الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة الدينية وغسل الدماغ

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2020 / 2 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعبر الأساطير اليونانية عادة عن جوانب غامضة وجزر مهجورة من النفسية البشرية وتلقي نورا خفيفا يضيء بعض جوانب الإنسان المظلمة. ولكن في أغلب الأحيان عندما نعيد قراءة هذه الأساطير ونحاول شرحها وتأويلها في الأوقات اللاحقة، عادة ما نجعل هذه القصص تتكلم بلساننا وتقول ما نريدها أن تقول، دون التمكن من الوصول إلى المعنى الحقيقي، والذي يمكن إدراكه منطقيا وبوسائل البحث العلمي الموضوعي البعيد عن استغلال هذه الأساطير والإنتفاع بها للوصول إلى أهدافنا المباشرة. والأمثلة عديدة ومتنوعة، من بروميثيوس سارق النار من الآلهة والذي أعطاها للإنسان ليصبح صديقا ومنقذا للبشرية، ونرسيس رمزا لحب الذات، وسيزيف حامل الصخرة إلى أعلى الجبل رمزا للعبث الوجودي، وأشهرها ولا شك أوديب وإلكترا التي بنى عليهما فرويد أسطورة جديدة، أسطورة التحليل النفسي وجذور العقد الجنسية. أما أسطورة بروكست وسريره المشهور فإنها عادة ما تستعمل في المجال السياسي للتعبير عن فكرة الرقابة والإمتثالية والمطابقة ورفض الإختلافات البشرية في التفكير أو في الممارسات وفرض نظام تعسفي يسعى لتحويل أفراد المجتمع إلى نسخ متشابهة ومطابقة لنموذج وهمي وأسطوري هو الآخر او لنموذج تاريخي بعيد.
إسم بروكست Procuste هو إختصار لـ Procrustus ، في اليونانية القديمة / Προκρούστης، والتي تعني حرفيًا "الشخص الذي يدق أو يطرق للتمديد أو الإطالة" هو لقب أحد قطاع الطرق من مقاطعة Ἀττική / Attikḗ يدعى بوليبيمون Πολυπήμων - Polypemon المضر أو المؤذي للغاية. وله اسم مستعار آخر هو داماستيس Damastès - Δαμαστής أي المروض. بروكست، هو قاطع طريق يتسم بالقوة والشراسة وحبه للتعذيب كما يبدو، وهو إبن لبوسيدون إله البحر والعواصف والبراكين، يسكن بمحاداة الطريق بين أثينا وإيلوسيس، وكان يستدرج المسافرين بعد غروب الشمس إلى بيته لإستضافتهم ولقضاء الليل في مكان آمن بعيدا عن مخاطر قطاع الطرق. غير أنه سرعان ما يكتشف هؤلاء المسافرون أن مضيفهم هو قاطع الطريق وأنهم أصبحوا سجناءه وليسوا ضيوفا. ثم يتولى بروكست لعبته المفضلة، فيضع ضحيته على سرير معد لهذا الغرض، فإذا كان المسافر أطول من السرير فإنه يقوم بقطع الأطراف الزائدة، أما إذا كان أقصر من السرير فإنه يقوم بتمطيط الضحية وتمديد مفاصله وأطرافه حتى يتناسب مع السرير، ومن هنا أتت تسميته بالضار والمروض. القراءة السريعة لهذه الأسطورة، تدفعنا مباشرة إلى التفكير في السلطات الإجتماعية والدينية والسياسية في عالمنا المتخلف والتي لا تطيق أية زوائد أو إختلافات بين المواطنين، وتريد بناء مجتمع موحد يخلو من "الشوائب" والشذوذ، مجتمع "متوسط" لا يقبل التطرف ولا الأطراف الزائدة، فإن كنت سلفيا فستقلم لحيتك وإن كنت ملحدا سيقطع رأسك. وها هو مثال للقراءات السريعة لهذه الأسطورة لكاتب يندد بالسلفيين والإسلاميين في تونس: تهمة "الإساءة إلى المقدسات" كسرير "بروكست" تشتغل وفق مبدأ لولبي لتنتج آلة عمياء من الرقابة : في منطق شعاره أن الأصل في الأشياء التحريم لا الإباحة، يصير كل شيء مسيئا للإسلام. ولما كان الجهد التأويلي لهذا الرهط يتحرك ضمن دائرة السرير لا يعدوها، فإن المبادرة تكون إلى عرض كل شيء على محكه سواء بالتمطيط ) بما يتضمنه من لي أعناق الحقيقة وأطرافها ( أو بالتقصير ( ما يستدعيه من بتر للأعضاء وإنزلاق من معنى إلى معنى حتى يصبح مسيئا للإسلام بالتمام والكمال )، ويحكم بكفر صانعه أو فاعله أو قائله ". ولا نشك لحظة واحدة في صحة هذا التشخيص لظاهرة الإسلام السياسي في تونس وغيرها من المجتمعات، وإنما نثير الإنتباه إلى عدم ضرورة اللجوء إلى "لي عنق الأسطورة" لإيصال الرسالة وإقناع القارئ بوجهة نظر معينة. فاليونانيون نادرا ما يبسطون الأمور وإنما يذهبون في الغالب إلى إثراء نصوصهم وتحميلها أقصى ما يمكن من الرموز والمعاني. ذلك أنه في رواية سابقة، بروكست يستعمل سريرين وليس سريرا واحدا لتعذيب ضيوفه، سرير صغير مخصص لطوال القامة، وسرير كبير لقصار القامة، ولكن قصة السرير الواحد تبدو أكثر ملائمة وإقناعا لمعنى الأسطورة ورمزيتها كما يتخيلها المفسرون والشراح الذين يستعملونها للأغراض التوضيحية. ولكن للأسف حتى في حالة السرير الواحد، ينقصنا جانب آخر من الأسطورة، وهو أن هذا السرير العجيب لا يتطابق مع أي من ضحايا بروكست ولا حتى مع بروكست نفسه، حيث يبدو السرير بطريقة سحرية على الدوام إما أطول وإما أقصر من الضحية بحيث يسمح لبروكست بممارسة عملية التعديل القسري مستعملا في ذلك آلة معقدة، مكونة من كماشات حديدية ومناشير صنعها له الإله الأعرج هيفايستوس، إله الصناعة والحدادة والبرونز والذي شج رأس زيوس بالفأس بعد أن اعتراه الصداع لتخرج آثينا من رأسه. فالفكرة الرئيسية التي يمكن إستنتاجها من قراءة هذه القصة، ليست فكرة التقليم ومنشرة الزوائد ولا التمديد والتمطيط للنواقص حتى تتلائم مع السرير- المقياس والنموذج، ذلك أن سرير بروكست ليس مقياسا وليس نموذجا وإنما وسيلة يستخدمها للوصول إلى هدف آخر أكثر تعقيدا مما يبدو. بروكست ينفذ برنامجا عبثيا بمعنى الكلمة، معاقبة كل ضحاياه لأنهم لا يتطابقون ولا يتلائمون مع النموذج المعد سلفا لئلا يلائم أي ضحية. فالذي يظهر بوضوح هو عبثية النموذج وليس عبثية القياس أو التعديل، لأن النموذج متغير وينقصه الثبات والموضوعية. فالذي يجب الإشارة إليه فيما يخص الإسلام السياسي أو أي نظام سلطوي آخر، ليس إستعمال القوة والترهيب والتعسف لترويض المواطنين ليلبسوا الجلابيب ويضربون عن الحلاقة، وإنما عبثية وجود هذا النموذج مهما كان نوعه متطرفا كان أم وسيطا، لأن الوسط ذاته يعتمد حتما على موقع طرفي المعادلة وعلى من يتحكم في المسطرة. فالذي نرفضه، ليس سرير بروكست ولا ما يقوم به وإنما وجود بروكست ذاته والذي يرمز إلى "السلطة" بكل أنواعها، دينية واجتماعية وسياسية وإقتصادية، لأن السلطة هي التي تجسم وتفرض النموذج والمسطرة وضرورة الإستلقاء على المشرحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد فلسطينيين اثنين برصاص الاحتلال غرب جنين بالضفة الغرب


.. إدارة جامعة جورج واشنطن الأمريكية تهدد بفض الاعتصام المؤيد ل




.. صحيفة تلغراف: الهجوم على رفح سيضغط على حماس لكنه لن يقضي علي


.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية




.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس