليه هذه المحاججة من تماسك منطقي فإنها تعاني من نقاط ضعف معرفيا وتاريخيا . وقد استطاع طرابيشي تفكيك هذه الاشكالية ببراعة معتادة حيث بين ضعف الحجة الاساسية بذاتها وانتقل لنقض الحجة الفرعية وبالتالي إلى نقض النتيجة برمتها .
فخلافا للمقدمة البديهية التي يفرضها الجابري على قارئه فإن ابن الحضارة الصينية أو الهندية لا يمكنه التسليم بمقولة أن " التفكير في العقل " أسمى درجة في العقلانية من "التفكير بالعقل" ، فما هو أسمى من التفكير سواء بالعقل أو في العقل لدى الصيني هو السلوك ، وما هو أعلى درجات التفكير لدى الهندي هو تحرير النفس . لا بل أن المعطى البديهي المتمثل بالتفكير في العقل بحسابات الجابري أصبح معطى ثانوي لدى أبناء الحضارة الغربية نفسها والتي أصبحت منذ مطلع الحداثة حضارة " التفكير بالعقل" لا التفكير فيه .
بالانتقال للمقدمة الصغرى التي أسس لها الجابري فيقدم فيها طرابيشي كمية هائلة من الشواهد التاريخية التي تبين حجم المساهمة الفينيقية أولا والمشرقية في زمن لاحق في صياغة العقل اليوناني في الازمنة القديمة ، ومن ثم مساهمة السريان والعبريين والارمن إلى جانب العرب في العصور الوسطى في ممارسة التفكير في العقل وبهذا ينفي حصرية هذه الميزة بهاتين الحضاريتين (اليونانية والعربية) ، هذا عدا أن هذه المهمة أو الميزة -أي التفكير في العقل- لم تكن إلا "جزيرة صغيرة في البحر المظلم لفاعلية الحياة بالنسبة للحضارات القديمة بمجملها كما بالنسبة للحضارة الاوربية الحديثة "كما ينقل طرابيشي عن فرانكو لومباردي ، وفي هذه الجزئية يستعرض طرابيشي دور السحر في الحياة العامة في اليونان القديمة في أوج توهج النزعة الفلسفية فيها وكذلك في حضارة العرب والتي يشكل فيها السحر مقولة بديهية وهذا ما يعني أن تلك الحضارات فتحت أبوابا واسعة للامعقول للدخول في حياتها الخاصة والعامة وهو ما يفكك المقدمة الصغرى بكليتها وينفي نتيجتها بالضرورة .
التوزيع الثلاثي لأنظمة المعرفة :
احدى الاشكاليات التي تصدى لها طرابيشي في مشروعه لنقد الجابري كانت اشكالية توزع الانظمة المعرفية العربية على ثلاثة أقانيم معرفية هي العرفان والبيان والبرهان ، وكانت دعوى الجابري في هذه المسألة تستند الى اعادة كتابة تاريخ العرب الثقافي وقراءته قراءة تعمل على إبراز الوحدة من خلال التعدد بحثا عن جوانب الترابط ، لكن هذه القراءة وكما سيوضح طرابيشي ستنقلب قراءة تنازع لا تقارب وقراءة حرب لا توحد ..قراءة لا صلح فيها ولا هدنة ، حيث قطع الجابري أي أواصر من الممكن بناءها بين هذه النظم المعرفية التي يؤسس كل منها آلية خاصة لإنتاج المعرفة مع ما يرتبط معها من مفاهيم .
وقد أدى اختزال الجابري للعقل العربي الى النظم المعرفية الثلاث في رأي طرابيشي الى استبعاد قطاعات كاملة من التراث الثقافي كالشعر والنثر العملي والأدبي ، عدا عن أن المبضع الابستمولوجي الذي استخدمه الجابري في تقسيمه المعرفي هذا ، ما لبث أن تحول الى مبضع (ايديولوجي – قومي) اقتطع فيه الجابري كل ما انتجه العقل العرفاني خارج سياقه التاريخي الزماني وقيّمه كمنتج مشرقي لا عقلاني بالمطلق في مقابل البرهان الفلسفي المغربي العقلاني وما بينهما من بيان ، وقد كانت خطيئة الجابري الأكبر في نظر طرابيشي تكمن في هذا التشطير غير العلمي للعقل عبر التاريخ واعطاءه أحكام قيمة لا يجمع بينها سوى تضادها ذو الطبيعة المانوية ، وهذا ما أدى به الى وسم كل التيارات الهرمسية والغنوصية وتيارات التصوف إلى أخوان الصفا وبقية الاتجاهات الباطنية بسمة اللاعقلانية ، وهو في ذلك لم يكن قد أغفل فقط عن تداخلات وامشاج كبيرة امتدت بين هذا العقل العرفاني وبين البرهان والبيان ، بل أنه أغفل ايضا دور هذا العقل في تعزيز حالة التنوع الفكري في قراءة النص الديني ، وحوّل اختلافه الفكري مع بقية أنظمة المعرفة الى حرب خنادق غير قابلة للردم ،وهذا ما عزز بنظر طرابيشي فكرة التناحر والصدام بين العقل العرفاني وتمثلاته الهرمسية والشيعية مع العقل البياني وتمثلاته الفقهية وتياراته السنية .
ابن سينا والفلسفة المشرقية :
في قضية ابن سينا ولاعقلانيته المشرقية يفرد طرابيشي صفحات طويلة للرد على هذه المقولة الجابرية التي جعلها الجابري دعامة أساسية في نقده للعقل العربي في صيغته الاشراقية " العرفانية" ، واتهم فيها ابن سينا بالتنجيم والسحر والرقى في محكمة تفتيش أشبه بمحاكم تفتيش العصور الوسطى ، وتم اسقاط نفس التهمة على عقل مشرقي كامل يمثل ابن سينا أبرز وجوه لاعقلانيته في مقابل عقل مغربي (عربي ) عقلاني برهاني يمثل ابن رشد قامته الأهم .
وفي سبيل نفي هذه التهمة يسلك طرابيشي سبيلين مختلفين أولهما نفي صحة الادعاء بندا بندا عن طريق اعادة بناء الملف العقلاني " للفلسفة المشرقية" بما يبطل تورط ابن سينا في جريمة " قتل العقل والمنطق في الوعي العربي" ، وثانيهما نفي أسطورة الفلسفة المشرقية من حيث أنها ليست الا خرافة تاريخية أو في أحسن الاحوال مقولة استشراقية غير موضوعية . حيث يبين طرابيشي أن كلمة "مشرقية" لفظة تدل على اسم علم مفرد لا علاقة لها بمدرسة فلسفية معينة موجودة في الشرق أو بفلسفة اشراقية مستقلة بذاتها . وبإيراده نصوص متعددة يستطيع طرابيشي أن يبين أنّ الفلسفة السينوية ليست إلا محاولة اجتهادية داخل المنظومة الارسطية نفسها للتميز عنها دون الخروج منها ، وأن عدم قول ابن سينا بوحدة العقل والعاقل والمعقول قد نسف أي امكانية لربط فلسفته ذات النواة الارسطية بأي طبعة اشراقية من تلك الفلسفة المسماة بالمشرقية والمنسوبة اليه .
في نهاية هذا العرض المقتضب لأهم طروحات المفكر طرابيشي في نقده لمشروع الجابري ، نستطيع القول أن أكثر ما ميز الانتاج النقدي لهذه المفكر الموسوعي كان اعتماده للمنهجية العلمية الصارمة في قراءة نصوص التراث وفي مراجعته لما قدمه الجابري لهذه النصوص من مقاربات بعيدا عن القوالب الفكرية الجامدة ، بعقلية تفكيكية تستفز عقل القارئ ليطرح مزيدا من الأسئلة دون أن يركن للإجابات الجاهزة مهما كان مصدرها أو قائلها ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح


.. الرئيسان الروسي والصيني يعقدان جولة محادثات ثانائية في بيجين




.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط