الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقاطعات بين الأديان 17 إشكاليات الرسل والأنبياء 2

عبد المجيد حمدان

2020 / 1 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقاطعات بين الأديان
17
إشكاليات الرسل والأنبياء
2
نوح :
1
تعرفنا الكتب المقدسة ؛ التوراة والقرآن ، أن نوحا هو الأب الثاني للبشرية . تنبئنا أن الطوفان أنهى وجود البشرية من نسل آدم ، وأن من بقي منها اقتصر على نوح وأبنائه الثلاثة وزوجاتهم ، ومن هؤلاء عاودت البشرية استئناف دورات تجددها .
والنبي نوح الذي اختاره الله لإنقاذ البشرية من الهلاك الكامل الذي حمله الطوفان ، كان لا بد قد حمل من الصفات السامية والأخلاق الرفيعة ما يرفعه فوق مصاف البشر من جهة ، وما يضعه بين مصاف الملائكة من جهة أخرى .
لكن قارئ التوراة يفاجأ بأن نوح عانى من إشكاليات ، أقل ما يقال فيها أنها تعيده إلى مواقع البشر الخطائين . كيف ؟
تحكي الإصحاحات 6 ، 7 ، 8 من سفر التكوين أسطورة الطوفان ، ودور نوح في إنقاذ الحياة على الأرض . فيما يحكي الإصحاح 9 عن الميثاق الذي أقامه الله مع نوح وبنيه ، ومنه عدم العودة لضرب الأرض بطوفان جديد ، وكيف يكون قوس قزح علامة تذكير على هذا الميثاق .
لكن النص بعد ذلك يفاجئنا بالتالي :" وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث ، وحام هو أبو كنعان . هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض " . و تعالوا نتجاهل حقيقة أن جملة :" وحام هو أبو كنعان " ، محشورة حشرا في النص ، كي نمضي مع النص والإشكالية التي يعرضها لنا.
يمضي النص قائلا :" وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما * وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا * فأخذ سام ويافث الرداء وَوضعاه على أَكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما وَوجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما * فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير * فقال ملعون كنعان . عبد العبيد يكون لإخوته * وقال مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدا لهم * ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم *" . وأخيرا يخبرنا الإصحاح العاشر أن أبناء حام بالترتيب من الكبير إلى الصغير هم : كوش ، مِصرايم ، فوط ، وكنعان .
2
ومرة أخرى ، تعالوا نتجاهل ضعف هذا النص ، وما انطوى عليه من تلفيق ، لنتساءل : يصف النص حام بِإبن نوح الصغير ، وفي ذات الوقت يصدر نوح أحكاما قاسية على كنعان ، ابن حام الذي لم يكن له حضور في المشهد ، وربما لم يكن قد ولد بعد . لعن كنعان ، حكم بعبوديته لإخوته ، كرر الحكم بعبوديته لأبناء سام . سام الذي هو أبو كل بني عابر ، حسب الإصحاح التالي . وأخيرا كرر الحكم بعبودية كنعان لأبناء يافث .
والآن ، ولما كانت هذه الأحكام القاسية قد صدرت عن نبي ورسول ، عن أبي البشرية الثاني ، ومنقذ الحياة على الأرض ، فمعنى ذلك أنها صدرت بسبب وقوع جرم ، وجرم كبير ، وأن هناك فاعلا للجرم ، هو من يَتوجب أن يتلقى العقاب . ويكون على القارئ بدءا تحديد طبيعة الجرم من جهة ، وتحديد مرتكبه من جهة أخرى . وسؤالنا : ماذا كانت طبيعة الجرم في النص السابق ؟ هل كانت سكر نوح وتعريته لنفسه ، أم كان انكشاف عورته ورؤية حام لهذه العورة ؟
يقرر النص أن رؤية حام لِعورة أبيه هي الجرم كل الجرم . كما ويقرر أن تعتعة نوح من السكر ، تعتعة دعته للتخلص من ملابسه ، ومن ثم إِنشكاف عورته ، لم تكن جرما ، ولم تستدعِ حتى الملامة . وبالعكس لم توجب تعتعة السكر سحب أو حتى إضعاف صلاحيته كقاض ، يملك حق إصدار تلك الأحكام القاسية .
المشكلة أن حام ، كما يقول النص ، كان ولدا صغيرا ، وأنه عبر لخيمة أبيه صدفة ، لم يدخلها عن سابق ترتيب ، وأن الطفل فوجئ بمنظر أبيه ، وأنه فر خارجا ، وأنه حذر أخويه اللذين كانت الصدفة ستدفع بأحدهما ليرى ما رأى الصغير . وبسبب تحذير هذا الصغير عملا التدبير الذي أشار له النص بستر عورة أبيهما دون أن يقع بصر أي منهما عليها . ذلك كله لا بد عرفه نوح . وبالرغم من ذلك أصدر أحكامه القاسية بلعن وعبودية كنعان وأبنائه لسام وأبنائه وليافث وأبنائه .
ونصل أخيرا لِعقدة النص . فوقت وقوع هذه الحادثة - الأسطورة - كان عدد البشرية محدودا ؛ ثلاثة أشخاص وزوجاتهم وأبناؤهم - النص لا يقول أن زوجة نوح كانت معهم - . وكان المجتمع ، وأي صيغة من صيغ المجتمع ، لم تتشكل بعد . وبالتالي كان نظام العبودية لم يولد بعد ، لانتفاء صراعات البشر على الملكية ..الخ . والسؤال الذي يدفعه النص للذهن : هل نظام العبودية ، بحسب الحكم الصادر عن نوح ، وتنفيذ الإله لهذا الحكم ، هو نظام من عند الله ، نظام أمثل للعلاقات بين البشر وليس نظاما من صناعة البشر ؟ وبالتالي ، وبما أنه من عند الله ، فهو لا بد نظام عادل ، لا ينطوى على صفات الظلم التي جرى الحديث عنها فيما بعد ؟ وإذا كان من عند الله ، وعادلا قضى بعبودية جنس ، أو أجناس ، لجنس آخر - الكنعانيين للعبرانيين - ، فهل للبشر المؤمنين الاعتراض على حكم الله هذا ؟ وهل لهم حق نقض هذا النظام وعمل نظم اجتماعية أرقى ؟
الأجوبة أتركها لِاجتهادكم .
وملاحظة : القارئ النبيه لا تفوته ملاحظة أن النص يعيد الشعبين ؛ الكنعاني والعبراني ، كأقدم شعوب الأرض . يقول أن ولادة هذين الشعبين ترجع إلى بداية مرحلة ولادة البشر الثانية ، وأنه كتب عليهما ، منذ ذلك التاريخ ، العيش في صراع . صراع لا يتوقف ، قرر الرب نتيجته . صراع بين شعبٍ عبد ، الكنعاني ، وبين شعب حر وسيد ، العبراني . والقارئ لا يتبين الحكمة من فرض الرب لهكذا صراع بداية ، ولكنه مع المضي في قراءة أسفار التوراة ، يقف على هذه " الحكمة ! "، وهي أن الرب تبرع بأرض وطن الشعب الكنعاني ، عبر الوعد المتكرر لِإبراهيم وسلسال بنيه من سارة ، وطنا لبني إسرائيل ، وأن الشعب الكنعاني الذي جبل على حبه لأرض وطنه ، يرفض الامتثال لهذا الوعد ويواصل مقاومته لأطماع بني إسرائيل .

3
في القرآن
وفي القرآن ورد ذكر نوح في 13 سورة هي : الأعراف ، يونس ، هود ، الأَنباء ، المؤمنون ،الفرقان ، الشعراء ، العنكبوت ، الصافات ، الذاريات ، القمر ، التحريم ونوح . بعضها سردت سيرة نوح في عشرات الآيات ، فيما اكتفت بعضها بإيراد آية أو آيتين .
ويفترض المرء أن تكرار تناول السور لِسيرة نوح يعني إضافة نوعية هنا ، وتفصيلة مهمة هناك . لكن القارئ يفاجأ أن لا شيء يحدث من ذلك . وأكثر يفاجأ القارئ أن موضوع الإشكالية التي عرضته التوراة ، وتوقفنا عنده في السطور السابقة ، تجاهلته الرواية القرآنية تجاهلا تاما .
صحيح أن تجاهل ، وحتى إنكار حدث ما ، موقف ما ، دون نفيه صراحة وَقطعيا ، لا يعني التأكيد بعدم وقوع ذلك الحدث ، أو ذلك الموقف ، وعلى العكس قد يعني التجاهل ، وحتى الإنكار ، إقرارا ضمنيا بصحة الحدث ، واعترافا بوقوعه . أما أسباب التجاهل فكثيرة ، ونعرف منها أن القرآن ، بعكس الكتب المقدسة الأخرى ، ومنها التوراة ، اعتمد مقولة عصمة الأنبياء . وإشكالية مثل تلك التي عرضناها عن نوح ، تعني من وجهة نظر القرآن ، ليس فقط إصابة عصمة أبو البشرية الثاني هذا بثلم خطير ، وإنما يعني الإقرار بنزع هذه العصمة عن الأنبياء التالين ، وصولا إلى نبي الإسلام ذاته ، وهو بداهة ما لن يسمح به القرآن .
4
إذاً ، تعالوا نستعرض الآيات ، ولنبدأ من سورة نوح وهي مكية ، وَآياتها 28 آية . تنص الآيات على :{ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم (1) قال يا قوم إني لكم نذير مبين (2) أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3) يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (4) } . لكن وابتداء من الآية الخامسة ، وحتى الآية 20 تبدأ شكوى نوح من أن قومه ، بالرغم من كم الأدلة والبراهين التي ساقها لهم على قدرة الله ، إلا أن قومه وضعوا أصابعهم في آذانهم ، أصروا على رفض رسالته ، وعلى التمسك بدين آبائهم وأجدادهم . { قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) } ومع أن الآلهة ؛ ود ، سواع ، يغوث ، يعوق ونسر، هي آلهة حجازية ، ظهرت عِبادتها في جزيرة العرب بعد نوح بزمن طويل ، ودون أن يشير النص لعلاقتها بِآلهة قوم نوح ، أو لسبب الإشارة لها ، إلا أن النص اللاحق يفاجئنا بانقلاب حال نوح من رسول محبة وهداية ، إلى شخص يائس محبط ، يملأ صدره الكُره ، الحقد والنقمة ، بديلا للحلم ، للمحبة وسمات صاحب رسالة هداية ، شخص يصدر حكم الإبادة التامة على بني قومه . حكم لا ينجو منه جنين في بطن أمه ، أو مريض أو معاق لم يعد يملك من أمر عقله ونفسه شيئا . تقول الآيات :{ وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا (28) .
وحكم نوح هذا الذي يتكرر مع سائر الرسل الآخرين ، يدفعنا لإعادة طرح السؤال من جديد : من يقرر مسألة فشل أو نجاح الرسالة ؟ ومن يقرر مسألة فشل أو نجاح مهمة الرسالة ؟ومن ثم يكون القاضي الذي يصدر الحكم : هل هو الله الذي أرسل هذا الرسول ، وزوده بالتعليمات ، ووسائل وأساليب تبليغها ، ويعرف مسبقا مدى إمكانية قبول القوم أو رفضهم ، ومن ثم من يكون صاحب القرار ، فمصدر الحكم النهائي ، أم أن القرار فالحكم كان حكرا خاصا على الرسول ، وما على الله سوى الاستجابة وتنفيذ الحكم ؟ غير ذلك لا بد أن تلفت الآية الأخيرة نظر القارئ . فَالآية تحكي بوضوح عن مؤمنين ومؤمنات ، بعضهم دخل بيت نوح ، ولذلك طلب لهم المغفرة ، في تناقض مع الآيات الأخرى ، خصوصا آيات الطوفان الذي لم ينج منه هؤلاء المؤمنين والمؤمنات ، كما سنرى لاحقا .
5
وتسرد سورة هود ، وهي مكية كذلك ، حكاية نوح في 25 آية - من بداية الآية 25 إلى نهاية الآية 49 . لكن ، وكما في سورة نوح تحكي الآيات من 25 إلى 35 عن إرسال نوح إلى قومه ، وما قدمه من براهين على صدق رسالته ، وتكذيب قومه لهم ، ورفضهم قبول رسالته ، إلا بعضهم فقط ، ليأتي بعدها الانتقال لِأسطورة الطوفان .
{ وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون 36 واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون 37 ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون 38 فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم 39 } .
ومرة ثانية يستوقفنا هنا هذا التناقض بين ما تقوله هذه الآيات وتلك التي سبقتها في سورة نوح . هنا ليس نوح هو من ينقلب من رسول محبة وهداية إلى شخص يشتعل قلبه وعقله بِالكره لقومه والحقد عليهم ، وبالتالي ليس هو من يتوصل إلى القرار فَإصدار الحكم بإبادة قومه ، كل قومه بدءا من الجنين في بطن أمه إلى الكهل الذي لم يعد يملك من أمره شيئا . بالعكس هنا نرى أن نوحا لم يفقد الأمل في هداية قومه ، ولكن الله هو من قرر أن أحدا من قوم نوح لن يؤمن ، ومن أصدر الحكم بالإبادة الجماعية لهم ، إبادة لا يفلت منها أحد .
والآيات التالية وهي تروي أسطورة الطوفان وصناعة الفلك ، تستوقفنا منها الآيات التالية :{ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل 40 } تقول لنا هذه الآية ، في مناقضة صريحة لما سبق وَقالته التوراة ، أن نوحا حمل بعض أهله الذين هم زوجته وأولاده وزوجاتهم ، كما حمل معه من آمن برسالته بالرغم من قلة عدد هؤلاء المؤمنين . هذه الآية تقول بوضوح أن نوحا ليس أبا البشرية الثاني ، وإنما شاركه في تجديد البشرية آخرون كانوا قد آمنوا برسالته ، وَصعدوا معه إلى الفلك . وتؤكد الآيات التالية صحة هذا الاستنتاج ، إذ تقول :{ … ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين 42 قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين 43 } . ولم يكتف نوح بمحاولة إنقاذ ابنه الذي رفض الركوب معه لأنه كان من غير المؤمنين برسالته ، ولكنه أخذ يسترحم الله في ابنه ذاك :{ ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين 45 قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين 46 }
وهكذا يطالعنا تأكيد جديد على انقطاع نسل واحد أبناء نوح . صحيح أن النص القرآني لم يتطرق إلى ذكر عدد أبناء نوح ، كما فعلت التوراة ، ولا إلى ذكر أسمائهم ، كما فعلت التوراة أيضا ، لكنه في المقابل أوجد بلبلة في الآداب الإسلامية ، التي يؤكد بعضها على صحة ما أوردته التوراة من أنهم سام ويافث وحام ، فيما يخترع البعض الآخر إضافة كنعان كابن رابع ، تخلصا من لعنة نوح غير المبررة لكنعان والحكم عليه ونسله بالعبودية لِنسل سام وَلنسل يافث .
لكن ، من جديد ، وفي مناقضة صريحة للتوراة ، بنفي أُبوة نوح الثانية للبشرية ، تطالعنا الآيتان التاليتان بالنص التالي : { قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم 48 تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين 49 } . يؤكد النص إذاً أن نوح وإن ساهم في إحياء وتجديد البشرية ، فليس هو وحده من فعل ذلك . هناك مساهمة من كانوا معه من المؤمنين ، ومن هؤلاء نشأت أمم غير الأمم التي انحدرت من نوح ، ثم هناك غير هؤلاء وأولئك أمم أخرى { سنمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم } ، مرة أخرى في نفي لتعهد الله لنوح بعدم العودة لاستخدام الطوفان في إبادة البشر .
6
والآن تعالوا نذهب إلى سورة يونس . فيها يأتي ذكر نوح في ثلاث آيات فقط ، هي 71 ، 72 و73 . ويلفت النظر فيها نص الآية 73 :{ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } . والآية كما ترون تعيد التأكيد على أن نوحا ليس أبا البشرية الثاني ، وإنما شاركه هذا الشرف مؤمنون آخرون صعدوا معه في الفلك ، ومنهم جعل الله خلائف غير بني نوح .
وبعد سورة يونس تعالوا ننتقل إلى سورة الشعراء . في هذه السورة وهي مكية جاء ذكر نوح في 17 آية - من 105 إلى 122 - ، دارت كلها حول رسالة نوح إلى قومه وتكذيب قومه له ورفض رسالته ، وتهديدهم له بالرجم إن لم يتوقف عن بث رسالته . هنا يلفت الانتباه مطالعة الآيات التالية : { قال ربِّ إن قومي كذبوني 117 فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين 118 فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون 119 ثم أغرقنا بعد الباقين 120 } .
هنا يفاجأ القارئ أن القرآن يعود للقول بأن نوحا هو من أصدر الحكم بإبادة من رفض رسالته من قومه ، نقيضا لما جاء في سورة هود من أن الله هو صاحب قرار الإبادة . أيضا هنا إعادة تأكيد بأن نوحا وإن ساهم نسله في إعادة إحياء البشرية فقد ساهم مثله آخرون كثر .
وننتقل إلى سورة الأعراف ، وهي مكية ، حيث وردت حكاية نوح في خمس آيات فقط - من الآية 59 إلى الآية 64 - ، لا تضيف جديدا إلى ما سبق وورد في السور السابقة ، اللهم إلا إعادة التأكيد على أن عددا من المؤمنين ، وليس نوحا وأهله فقط ، كانوا من بين الناجين .
وورد ذكر نوح في آيتين اثنتين من سورة الأنبياء المكية : { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم 76 ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين 77 } .
هاتان الآيتان تعودان لتقولا أن الناجين اقتصروا على نوح وأهله ، نقيضا للتأكيد السابق على غرق ابن نوح ، ولكن في إعادة للتأكيد على أن الغرق كان من نصيب كل قوم نوح - فأغرقناهم أجمعين - دون نجاة مؤمن واحد ، وَليعاد القول بِأبوة نوح الثانية للبشرية .
وفي سورة الفرقان المكية وردت آية واحدة تقول : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما 37 } .
وفي ثماني آيات - من 22 إلى 30 - ورد ذكر نوح في سورة المؤمنون المكية . ومن بين هذه الآيات تلفت الآية 27 النظر : { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلَكَ إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون 27 } .
من جديد يعود القارئ إلى الدوران داخل الدائرة . الناجون هنا هم أهل نوح إلا ولده الذي سبق عليه القول منهم وكان من الغارقين . كن الآية توحي بوجود آخرين من أهل نوح سبق عليهم القول ولم يكونوا من الناجين . والسؤال من كان هؤلاء ؟ كما يلفت النظر في هذه الآية تحذير الله لنوح من طلب العفو لبعض قومه ، لأن حكم الله ، وليس بطلب من نوح ، قد صدر بغرقهم أجمعين . أين المؤمنون الذين سبق الحديث عن نجاتهم ؟ وألا يكون نوح في هذه الحالة هو أبو البشرية الثاني ؟
7
والآن ، تعالوا نجمع ما تبقى من آيات ذكر نوح معا ، ونرى ما إذا كانت تطابق سابقاتها أم حملت جديدا ، بادئين مع سورة العنكبوت المكية .
في سورة العنكبوت ورد ذكر نوح في آيتين اثنتين : { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون 14 فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين 15 } .
وفي الصافات وهي مكية : { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون 75 ونجيناه وأهله من الكرب العظيم 76 وجعلنا ذريته هم الباقين 77 وتَرَكَّنا عليه في الآخرين 78 سلام على نوح في العالمين 79 إنا كذلك نجزي المحسنين 80 إنه من عبادنا المؤمنين 81 ثم أغرقنا الآخرين 82 }
وفي الذاريات وهي مكية :{ وقوم َ نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين 46 } .
وفي سورة القمر المكية :{ كذَّبتْ قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر 9 فدعا ربه أني مغلوب فانتصر 10 ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر11 وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر12 وحملناه على ذات ألواح ودسر 13 تجري بأعيننا جزاء لمن كان كُفِر 14 ولقد تركناها آية فهل من مدكر 15 فكيف كان عذابي ونذر 16 } .
وأخيرا مع سورة التحريم وهي السورة المدنية الوحيدة التي جاء ذكر نوح في آية واحدة منها هي :{ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين 10 } .
ونلاحظ في السور السابقة ، بالرغم من قصر تناولها لأسطورة نوح ، أنها حملت تناقضا في المعلومة مع ما كان سبقها من الآيات . ففي سورة التحريم ، وهي السورة المدنية الوحيدة ، من بين 12 سورة مكية ، تأكيد على أن امرأة نوح لم تصعد مع أهله إلى الفلك ، ولم تكن من بين الناجين .
ولكن ، وفي سورة القمر ، كان حكم الإبادة لقوم نوح قد صدر عن نوح نفسه ، نقيضا أيضا لأقوال سابقة .
وفي الصافات تأكيد على أن أهل نوح كانوا هم وحدهم الناجون . وأكثر من ذلك ، { وجعلنا ذريته هم الباقين } .
وأخيرا وفي سورة العنكبوت ، ولأول مرة ، يأتي ذكر عمر نوح . وأكثر من ذلك أشارت الآية أنه كان للسفينة مالكون ، وأن هؤلاء المالكون ، أصحاب السفينة ، وَالذين يرد ذكرهم لأول مرة ، كانوا من بين الناجين ، في تأكيد جديد بأن نوحا لم يكن أَبا البشرية الثاني .
8
وخاتمة :
إذاً ، وفي ختام هذه الحلقة نشير إلى أن قراءة دقيقة ، فاحصة متمعنة ، لرواية نوح في الكتابين المقدسين ؛ التوراة والقرآن ، الكتابين اللذين تؤكد الأدبيات الدينية ، صدورهما عن أصل واحد ، هو الله ، هذه القراءة لا تفضي بصاحبها إلى الراحة باستخلاص تناقض الروايتين .الرواية التوراتية توقفت عند إشكالية شرب نوح للخمر ، سكره وتعرية نفسه في الخباء ، وحتى انكشاف عورته التي نظرها ابنه الصغير الداخل للخباء صدفة . نوح اعتبر رؤية الولد الصغير لعورته هو كل المشكلة ، وهي خطيئة لا يمكن غفرانها . ولذلك ما كان من هذا الأب السكير إلا أن لعن حفيده ، ابن ناظر عورته ، بالرغم من عدم وجود علاقة لهذا الحفيد بخطيئة رؤية عورة جده من قريب أو بعيد .
هل كان لعن كنعان ، والحكم عليه وعلى نسله بالعبودية لأعمامه ونسلهم ، حكما مكافئا لخطيئة رؤية عورة الجد ؟ أم كان اللعن والحكم بالعبودية تغطية لنقيصة ، إشكالية ، وقع فيها هذا النبي والرسول ، منقذ البشرية من الطوفان ؟
القرآن ، في استعراضنا المطول لآياته ، تجاهل نقيصة نوح بالسكر . النقيصة ، والخطيئة التي كانت توجب تحريم الخمر منذ ذلك الوقت المبكر . تجاهل القرآن استند إلى اعتماد الإسلام لقدسية عصمة الأنبياء والرسل . عصمة تحميهم من ارتكاب الخطأ صغر أو كبر . عصمة تخرجهم من مصاف البشر وتضعهم بين الملائكة من جهة ، ثم تضفي عليهم صفات إلهية من جهة أخرى . ولأنهم بشر ، يصيبون ويخطئون في غير ما يتنزل عليهم من عند الله ، تتحول أَخطاؤهم البشرية هذه إلى مقدسات عند تابعيهم . مقدسات يجتهد الفقهاء والعلماء في البحث عن تبرير لها .
لكن ، والقرآن يداري خطيئة نوح - السكر والتعري- يحمل إلينا نقائض فيما خص صدور الحكم بإبادة قوم نوح بالطوفان ، ونقائض بمن حمل معه في الفلك ، وكانوا من الناجين ، ونقائض تتعلق بمن نجا من أهله تحديدا ، وأسئلة عما إذا يصح القول بأبوة نوح الثانية للبشرية أم لا . والقارئ لا بد أن يستنتج أن هذه المتناقضات وضعت نوحا أمام إشكاليات أصعب من إشكالية نقيصة السكر والتعري ، ومن إشكالية عدم انتباه الله في حينه لتحريم الخمر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ملاحظه
على سالم ( 2020 / 1 / 4 - 06:32 )
شكرا للمقال الهام , هذا يوضح تماما ان كلام القرأن مخربط وغير مفهوم وغير مترابط


2 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2020 / 1 / 4 - 09:23 )
تحياتي ويسعد صباحك . شكرا على مرورك وتعقيبك .

اخر الافلام

.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا


.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني




.. مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح