الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرّعب الميثولوجي

رضا لاغة

2020 / 1 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لنفترض ابتداء أن العقلانية هي حركة قوية نحو التملّك المفهومي للواقع ، للطبيعة كما للمجتمع ؛ فإن هذا التأسيس الكوسمولوجي ( علم الكون) و الأنثروبولوجي ( علم الانسان) يبرز لنا بدقة المجادلات الابستيمية التي سوف تلعب دورا هاما فيما بعد في ولادة اللاعقلانية الجديدة.
كان واضحا أن هذه الولادة يراد استثمارها سياسيا وفق ما نرى من حركات شعبوية تكتسح الفضاء العمومي بضرب خاطف يقترب من الخيال.
كان واضحا أن هذا الصراع المتجدد بين العقل و اللاعقل يتدفق من نهر فياض و خصيب للتأويلية. ولقد كان هيغل قد ألمح إلى عنفوان حركة الجدل التي تولد ضمن حبكة تاريخية على غاية الاتقان." كثيرا ما يحدث في قاموس المصطلحات تحولا أو انقلابا يجعل أن ما يدّعي معقولا إنما يتفق فقط مع الفهم البسيط العادي ، في حين أن ما هو لامعقول يدخل إلى معقول أعلى"(هيغل : الموسوعة ، الفقرة 231).
يرى هيغل إذن أن المعاينة الصحيحة التي تميّز العقلي عما هو ضده لا تتم بما يسميه العيون المدركة للإنسان العادي و إنما بعيون الجدلي أي المتفلسف الذي يباشر فعل التكذيب المجرد بأن ما هو لاعقلي نقيض للعقلي ، إذ هو معقول أعلى.
يبدو أن القراءة أو التفلسف كفعل ذهني عقلاني يمر بلحظة أولى استكشافية انطباعية تمثّل حالة الإنسان العادي ثم تتبعها لحظة لاحقة هي استنطاق لمركبات و مفردات الجدل وفق رؤية تأليفية تؤدي إلى انتاج نص عقلي جديد و إن كان يبدو للإنسان العادي محكوم بآليات اللاعقل. يشرح هيغل هذه الحركة الجدلية كما يلي:"إننا في البداية نتناول فكرة ناقصة، فتؤدي متناقضاتها إلى أن يحل محلها نقيضها، غير أن هذا النقيض تظهر فيه العيوب نفسها، فلا يبقى طريق للخلاص سوى أن ندمج بين محاسن التصورين في تصور ثالث، ومع أن هذا العلاج من شأنه أن يحل المشكلات السابقة ويتقدم بنا خطوة نحو "الحقيقة"، إلا أنه بدوره يتكشف عن متناقضات، فينشأ من جديد موضوع ونقيضه، ثم يرتفع هذا التناقض بينهما في تآلف جديد، وهكذا دواليك، حتى نصل إلى مقولة (الفكرة المطلقة)".
حين ننظر اليوم إلى ما كتبه هيغل و نقرأ صفحات تاريخ العقل تربكنا نظرته . فخلافا للعصور الوسطى التي كانت تنظر للمجنون كحلم مزعج أو كابوسا إنسانيا كونيا ، ها هو فوكو يدفعنا إلى تبين معقولية ظاهرة الجنون . " لقد حاول فوكو نزع الجنون من وضعه الطبيعي المزعوم الذي وضعه فيه الطب النفسي. فكأن تجربة الجنون خلل عضوي مقدر بشكل نهائي و حددت ملامحه بشكل ثابت و مطلق" (خصومات ديكارتية: الجدل بين فوكو و دريدا حول دليل الجنون و الحلم)
كل ما يوجد حسب فوكو هو مجرد تأويلات تنسجم و طبيعة النسق الكلاسيكي العقلاني. الذي يفترض ابتداء أن الحقيقة لا تتأسس إلا بإقصاء الجنون أو ما افترضه ديكارت للتحرر من فرضية الشيطان الماكر تحصينا للذات العاقلة من الجنون.
وبغض النظر عن مدى صواب التباين الدلالي بين العقلي و اللاعقلي من منظور تأويلية هيغل وجدنا أنفسنا مشدودين مرة أخرى إلى ماهية الحقيقة على نحو ما انجذب إلى ذلك هيدغر رغم وعينا بمخاطر الانزلاق المخيف ضمن مبحث يقوم على الخواء الشمولي المجرد. خصوصا إذا أدركنا أن الهدف الذي نتبناه هو تعقب التطور التاريخي الدلالي لمقولة الرعب الميثولوجي. وربما ذلك ما دفعنا للتساؤل أكثر من مرة قبل الإقدام على كتابة هذا المقال، عما إذا كان مفهوم الرعب الميثولوجي يحفر اشتقاقات معاصرة بدل أن يجذبنا إلى دلالات تاريخية بعيدة.
لهذا السبب يجب ألا نفاجئ بالمصير الجوهري للمعقول الذي يظهر و يختفي . يجب الإقرار هنا بالمعنى الذي أشار إليه هيدغر بأن " ما يجب التفكير فيه قد يبقى من اختصاص هذا الفكر ، و لكن والحق يقال ، بطريقة غريبة و إلى حد الآن لم يوجّه الفكر عنايته إلى أن هذا الذي يجب التفكير فيه يتوارى و لا إلى المعنى الذي يجب أن يفهم به هذا التواري" (في ماهية الحقيقة ، ص 191 )
فهل يتأسس المعنى على خلفية إدراكنا لهذا الذي يتوارى باستمرار؟
على الرغم من تسجيل هيدغر بأحقية الكينونة في التمنّع و تردد الوجود في تسليم أسراره ، إلا أننا حسب جورج لوكاتش لا نؤوّل خارج غايات محددة. لأن مسألة تحطيم العقل أو انمائه تنلعب على صعيد النظريات الفلسفية بين الرجعية و التقدم. يقول جورج لوكاتش:" إن لاعقلانية زمننا تسعى إلى البحث عن أسلاف بما أنها تريد أن تعيد تاريخ الفلسفة إلى صراع أزلي بين العقلانية و اللاعقلانية. فهي تجد نفسها مضطرة إلى اكتشاف لا عقلانية في الشرق ، في العصر القديم اليوناني ، في العصور الوسطى" (الفصل2 : ملاحظات تمهيدية لتاريخ اللاعقلانية الحديثة ص73).
طبعا كما أسلفنا الذكر فإن قراءة جورج لوكاتش بوصفها قراءة منتجة تتبع تسلسلا منطقيا في التعامل مع المنجز من تاريخ العقلانية.إن الوعاء المفهومي هنا يستند إلى التفسير المادي للتاريخ.إنها بشكل أو بآخر إعادة كتابة للماركسية المشدودة لمنطق الجدل لتغدو الحداثة مجرد نتاج حتمي للتطور الإمبريالي. و بالتالي فهي دافع محرض لخداع الجماهير. و كما يتضح فإن هذا الخداع يبرز من خلال هذيان الحداثة بأسطورة عصابية بأن فيها خلاص الإنسانية و انعتاقها ، وإذ بها تتحول إلى حضارة دمار انتصر فيها منطق السيطرة الكامن في بنية المعرفة العلمية و التقنية.
هنا ينجلي مكمن الرعب الميثولوجي ، فالعقل وقع فريسة اللاعقل الكامن فيه.عقل مدفوع منذ ولادته بالخوف فأنتج رعبا كونيا تمظهر في النازية كحالة نموذجية لبربرية الإنسان الحديث.
لقد انتهت الحداثة إلى انتاج طغيان خرافي عار عن كل رادع. لقد انحدرت إلى أداة للتزييف الإيديولوجي لأن العقل وجد نفسه منسوخا من الأسطورة التي زعم بكونه بديلا عنها. بطبيعة الحال من غير الممكن هنا أن نرسم لوحة لمراحل تشكل الفكر اللاعقلاني . و لكن يمكننا أن نبين هذا اللاتجانس بين أهداف الحداثة و مآلاتها التي انطوت على ملامح مناقضة و مكرسة لصورة انسان مغترب عن ذاته، انسان بلا قسمات.
إن العقلانية توّجت بانتصار البيروقراطية مع ماكس فيبر و الأداتية مع أدرنو و هوركهايمر و الإنسان ذو البعد الواحد مع هاربرت ماركيز و ميكروفيزياء السلطة مع فوكو و المجتمع الاستهلاكي مع إيريك فايل ...
هذه النقطة مركزية في بحثنا نظرا لولادة الفكر المابعد حداثي من صلب رماد الحداثة ، لأنها ولادة تقوم على منطق التجاوز ، لأنها ولادة محكومة باللاعقلانية التي ستكتسح جل مجالات المعرفة. ولعل عبقرية المدرسة النقدية مع الجيل الأول تختزل في كونها هي من كشف عن موجة اللاعقلانية الجديدة التي بسطت نفوذها على الفكر.
هكذا يجد العقل نفسه منسوخا من الأسطورة ، من اللاعقل ليحيل بذلك إلى عقلانية مريضة و معتّمة.
المراجع:
1 ـ هيغل ، الموسوعة الفلسفية .ص 231
2ـ بيار، ماشري .خصومات ديكارتية : الجدل بين فوكو ودريدا حول دليل الجنون والحلم
3ـ هيدغر. في ماهية الحقيقة ، ص191
4ـ جورج،لوكاتش. تحطيم العقل ، الفصل2 :ملاحظات تمهيدية لتاريخ اللاعقلانية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو