الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تراث الغرب الإسلامي الوسيط: أساس تجربة الإصلاح.

الحجاري عادل

2020 / 1 / 12
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لا نبالغ إذا قلنا، الفكر الإصلاحي في العصر الوسيط، كتراث زاخر وغني بالعديد من التجارب الإصلاحية، التي استطاعت أن ترسم ملامح فكر إصلاحي وسيطي غير منساق وراء ردود الفعل، بل معقد على أرضية مشروع صلب ينطلق من الفعل الإرادي الذي صنعته شروطه الداخلية حتى عند لحظة الإحتكاك ببلاد الأندلس أو المشرق العربي 1. ومعنى هذا، أن الإعتماد على تراث الغير إن لزم العمل به أو الإقتداء بتجربته، تبقى إذن إما في التفاصيل أو الهوامش قادرة على إعادة النظر والبناء لكنها تفتقر من حيث إيجاد المركزية لبناءها بناءا معمولا ليس مشتتا.


كما أن الدعوة إلى إعادة تراث الغرب الإسلامي الوسيط، إنما يكون رهين بالعودة إلى الأصالة استشرافا للمعاصرة كما في ضوء الدراسة التاريخية للتراث في نظر عابد الجابري، وليس المعنى القائم منها إعادة احياء التراث الأروبي، كما زاوج فيها الكثير من رواد الفكر الإصلاحي المعاصر، والذين ذهبوا إلى حد القول أن التجربة الإصلاحية تقتضي مواكبة التغيرات الراهنة والإقتباس من النموذج الأروبي، هذا كما نسميه رواد الليبرالية، والحد الأخر يرى في تجربة السلف السابق كشرط رهين لبناء نموذج إصلاحي حقيقي مستمد من القرأن والسنة، هذا ما نسيمه رواد السلفية.


ويبدوا أن أوجه التشابه والإختلاف في الرؤية تجاه التجربة الإصلاحية بين ما هو ليبرالي يريد إحياء التراث الأروبي وصياغة دساتير جديدة على أساس الإنتخابات والتعددية الحزبية، وبين ما هو سلفي يطمح في عودة الخلافة الإسلامية مع حضور اهل الحل والعقد لصياغة الدستور على أساس الشورى. لا يتأسس ذلك إطلاقا على ايجاد النواة الدائمة للتجربة الإصلاحية، وخصوصاً إذا لم يتم التوافق بين الإسلام الإجتماعي والإسلام المعياري، وهو ما يرتكز على درجة تمييز الإصلاح الحديث عن القديم ( الوسيط) لكونه يقوم على مقارنة تؤدي إلى الوعي بالتأخر، وهو ما لا نجده في الإصلاح القديم 2.


على أن أهم غاية إنجاح تجربة الإصلاح، تقتضي الرجوع إلى صياغة مشروع فكر إصلاحي حقيقي يستمد من تراث الغرب الإسلامي الوسيط وحضارته، ولا أدل على ذلك تراث السلفيين المنغلقين عن نفسهم، بل بمعنى الكلمة إحياء فلسفة ابن رشد وابن خلدون، التي اعتادت أن تؤسس فكر ناجح كما كان في حقبته الوسيطية، وفي هاته الحقبة ظلت أوروبا عاجزة عن صياغة تجربة إصلاحية، فذهبت إلى أبعد مدى، إما بدافع تكرار هجماتها على المسلمين في إطار الحروب الصليبية، أو بدافع هجرة الكتاب والمثقفين إلى المشرق والنبوغ في تراث المسلمين والإقتداء بتجربتهم المثمرة، ويبدوا أن الدافع الثاني هو أهم حل اعتمدت عليها أوروبا لإعادة بناء حضارتها التي سايرت العصر.


لذلك، فلو لم تستمد أوروبا أفكارها من تراث الإسلام في العصر الوسيط في ربوعه المشرقي والمغربي، لما كانت اليوم في أوج مرحلة علمية حديثة ومتقدمة، ولو لم يكن الإسلام اليوم يتسلح بسلاح الثقافة والفكر النهضوي الأروبي لما كان الداعي إلى إحياء تراثه الوسيط، لحصلت هناك تجربة إصلاحية فريدة من نوعها. وبين هذين النموذجين يحصر الخلل والعيب فينا، مقابل نجاح تجربة الإصلاح عند غيرنا الذي أعاد بناء شروط النهضة انطلاقا من تراثنا، ونحن الآن في حاجة إلى بناء النهضة وازدهارها مثلما حققت عند غيرنا. إذ كيف والجهل بتراثنا هو العائق، والإقتباس من تراث الأخر هو المعمول به اليوم لكننا في مرحلة متأخرة؟


إن التأخر الحاصل عندنا اليوم هو ناتج عن تخلف العقول، كان السبب منها الأخذ والإستنساخ من الأخر في شقيه النظري دون التفكير في إعمال الوعي العقلي كشرط لازم في شقيه التطبيقي، بحيث يظل الوصول إلى الهدف في أصعب صورته إذا لم نوافق معا الشق النظري والعملي، ورغم أننا فشلنا في صياغة تجربة إصلاحية حول الحداثة والتمدن بداعي أننا لم نقرأ في تراثنا أي تراث ابن خلدون الذي سبق الأوروبيين في صياغة شروط وقواعد بناء الحضارة والعمران البشري، إلى جانب مؤلفه " المقدمة " و " العبر " هذا الأخير ما نجده قائم على التوفيق بين سلطة النقل وسلطة العقل، والذي لا ينضب في هذا الكنز الثمين الذي تصدر العنصر العمراني وإبراز الدور الحاسم للعصبية كمحرك جماعي للتاريخ3. وليس فيها أي عيب أو مانع في الإنفتاح على التجديد، لأن سر التقدم يكون رهين مما ورد في هذين المؤلفين، الذي اعتاد صاحبه الحديث عن دور الصناعة والتجارة، وفسر قواعد السياسة وشروط بناء العمران، والإنتقال من طور البداوة إلى طور الحضارة لكن بشرط الإبتعاد عن الترف والبذخ والإستبداد.


والحال، أن المرحلة التي نعيشها تختلف عن المرحلة التي عاشها ابن خلدون، والفارق بين هاتين المرحلتين يتم دراستها بالتحقيب الطويل من حيث السياق التاريخي، بل ومن حيث الفكر الإصلاحي فلا فارق ولا مسافة بين فكرة متأصلة لامست زمانها ورجالها فنهضوا بها، خير من أفكار هامة استطاعت أن تنفتح على مختلف الرؤى والإتجاهات الفكرية وهي في غير سياقها، والأخذ منها معمول به لحد الآن رغم وجود حالة من الخلل والفشل واليأس، اعني به، كما في المثل، أنه كلما أعيد النظر في التغذية الطبيعية تجدها غنية بمكونات صحية وخالية من الأمراض القاتلة هذا من جهة، وكلما زادت الألات واستعملت التغذية في ظروف دقائق فهذا مشروع رأسمالي ناجح، لكنه مقبل على أضرار صحية قاتلة من جهة أخرى.


لقد اعتادت بعض الدول اليوم التي تعاني من أزمة في جل الميادين، فاختلفت الأراء حول مصير ربط عجلة البلد بالتقدم ومواكبة العصر، وتعزيز التنمية وضمانها انسجاما لتحسين مناخ العيش والعمل والرفاهية للشعب، وعند هذا الحد تجتمع الأحزاب مؤيدة ومعارضة وتتفق على خطة إصلاحية شاملة، والتي ترى أن العودة إلى النبش في تجربة الإصلاح انطلاقا من التراث الوسيط معناه الجمود والإنغلاق، وترى أيضا أن الإقتداء بالنموذج الخارجي هو ثمرة أساس لكل تجربة الإصلاح، وتأكيدا على أنه لم يكن أبدا أي انغلاق وارد في التراث الوسيط، لا في مقدمة ابن خلدون ولا في فلسفة ابن رشد، بل إن الانغلاق الذي يراه المعاصرين في حق السلف يكون رهين بغياب القراءة وضعف أسلوب المحققين في كيفية التعامل مع النصوص وتحويلها من مخطوط إلى مطبوع، أو رهين أيضاً بصعوبة فهم لغة المؤلف وعدم فهم المنهج الذي ارتكز عليه، فضلا عن تشويه النص دون التحقيق معه تحقيقاً دقيقاً حتى لا يكون هدف الباحثين للسير نحو تجربة إصلاحية ناجحة.


وعلى ضوء التمييز في الأخذ بتجربة السلف ( ابن خلدون، ابن رشد...) أو في الإقتباس من التجربة الخارجية الناجحة، نجد هناك تكرارا لعوامل تاريخية أو لظروف معينة، وكما يبدوا أن التجربة الخارجية نجحت في تحقيق مشاريع إصلاحية على ضوء الإقتباس من تراث الإسلام في العصر الوسيط، ومن بعده التراث الأروبي منذ فجر النهضة وبزوغ عصر الأنوار. وفي عز هاته المرحلة ما بعد الوسيطية سعى بعض الحكام والأمراء إلى إرسال بعثة علمية الى الخارج، كمحاولة لنقل التجربة لكنها لم تنجح انطلاقا من القرن الثامن عشر وحتى الآن، ويعني هذا أن أوروبا سمحت بنقل عاداتها في الطعام والشراب واللباس وتصدير الثقافة والإيديلوجيا والصناعة إلينا، ولم تمنح لنا تحويل تجربتها الاقتصادية المتقدمة وتطوير البحث العلمي والتكنولوجي. وكما نراها اليوم في عقد صفقات خارجية في مجال التسليح وبناء مشاريع اقتصادية وبنيات تحتية متطورة وإصلاح حال التعليم والصحة، فليس الباعث منها نقل تجربة الإصلاح وتحقيق رفاهية الشعب، بل هي فخ ومناورات فكرية استعمارية جديدة تسعى إلى كسب الوقت وإغراق البلد في أزمة مالية.


وإذا كان الشرق الإسلامي سابق عن نظيره الغرب من حيث بلورة أفكار إصلاحية مستمدة من تراثهم الحضاري القديم، ثم واكب ذلك طيلة ظهور الدعوة الإسلامية وما تلاها، إلا أن نموذجهم الإصلاحي لم يسير في الإتجاه الصحيح نظراً لتنامي الأقليات المذهبية والطائفية، وبروز التطاحن والتناحر القبلي، وتكاثر العلماء والفقهاء في الإستفتاء على ضوء انتمائهم المذهبي المختلف وليس على أساس المذهب الواحد، هو ما أدى بالكثير منهم التسليم والإنعتاق بمذاهب مختلفة، لكنه في نفس الوقت لم يحصل الإجماع على إعادة بناء التراث الحضاري وصياغته والسير به نحو تجربة إصلاحية شاملة.

أما الغرب الإسلامي، في علماءه ومفكريه الذين اعتادوا على النبوغ في العلم والشوق إليه، وذلك من خلال سفرهم وتحصيلهم العلمي أو في ورحلتهم إلى المشرق قصد تجاوز نبوغهم العلمي والفكري والمعرفي، إلا أن تحويل انتقال الثقل الفكري والمعرفي من المشرق إلى المغرب قد ساهم في نجاح تجربة إصلاحية في شتى جوانبها، وإذ المتصفح لتاريخ الأندلس يجدها غني بالمظاهر الفنية والمعمارية وتنوع حاصل في الصناعة والتجارة والعلوم والإنتاج، إذ لا يعدوا أن يكون تراث الغرب الإسلامي الوسيط هو ثمرة نجاح تجربة الإصلاح في الأندلس، عكس غرب شمال افريقيا، فلم يحصل إنجاح التجربة. اللهم إما في صورة التوافد المذهبي الشرقي بكثرة أو في صورة تزايد الهجمات الأروبية الطامعين في الغزو واستيلاء الأرض، أو في صورة إرسال البعثات العلمية إلى الخارج التي استنسخت عنهم العادة الإجتماعية لكنها في نفس الوقت أغفلت التقدم العلمي والتكنولوجي.

الهوامش :
1- محمد القبلي " حول الإصلاح وإعادة الإصلاح بالمغرب الوسيط "، مجلة المناهل، العدد 69-70، السنة 26 يناير 2004، ص7.

2- علي أومليل " ماهو الإصلاح " سلسلة ندوات ومناظرات حول الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، جامعة محمد الخامس، الرباط، ابريل 1983، ص 27.
3- محمد القبلي، في حوار مع اسامة الزكاري ومحمد بوخزار، البيوغرافيا والتاريخ، مجلة أمل، العدد 51، 2018، ص 206.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مظاهر الحضارة العربية
طاهر مرزوق ( 2020 / 1 / 12 - 14:38 )
الأستاذ/ الحجارى عادل
دائماً يتم الربط بين عدة أفراد يعدون على أطراف الأصابع بأعتبار أنهم أساس الحضارة العربية وبين بداية عصر الترجمة فى العصر العباسى وأعتبار ما كان يصدر من ترجمات وبعض الكتب فى الطب والفلسفة وتوصيف ذلك بأنه حضارة إسلامية!!
الأوربيون فى العصر الوسيط لم تكن مصادرهم الوحيدة كتب العرب بل كتب اليونان وغيرهم، وصنعوا حضارتهم ولم يطلبوا من العرب أن ينقلوا لهم تجربة حضارتهم، لأن العرب فى ذلك الزمان لم يملك من الحضارة شيئاً إلا بعض العلماء من هنا أو هناك،ولم تصنع تلك الحضارة الإسلامية او العربيةأية مظاهر لها من بناء مصانع ومنتجات تكنولوجية أو علمية بل ظلت المجتمعات الإسلامية على جهلها ولم تعرف المؤسسات التعليمية الحقيقية التى لو كانت موجودة لكان للحضارة أمتداد وتوسع وواقع يراه الجميع!
لكن كانت تلك الحضارة الإسلامية عاجزة عن بناء المنشئات الصناعية التى تصنع تقدم المجتمع العربى الإسلامى، لذلك أستمر الفشل العرب الإسلامى لكنهم يباهون ببضعة علماء جاءوا بالشهرة ولم يصنعوا حتى نهضة أو إصلاح عربى.
أليس كذلك؟؟

اخر الافلام

.. رئاسيات موريتانيا: ما هي حظوظ الرئيس في الفوز بولاية ثانية؟


.. ليبيا: خطوة إلى الوراء بعد اجتماع تونس الثلاثي المغاربي؟




.. تونس: ما دواعي قرار منع تغطية قضية أمن الدولة؟


.. بيرام الداه اعبيد: ترشّح الغزواني لرئاسيات موريتانيا -ترشّح




.. بعد هدوء استمر لأيام.. الحوثيون يعودون لاستهداف خطوط الملاحة