الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصيات الخوارج الكبرى(1)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 1 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


إن المراحل الصعبة والدموية التي عادة ما ترافق حالات الانتقال التاريخي الكبيرة تصبح عصية على فهم من هو فيها وحولها. وذلك لأنها تنهك الجميع في تتبع رؤيتها ومواقفها بأقصى جهد ممكن لكي يكون لهذه الرؤية والمواقف "الأولية" و"الأولوية" في الاعتبار عند نفسها والآخرين. من هنا اختلاط كل شيئ فيها. غير إنه تبقى للمصالح والأهواء الدور الأكبر والأهم. وهي حالة لا تخلو منها جميع مراحل التاريخ الإنساني وعند الأمم الكبرى بشكل خاص.
فقد أدى الانتقال السياسي من شبه الجزيرة العربية إلى المشرق (العراق والشام)، الذي رافق الانتخاب الشعبي الأول والوحيد في تاريخ الخلافة للإمام علي بن ابي طالب، الى استثارة صراعات عنيفة بوصفها التعبير السياسي والفكري والعسكري عن حالة هذا الانتقال، الذي لم يكن مجرد تغيير للبؤرة الجغرافية السياسية للصراع، بل وتغيير هائل المعنى بالنسبة لصيرورة الخلافة بوصفها دولة. وهي عملية تتصف بقدر كبير وهائل من التعقيد، من هنا تعقد وصراع المواقف، بحيث اختلط فيها كل شيئ من أزواج النبي إلى الصحابة إلى التابعين الى الخواص والعوام في معترك لم يخل من نوازع شخصية وأمثالها، لكن الدور الأكثر فعالية وجوهرية فيها كان يقوم في الاشتراك الهائل للجماعات والأمة الناشئة آنذاك في هذا المعترك.
وشأن كل حالة تاريخية من هذا القبيل، عادة ما تصبح القوى الأكثر وجدانية والتهابا في الدفاع عن المصالح العامة والقيم الأخلاقية المتسامية والمُثُل العليا ضحيتها الأولى. وذلك لأنها تندفع بقوة الوجدان بينما يتربص بها "العقل الماكر" لدهاة السياسة بالشكل الذي يوقعها في شباك الارتباك والخلل والموت السريع. وهو القربان التاريخي الذي لا يمكن تجنبه، كما انه الفداء التاريخي الذي يشعل الضمير الاجتماعي والأخلاقي بالقيم والمواقف الغالية. ومن ثم يمثل الخميرة الراديكالية التي تستثير بدورها الطاقة الاجتماعية والتاريخية الكامنة في مرحلة الانتقال ومرجعيات الثقافة الآخذة في التراكم والتكوّن.
وقد كانت "الخوارج" او الشراة هي القوة التي استظهرت في ذاتها واستبطنت هذه الحالة والقوة. من هنا وقوعها بين جميع القوى كما لو أنها سرّ الخراب، بينما كانت هي في الواقع قوة التنشيط الفعلي لروح الأمة. فهي القوة الوحيدة التي اقترفت خطأ وخطيئة اغتيال الخليفة علي بن ابي طالب، وهي القوة التي ثأرت لنفسها على فعلتها هذه في كمية ونوعية الانتفاضات والتمرد والثورات التي قادتها على امتداد قرن من الزمن في الصراع ضد الأموية. وهي القوة التي لولاها لما ظهرت المرجئة ولا القدرية ولا الجبرية والمعتزلة.
فقد تكالب الجميع ضدها، كل لأسبابه الخاصة. وتراكمت بأثر ذلك كمية لا تحصى من صيغ الاتهام والتجريم والتحريم بحقها، بحيث احتلت على الدوام، وبالأخص من جنب تدوين السلطة وخدمتها وسدنتها، الموقع الأول. ولاحقا الشيعة، وبعدها المعتزلة، ثم الفلاسفة ثم المتصوفة، أي كل القوى الحية والحيوية التي صنعت من حيث الجوهر اغلب الأبعاد الثقافية والعقلية والعقلانية والإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية.
وما زال وصف "الخوارج" يطلق على اشد القوى همجية في التاريخ السياسي العربي والإسلامي الحديث. وفي الحصيلة نقف أمام استعادة غبية ومدمرة للتقييم والمواقف التي تستلهم أتفه وأخبث ما صنعته الأموية أولا والعباسية في مراحل انحطاطها ثانيا، والحنبليات المتشددة حديثا.
من هنا تصبح مهمة إعادة النظر النقدية بهذا الصدد، ليست مهمة تاريخية تراثية، بقدر ما هي مهمة حالية ومستقبلية. وذلك لأنها تدخل ضمن سياق إعادة ترتيب وبناء الرؤية العقلانية النقدية والإنسانية تجاه تراثنا القومي والإنساني، أي تجاه التاريخ الذاتي، ومن ثم تجاه وعي الذات الثقافي والقومي بقدر واحد.
وقد نشرت مقدمة نظرية بهذا الصدد، واستكملها الان على مثال بعض شخصيات الخوارج الكبرى، للبرهنة على الفرضية المطروحة أعلاه.



عبد الله بن وهب الراسبي- شخصية الإخلاص الحر

لقد جسّد عبد الله بن وهب الراسبي في حياته ومماته، وظاهره وباطنه، وشخصيته ومآثرها المعنى الواقعي والخيالي لنيزك الثقافة الإسلامية الأولى. فقد كان هو بالفعل النيزك الأول للروح الإسلامي الحر وشهاب الخوارج الأكبر في الإخلاص للفكرة والحق. بحيث جعله ذلك مشهور مرموقا ومغمورا مجهولا. فقد برز بقوة وعنفوان الصعود التاريخي للدولة والروح والأمة وسقط في مجرى تكوّنها، كما لو انه البرهان الإنساني على أن تهذيب المسار الطبيعي للأفلاك هو عين ثباتها في مواجهة ما لا يتحمل الدوران فيها بمعاييرها. الأمر الذي يجعلها سريعة خاطفة محرقة مخيفة، لكنها تترك وهج الانطباع العميق والاندهاش المغري في خيال الطفولة وتأمل العالم. وهو تساقط يرجّ في اصطدامه بالأرض ترابها، ويثير هواءها، ويمطر سماءها، ويحرق أشجارها وأدغالها، أي يخلط مكونات أو اسطقسات وجودها الحي. لكنه تساقط يصعب تحديد مقدماته ونتائجه، شأن كل ما هو ملازم لحركة الأشياء وليس طبيعتها.
وقد مثّل الخوارج في أنفسهم وأفعالهم ومآثرهم شطح التاريخ الأول للدولة الإمبراطورية والثقافة الكونية، والتهور المتسامي في رسم معالمها المتوحدة. من هنا غرابة ظهورهم وقوتهم المدمرة في أعين من تعود على الاختباء في خيام الأوهام وقبور الأحلام وسكون العبودية ورتابتها. وهو انطباع عادي شأن كل عادة مترهلة في تكرار الزمن ومساره. فالثقافات الكبرى الملازمة لصعود الإمبراطوريات التاريخية عادة ما تجتذب في مجرى بناء قوتها الذاتية كل المكونات السارية والعائمة والطائرة في محيط رؤيتها ولمسها وشمها وتذوقها. وهو الشرط التاريخي الأول لصيرورة حسها الجامع وعقلها الأول. وعادة ما يصبح جذبها لمكونات الوجود عين سحقها وإعادة تركيبها. وليس مصادفة أن يتحول اجتذاب تراب الوجود التاريخي، ونار السلطة المحرقة، وهواء الفكر العاصف، ومياه الأمزجة الحارة إلى أسلوب بناء صروحها المادية والمعنوية. فقد تراكمت مكوناته بقدر من التجانس في ظل صراع الخلافة الأولى. لكنها سرعان ما اختلطت في ظل الانكسار التاريخي لتراكم النسب الطبيعية الذي أحدثته الأموية، بحيث جعلت من مكونات الوجود خليطا فاسدا. فالحقيقة والجمال والإمبراطورية الثقافية نسبة متجانسة وليست أخلاطا عشوائية. أما الأموية فقد أحرقت الوجود التاريخي بنار السلطة، وبّخرت الفكر بعاصفة الاستحواذ والقهر، وجففت ينابيع المياه الدافئة بجليد المصالح الباردة، وقدمت نفسها على أنها "تحقيق" للسنّة والجماعة. أما في الواقع فإنها لم تكن أكثر من إجبار الأمة على الإجماع بالعبودية لها، بوصفها السّنة الجديدة لإمبراطورية العائلة والقبيلة. من هنا رؤيتها في كل من يعارضها "خارجيا" على "السنّة والجماعة". ودفع الخوارج أثمانا باهظة للبرهنة على فساد هذه الخديعة التاريخية. ولعل الثمن الأكبر هو تحويل بطولة الخوارج إلى غدر وخيانة، واستشهادهم إلى جرائم، وإيمانهم إلى مروق، وإحسانهم إلى فسوق، وإهمال كل شخصياتهم الكبرى ورميها في سلة الإهمال والنسيان. غير أن كل ذلك لم يكن في الواقع شيئا غير مخادعة الزمن. وهي الصفة الملازمة لزمن السلطة وهلع الأشباح.
فقد عملت الأموية وتقاليد الاستبداد اللاحق على طمس هوية الخوارج الحقيقية، وبالأخص أبعاد الحرية المتسامية فيها والإخلاص لفكرة الحق. وجرى ذلك من خلال إبراز صفة الغلو والمروق ورمي أعلامهم الكبار في هاوية النسيان. وليس مصادفة ألا تحفل كتب التاريخ والسير بمعلومات دقيقة وموسعة عنهم، وهم الذين شغلوا الحيز الأكبر من اهتمام شرطة الحجاج وجواسيسه، وفقهاء الأموية وشعرائها. بعبارة أخرى، إن تاريخ الصيرورة الأولى للإمبراطورية وصراع مدارسها الكبرى، التي وضع الخوارج لبانتها الأولى وخميرة معتركها الفكري والروحي، تبدو كما لو أنها بلا أشخاص وأعلام. وهو أمر طبيعي بسبب كون الخوارج هم أول وأكثر من حقق فكرة الفرد والمسئولية الفردية والالتزام الفردي والتضحية الفردية من اجل الحق والحرية. ومن ثم لم يكن الشعار الذي رفعه الخوارج عن انه (لا حكم إلا لله)، سوى الصيغة اللاهوتية أو الوجه المتسامي لفكرة الحكم العادل. تماما كما لم يكن اختيار عبد الله بن وهب الراسبي لرئاسة الحركة الخوارجية سوى النموذج العملي لتحقيق فكرة الاختيار الحر. لكنه اختيار حددته شخصية الراسبي بوصفه ممثل الإخلاص الحر للحق والحرية.
بعبارة أخرى، إننا نعثر في طمس حيثيات حياته والمعلومات المتعلقة بحياته ومماته عن حدة الملامح البارزة في شخصيته، بوصفه مثقف الإخلاص الحر، المحكوم في هواجسه ووجدانه وعقله بقيم الحرية والعدل والفروسية المتسامية في تحقيقها. وقد يكون اصدق تعبير عنها في كتب الماضي هو الذي حاول أن يصوره باعتباره العامل بالعدل والاعتدال، والناطق بالحق والحاكم به، الذي كان يلطف بالرعية ويقسم بالسوية . وجعلت هذه الصفات السلطة (الأموية وتراثها اللاحق في العباسية وغيرها) يطمسون جهد الإمكان كل مآثره. بسبب ما فيها من إثارة للعقل والوجدان، وقلق للسلطة الجائرة. فقد كانت حياة عبد الله بن وهب الراسبي ومماته نموذجا حياة للروح المتسامي المتربي بتقاليد الفروسية العربية والفكرة الإسلامية الأولى. وصنعت هذه المكونات شخصيته، ووضعتها أمام اختبار التاريخ السياسي وفكرة الحق والعدالة والحرية .
فقد كان اختياره بعد التحكيم بديلا سياسيا أخلاقيا للخديعة. فعندما وجد من انضوى لاحقا تحت حركة الخوارج في التحكيم ونتائجه مهزلة الاتفاق المزيف والخلع، اضطروا إلى الوقوف أمام مهمة البيعة الصادقة . بمعنى أنهم وجدوا فيها وفيه بديلا لإمكانية استئثار معاوية بالسلطة. ويمكن رؤية الملامح الواقعية لهذه الفرضية بوصفها جزءا من مسار التاريخ اللاحق وليس احتمالاته الممكنة. فقد ضعف جيش الإمام علي بن أبي طالب بعد قتال وقتل أهل النهروان (أوائل الخوارج). وتشير هذه النتيجة إلى أنهم كانوا يمثلون القوة المخلصة في القتال . كما لم يكن مصادفة أو اعتباطا أن تتحول مهمة قتال وقتل الخوارج إلى مقدمة صعود الأموية وضمان استمرارها. فقد كان الخوارج القوة الإسلامية الوحيدة آنذاك التي رفعت فكرة محاربة الأموية إلى مصاف العقيدة المقدسة، أي محاربة السلطة الجائرة. بل واعتبرت هذه المحاربة محور الإيمان. على عكس النخب الأخرى (القرشية والتقليدية) التي سكنت وارتدت وقنعت وسكتت بمساومة "عام الجماعة" والموافقة على تسليم مقاليد الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان.
من هنا يمكن فهم شخصية عبد الله بن وهب الراسبي الذي أول من رفع شعار الخروج على السلطة الجائرة وعدم الاعتراف بها. كما انه السر الذي يفسر رفض فكرة القرشية في الإمامة وعدم اعتبارها شرطا من شروطها. إذ لم يعن انتخاب عبد الله بن وهب الراسبي سوى الصيغة العملية والفردية لفكرة الخلافة أو الإمامة بوصفها إدارة بالتعاقد لشئون الأمة، محكومة ومقيدة بالصفات الشخصية والقانون. فقد وضع عبد الله بن وهب الراسبي فكرة شرعية الخروج على السلطة الجائرة. بحيث ميزت هذه الفكرة الخوارج بصورة تختلف عن كل الحركات والنظم الفكرية الأخرى. وذلك لأنها الوحيدة التي جعلت من الخروج على الإمامة الجائرة واستبدالها بأخرى عادلة مهمة الأمة وتعاقدها الحر، بمعنى رفضها مكونات العائلة المقدسة والقبيلة المقدسة والوراثة أيا كان شكلها. وبالتالي فهي الحركة الوحيدة التي تمثلت حقيقة الخلافة كما نراها في شخصيات أبي بكر وعمر وعلي، وجسدت بصورة نظرية وعملية حقيقة الفكرة الإسلامية المحمدية عن الفرد والجماعة والأمة والله والشرع، بوصفها مسئولية مشتركة وعقيدة معقودة بعقد الجماعة. فقد كان ذلك الإبداع التاريخي النظري الأول في ميدان الفكرة السياسية والاجتماعية الذي أسس له عبد الله بن وهب الراسبي، واستمرت عليه تقاليد الخوارج حتى الرمق الأخير، وبالأخص في مرحلة التأسيس الأولية حتى انقراض الأموية .
ووجد هذا التأسيس انعكاسه الأول في انتخاب الخوارج له بوصفه إمامهم البديل عن احترق القوى المتصارعة (الذي وجد انعكاسه في مقدمات نتائج التحكيم). إذ كان انتخابه تحقيقا فعليا لشخصيته، بوصفه ممثل النزوع السياسي الأخلاقي الصارم في الموقف من الدولة والسلطة والأمة والجماعة الأنا. ونعثر على ملامح هذه الشخصية الأولية في خطبته التي ألقاها بمن حوله بعد ما تبين من أمر الحكمين، حيث نسمعه يقول:"أيها الناس، ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينتسبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق وإن ضر ومر. فإنه أن يضر ويمر في هذه الدنيا فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله وخلود الجنة. فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدعة المضلة والأحكام الدائرة" . كما نعثر عليها في مواقفه وأقواله بعد الخروج من معسكر الإمام علي وقبوله بالإمامة. فقد قبل بها بعد تحرج وتحرز. وعندما قبل بها قال:"ما أخذتها رغبة في الدنيا، ولا أردها فرقا من الموت". وعندما عقدوا له الرئاسة، أرادوه على الكلام فقال:"لا خير في الرأي الفطير والكلام القضيب". وبعد أن فرغوا من البيعة له قال: "دعوا الرأي يغبّ، فان غيوبه كشف عن محضه" . إذ تعكس هذه المواقف نفسية وذهنية المثقف الخوارجي، الذي استطاع أن يوحد في ذاته إدراك قيمة الفكرة وتراكم المعرفة واختمارها وعرضها على محك الواقع والتاريخ. بمعنى إننا نعثر فيها على معالم البروز القوية للانا المسئولة في أقوالها وأفعالها أمام النفس والجماعة والأمة والتاريخ. وهو البعد النموذجي الجديد الذي قدمه عبد الله بن وهب الراسبي في مرحلة الانتقال العاصفة من الخلافة إلى الملوكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا