الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الرفض والتمرد

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2020 / 1 / 28
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الرفض والتمرد والعصيان والثورة ظواهر إنسانية، مثلها مثل الطاعة والخضوع والإمتثال، تشكل صورا متغايرة من الفعل الإنساني في علاقته الصميمية مع السلطة. التمرد على السلطة والعصيان، رغم الطابع السلبي الذي يشوب هذه المفاهيم، صاحب تطور المجتمعات وتكونها وكان الدافع الأكبر الذي ساهم في تطور العقل البشري واكتشافاته المذهلة لطرق وآفاق جديدة في رحلته الطويلة نحو التكون، ولولا التمرد والثورة والعصيان لبقي الإنسان يأكل العشب ويرعى في الحقول البرية والغابات مثله مثل أي خروف. التمرد يتطلب في نفس الوقت مجتمعات منظمة وقوانين صارمة وسلطة دكتاتورية مطلقة، أي بيئة وبنية مغلقة وظروف خانقة من القهر والكبت تهيء الظروف الموضوعية لقوى التمرد والعصيان للظهور والنمو ثم التعبير عن حريتها وممارستها. ويمكن تتبع تاريخ المئات من الثورات المتعاقبة منذ بداية التاريخ البشري حتى اليوم، وهي عادة ثورات يقوم بها العبيد والمهمشين والفقراء ضد أصحاب المال والأرض والسلطة والتي تنتهي في أغلب الأحيان في بحار من الدم وأكوام من الجثت والأشلاء ومجازر ترتكبها الجيوش المنظمة ضد المتمردين. وبجانب هذه الثورات الجماعية ذات الطابع السياسي والإجتماعي، هناك الثورات الفردية والتي يقوم بها شخصيات أو نماذج تتمرد على السلطة المطلقة لأسباب إجتماعية أو سياسية أو وجودية وميتافيزيقية، والمتمرد الذي يقوم بثورته وحيدا ومعزولا عن الآخرين هو الإنسان الذي يمارس حريته القصوى بواسطة فعل الرفض المطلق والذي يشكل في نفس الوقت ماهيته وكينونته. ومن الصعب الحديث عن التمرد أو العصيان الفردي وتحليل نمادج وأمثلة تاريخية نظرا لتنوع وإختلاف دوافع وأهداف كل حالة. بينما يمكن إلقاء نظرة على هذه الظاهرة وتتبع نتوئاتها وجوانبها المتميزة في ما يمكن تسميته بتاريخ "الخيال"، الذي تعبر عنه الأساطير والديانات والفنون البصرية والآداب بكل أنواعها، من الشعر والقصة والملاحم .. إلخ. وهذا الإنتاج الإنساني الواعي يعبر بالضرورة عن البيئة الثقافية والعقلية للمجتمع الذي أبدع هذا الإنتاج. والأسطورة تتميز بجوانب متعددة ومتنوعة وشديدة الثراء، فهي عالم متسع ورحب من الأحداث، ذات الخاصية الشعرية الذي يكاد يظل عصيا على أي تفسير نهائي محدد، ولعل صعوبة التأويل وإيجاد المعنى كامنة في فكرة المطلق الذي تعبر عنه الأسطورة أو الذي ينزع إليه الإنسان من خلال لجوئه إلى السرد الأسطوري، كما قد يكمن في كونها نظاما رمزيًا غنيا بالإيحاءات والظلال تستدعي منهجا أو منظورا شموليا للدراسة والتقييم ولا ينبغي أن يكون جزئيًا حصريا أو انتقائيًا حيال هذا الإنتاج الخيالي المعقد. ورغم أن الأسطورة تبدو ذات أصول مشوشة ويلفها الضباب، ورغم تطورها المستمر وتغير تفاصيلها وأسماء أبطالها من حقبة لأخرى نظرا للإضافات والحذف والتعديل الذي يطرأ على النص، ورغم الغموض الذي يلف هذه النصوص وامتناعها على التفسير العقلاني، فإن الأسطورة مثلها مثل أي إنتاج ثقافي تستدعي البحث العلمي والمنهج العقلي لتتبع صورها المتنوعة عبر مسيرة الإنسانية المتعرجة. ذلك أن العديد من هذه الأساطير قد تطورت بطريقة تدريجية لتصبح ديانات ومناهج روحية تحتل اليوم فضاءات واسعة من الفكر الإنساني، مثل الأساطير السومرية والبابلية التي أثرت تأثيرا كبيرا في تكوين الديانات التوحيدية أو ما يسمى بالديانات السماوية. بينما ظل البعض الآخر، كالأساطير اليونانية، في شكله الأسطوري كمصدر أساسي للإبداع الخيالي الفني والأدبي، يتمتع بشفافية ووضوح نسبي يسمح بالقراءة وإيجاد المعنى. ومن هنا يمكننا تتبع الثورة والتمرد الفردي الذي عالجته هذه الأساطير المختلفة لتقدم نماذج عامة وشمولية لهذه الظاهرة والتي لا يمكن إيجادها عند دراسة الحالات التاريخية الحقيقية، نظرا لتنوعها وتشتتها كما سبق القول. وربما يجب البدء من الحضارة اليونانية التي تتميز بتنوع إنتاجها الفكري ووفرته، بغض النظر عن الجوانب المدنية والعسكرية أو الإقتصادية للمدن اليونانية، لأن إنتاجها الفلسفي والشعري والفني يعتبر مصدرا لا ينضب للبشرية، يحتوي كل الإشكاليات والتساؤلات والقضايا التي تهم الفكر حتى يومنا هذا. والذي يهمنا في المقام الأول، ليس فقط ظاهرة التمرد وأسبابها سواء كانت ضد الآلهة أو الطبيعة أو القدر أو أية سلطة مطلقة تقهر الإنسان وتجبره، وإنما أيضا طبيعة العقاب الذي يناله المتمرد جزاء عصيانه، فهذا العقاب في حد ذاته دلالة وإشارة إلى طبيعة هذه السلطة وجوهر البنية الثقافية التي أنتجت هذا النمودج الرافض للخضوع. وسنبدأ بإلقاء نظرة على أسطورة بروميثيوس، سارق النار، والتي تعتبر واحدة من أهم الأساطير في الميثولوجيا اليونانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو