الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة وأبعادها السيكولوجية

أيوب الوكيلي

2020 / 2 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعتبر القراءة من الفعاليات الخاص بالنوع البشري التي ساهمت في نمو وتطور قشرته الدماغية على مر العصور والأزمنة، قاد ذلك إلى نمو وتطور الوعي الإنساني، عبر القراءة والكتابة تطورت الحضارات ونمت المجتمعات وسيطرت على بعضها البعض، بهذه القوى الخفية التي نسميها الأفكار التي لا نراها بالعين، إنما تجول وتدور في أذهاننا لكنها تتحول إلى حقيقة مع الزمن الشيء الذي أنتج ازدهارا وثراء في النوع الإنساني الذي ننتمي إليه، عن طريق التواصل والتبادل والعطاء من أجل خدمة الحياة، لهذا تعتبر القراءة سلطة نفسية ومادية تساعد في نمو الإنسان وازدهار طاقاته وقدراته و مهاراته وإمكاناته، كما قال الجاحظ "الكتاب وعاء مليء علماً، وظرفٌ حشي ظرفاً، وإناء شحن مزاحاً .. ينطق عن الموتى ويترجم كلام الأحياء .. لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة" من خلال هذا التقديم يمكن طرح التساؤلات التالية: كيف تساهم القراءة في تطور الوعي البشري؟ و هل يمكن اعتبار القراءة وسيلة للعلاج النفسي ومواجهة الصعوبات والتحديات العاطفية والوجدانية؟

إننا معشر البشر ننمو نزدهر حينما نستطيع أن نصنع من أنفسنا تحف فنية عن طريق الابداع والابتكار والتميز، وهذه الأمر تساهم القراءة بشكل كبير في تطويره وإنماءه على المستوى النفسي والعاطفي مما يفرض علينا تغيير نظرتنا للكتاب من الرؤية التي تعتبر الكتاب مصدر للمعرفة فقط إلى رؤية الكتب والقراءة كمصدر مساعد في تنمية الابعاد الانسانية على المستوى العاطفي والمعرفي والنفسي وتقمص التجارب الإنسانية الحب، التعاطف، التضحية..) الشيء الذي ينمي القدرات العقلية والذهنية.

كيف تؤثر القراءة على الحالة النفسية:
حينما نقرأ كتاب نقلب صفحاته يصنع في نفوسنا تحولات وتغيرات حسية وشعورية، لأن القراءة تَصنع عدة شخصيات بداخل الإنسان لذلك لطالما نلاحظ، أن القارئ يبحث عن نفسه بين المُجلدات وشخصيات الرواية والنصوص، حيث تمنحنا القراءة القدرة على السفر والتجوال في عوالم وإمكانات غير محدودة ومتوقعة، كما أن القراءة تلون حياتنا وتخرجنا من اللون الأسود و الأبيض، و تنمي شخصيتنا على المستوى النفسي والاجتماعي، لهذا يمكن القول أن القراءة سلطة وقوة بها نفهم نفوسنا أولا وبعدها نستطيع تفسير واستيعاب العالم من حولنا، حيث نستطيع معالجة القضايا والتحديات التي نمر منها بمقاربات مختلفة ومتنوعة، كما يقول المثل اليوناني "ينبوع الحكمة يتدفق من رفوف الكتب".
تصنع القراء ة منا أشخاص جدد نستطيع الدفاع عن مواقفنا وتصوراتنا الذهنية والعقلية والعاطفية والوجدانية، لأننا عندما ننتهي من كتاب تغمرنا سعادة وفرحة كبيرة بموجبها نستطيع أن نواجه معنى الحياة ونصنع الفرق بين البارحة واليوم.
عندما نتعاطف مع شخصية ما في الرواية مثلا، فهذا يعني أننا نتأثر بها عاطفيا ونضع أنفسنا في مكانها، بمعنى آخر نستجيب للطريقة التي ترتبط بها فينا تلك الشخصية، وهذا يعني أنه إذا وجدت الشخصية السعادة في نهاية الرواية، فهذا يدفعنا إلى الاعتقاد بل التصديق أننا سوف نكون سعداء، لهذا السبب تلعب القراءة دور الناقد والمساعد في التقمص العاطفي والوجداني تجاه الغير

العلاج بالقراءة:

يعد العلاج بالقراءة اليوم من القضايا المهمة في المجتمعات الغربية غير أنها لم تلقى رواجا كبير داخل الثقافة العربية التي تحتقر الكتاب وتنتقص من قيمته وفعاليته في تنمية الأفراد وتطوير إمكاناتهم الذهنية والعاطفية.
حيث أكد العلم المعاصر أن الإنسان يحتاج إلى تعلم والفهم وتطوير المهارات، هذا الأمر يخلق منه شخصا ناضجا وناجحا على المستوى النفسي والعاطفي، ولعل القراءة تساعدنا في الدخول إلى حالة التقمص العاطفي خصوصا الروايات، لأنه توجد في الدماغ خلايا عصبية مسؤولة عن مشاعر التقمص العاطفي وهذه الخلايا يتم تفعليها من خلال التواصل المباشر مع الأخرين في الحياة، لكن نستطيع تفعيلها أيضا عن طريق الخيال وهذا ما يتجلى واضحا عندما نقرأ كتاب خصوصا الروايات والسير الذاتية نجذ أنفسنا نتعاطف معها بشكل كبير وواضح، عن طريق قراءة الأدب نستمد قوة لأنفسنا، حيث ينخرط القارء نفسيا وعاطفيا مع الأحداث والحكي، الشيء الذي يجعله قادرا على فهم مشاعره ومشاعر الأخرين تجاهه.
عطفا على ما سبق فإن الكتاب هو الدواء الذي يساهم كثيرا في التخفيف من حدّة متطلبات حياتنا اليومية، ويساعد على تخطي التجارب القاسية التي نواجهها وما تتركه من أثار نفسية علينا قد نعاني منها لمدة طويلة، وقد أثبتت الدراسات والأبحاث الحديثة أن للكلمة المطبوعة قوّة علاجية، يمكن استخدامها للتغلب على صعوبات وتحديات الحياة.
حتى على المستوى التاريخي توجد جملة من الملاحظات التي قدمها بعض الفلاسفة حول اليات العلاج بالقراءة من أجل تجاوز الضغوط النفسية والعاطفية والقدرة على بناء أنساق معرفية ومنهجية. حيث نجد الفيلسوف الإغريقي أرسطو الذي تحدث عن الأثر العلاجي للدراما في كتابه فن الشعر، حيث أقر أنها تقوم بتطهير الإنسان من انفعالاته، لأنها تثير فيه الشفقة والتعاطف والاحساس بمعاناة الأخرين، أي الشفقة على الشخصية التراجيدية بسبب سقوطها الحتمي ومعاناتها ، ونتعلم بذلك الشعور بالغير، والخوف لأنها تساعدنا على التفكير في أسلوب حياتنا، كي نتفادى النهاية المأساوية التي تتعرض إليها الشخصية التراجيدية.
حيث تشير العديد من الدراسات بأن الأفراد الذي يقرأون الكتب و الروايات يكتسبون ميولا قوية للتعاطف مع الآخرين والشعور بهم والتعاطف، كما تساعد الأفراد على بناء العلاقات فيما بينهم ومشاركة أفراحهم وأحزانهم، و تساهم في تقليص التوتر والقلق النفسي، خصوصا إذا تعودنا على القراءة قبل النوم فإنها من العادات التي تساعد في التطور والنمو النفسي والعاطفي، لهذا يجب عليناان نعمل بقول العقاد "يقول لك المرشدون: اقرأ ما ينفعك، ولكني أقول :بل انتفع بما تقرأ".

كيف تساعد في التخلص من التوتر والقلق؟
تساعد القراءة في التخفيف من حالة التوتر والقلق التي يخبرها الإنسان في الحياة، وهي أفضل من مشاهدة الأفلام أو البرامج الاعلامية، لأنها تدفع القارء في المساهمة وبناء توقعات وتصورات ذهنية وخيالية حول طبيعة الشخصيات التي يكتب عنها وتساهم في نمو الصرح النفسي والعاطفي.
إذا رغبت أن تقيس عمق إنسانيتك تخيل نفسك تقرأ دوستيوفسكي الكتاب الذي ألهم العالم في الكشف عن حقائق وخفايا النفس الإنسانية، فمن أراد أن يعرف نفسه جيدا ويغوص في أبعادها، يحتاج قراءة الأدب خاصة الأدب الروسي مع الكتاب العظام الذين كشفوا سر وأغوار النفس البشرية، مثل دوستويفسكي وتشيخوف وتولستوي، هم بمثابة بناة يستطيع الواحد منهم أن ينسج عالما من الأحداث والمعاني التي تلامس كل واحد فينا إنها تقترب من المشترك الإنساني، مما ينمي حس التأمل والتقمص الوجداني، يساعد في نمو شخصياتنا وفهمها بشكل عميق وجدير بالقراءة والتعلم، هذا هو الإنسان في جوهره.
لأنني حين أُريد أن أفهم الإنسان الآخر وهو أخي الإنسان أنطلق من ذاتي، فأنا لدي ذاتي ولدي كل مقوِمات التجربة ومن ثم أُحاول أولاً أن أفهم نفسي، فإذا فهمت نفسي سأبدأ في فهم الآخرين، علماً بأنه ليس شرطا أن يكون فهمي للآخرين انعكاسا لنفسي، وهنا يأتي دور القراءة.
بهذا المعنى يمكن القول كم هو جميل الإنسان يفهم نفسه عبر محاكة الأخرين، فالمبدعون في مجال الرواية مثلا يخلقون قصصا جميلة تحفز المحتوى الإيجابي في المجتمع عموما، فاستعمال المجاز فيه إحساس وقوة معبرة عن ما يخوضه الإنسان من تجارب في العطاء وبناء العلاقات والتواصل الحضاري والعمراني فالروايات الرائعة فيها تخليد للقيم الكونية.

ختاما يمكن الإشارة إلى الكلمة الشهيرة للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو Albert Camus الذي كان عميقا حين عرف الإنسان قائلاً أنه ذلك الحيوان الذي يسعى إلى تجاوز حيوانيته ، بالضبط لأننا نحن حيوانات في نهاية المطاف ولكننا أصبحنا بلا شك أناسي وبشرا لأننا رفضنا أن نكون حيوانات، وعلامة الرفض تتجلى في القراءة والتعلم و بناء الثقافة والقيم الإنسانية التي تضبط الغريزي الطبيعي فينا فتحوله إلى شيء مبدع على المستوى الحضاري والعمراني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ