الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الناسخ والمنسوخ.. وما وراءهما..! [10]

وديع العبيدي

2020 / 2 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


(23)
دخول الجنّ في الإسلام، نكاية بقريش..
سورة الجنّ (72: 28)، مكيّة: تسلسلها في النزول (40)..
(شهادة الجنّ لقرآن محمّد)، والدعوة له..
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا
قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا
قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا
لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا

(24)
قراءة ابن عاشور في سورة الجنّ..
الجنّ: مخلوقات لا نراها، مكلفون كالبشر، أصل خلقهم من نار.
الجنّ: خلائق مستورة عن حواسنا، تشير للتوحيد والمعاد.
الجنّ: (صيغة جمع): واحدها: جنّي، خلاف الانسان.
الجنّ: من كلّ شيء: أوّله ونشاطه وشدّته. جنّ الشباب: عنفوانه.
الجنّ: ثلاثةُ أصناف؛ حيّات وعقاربُ و خشاشُ الأرض.
لها أكثر من اسم ، ووجه التسميتين ظاهر
جنّ الشيء يجنّه جنا: ستره. جنّ عليه الليلُ أي ستره. وبه سمي الجنّ: لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار. ومنه سمّي الجنين: لاستتاره في بطن أمّه/ عن: محمد ابن عاشور التونسي [1879- 1973م]
مكيّة بالاتفاق سورة الجنّ:
يظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة ، ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال : انطلق الرسول في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجنّ إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا .
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة كان بعد سفر الرسول إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف ، أي : وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة
وقد عُدَّت السّورة الأربعين في نزول السور، نزلت بعد الأعراف وقبل يس.
والغرض منها..
1- إثبات كرامة للنبيّ بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي، وفهم ما يدعو إليه من التوحيد والهدى ، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
2- إبطال عبادة ما يعبد من الجنّ.
3- إبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
4- إثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب ، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله ، والذين يعبدون الجن ، والذين ينكرون البعث ، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله.
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع. وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله، في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي، ومحاولتهم منه العدول عن الطعن في دينهم.
أمر الله رسوله بأن يعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته ، أقامه الله تكريما لنبيه وتنويها بالقرآن وهو أن سخر بعضا من النوع المسمى (جِنّا) لاستماع القرآن وألهمهم أو علمهم فهم ما سمعوه ، واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإيمان بالبعث والجزاء.
فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة، لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر، لا يعدو أحدهم في مدة الدنيا جبلته، فيكون على معيارها مصيره الأبدي في الحياة الآخرة. ولذلك لم يبعث إليهم بشرائع
وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإسلام وهديه ففهموه.
هذا العالم هو عالم (الجنّ).
وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن، ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها، نوع من المجردات: أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة ، الخفية عن حاسة البصر والسمع ، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات؛ بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات. أي : ليست أجساما ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري، ولها حياة وإرادة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه .
وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر، تحتوي على (الجنّ) وعلى (الشياطين): فهما نوعان لجنس المجردات النارية؛ لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة، وهي مغيّبة عن الأنظار، ملحقة بعالم (الغيب) لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس، إلا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر، على وجه (المعجزة)، خرقا للعادة.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها، وإن كان كلّ واحد منها لا يعدو أنه ظنّي الدلالة، وهي ظواهر القرآن؛ أو ظنّي المتن والدلالة، وهي الأحاديث الصحيحة. حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية، تسمّى (الجنّ). فتفسر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإسلام.
ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معينة من هذا النوع. إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية، بخلاف حال من يقول: إن ذكر (الجنّ) لم يذكر في القرآن بعد علمه بآيات ذكره.
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس، وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من (الروايات الخيالية).
وإنا لم نلق أحدا من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول: إنه رأى أشكالهم أو آثارهم. وما نجد تلك القصص، إلا على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم (التخيّلات).
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب، ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري [973- 1057م]..
ومثلك مَنْ تخيّل ثم خالا
فظهور (الجنّ) للنبيّ تارات، كما في حديث (الجنّي) الذي تفلت ليفسد عليه صلاته، هو من (معجزاته). مثل رؤيته (الملائكة)، ورؤيته (الجنة والنار) في حائط القبلة، وظهور (الشيطان) لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.
وقد مضى ذكر (الجنّ) عند قوله [وجعلوا لله شركاء الجن] في سورة الأنعام (6: 100). وقوله: [ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس] في سورة الأعراف (7: 179).
والذين أمر الرسول بأن يقول لهم: أنه أوحي إليه بخبر الجن : هم جميع الناس الذين كان النبيّ يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين. أراد الله إبلاغهم هذا الخبر، لما له من (دلالة) على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به. وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين. إذ كان (الجنّ) قد أدركوا (شرف القرآن)، وفهموا مقاصده، وهم لا يعرفون (لغته) ولا يدركون (بلاغته) فأقبلوا عليه. فيما الذين جاء بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإخبار عن استماع (الجنّ) للقرآن، بأنه أوحي إليه ذلك إيماء، إلى أنّه ما علم بذلك إلا بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع. فالآية تقتضي أن الرسول لم يعلم بحضور (الجنّ) لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف (46: 29): [وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن]، فتذكير بما في هذه الآية، أو هي إشارة إلى قصة أخرى، رواها عبد الله بن مسعود [ت 652م/ 32 هـ]، وهي في صحيح مسلم [617- 675م] في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.
وقوله: أنه استمع نفر من الجن في موضع نائب فاعل ( أوحي ) أي : أوحي إلي استماع نفر. وتأكيد الخبر الموحى بحرف (أن) للاهتمام به لغرابته.
وضمير (أنه) ضمير الشأن، وخبره جملة: استمع نفر من (الجنّ) وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.
ومفعول استمع محذوف دل عليه إنا سمعنا قرآنا ، أي : استمع القرآن نفر من (الجنّ).
والنفر: (الجماعة من واحد إلى عشرة).. وأصله في اللغة لجماعة من البشر. فأطلق على جماعة من (الجنّ) على وجه التشبيه. إذ ليس في اللغة لفظ آخر. كما أطلق رجال في قوله: يعوذون برجال من الجنّ، على شخوص (الجنّ).
وقولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا؛ قالوه لبعض منهم، لم يحضر لاستماع القرآن، ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى الصلاح. قال في سورة الأحقاف وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا..
ومعنى القول هنا : إبلاغ مرادهم إلى من يريدون أن يبلغوه إليهم، من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها. إذ ليس للجنّ ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر. فالقول هنا (مستعار) للتعبير عما في النفس مثل قوله: [قالت نملة، يا أيها النمل، ادخلوا مساكنكم]- (النمل 27: 18)، فيكون ذلك (تكريما) لهذا الدين، أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولا (نفسيّا)، أي: (خواطر) جالت في مدركاتهم، جَوَلان القول الذي ينبعث عن (إرادة) صاحب الإدراك به، إبلاغ مدركاته لغيره. فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول، كما في بيت النابغة [535- 604م]: يتحدث عن كلب صيد..
قالت له النفس إني لا أرى طمعا وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
/(المجادلة 58: 8). ومنه قوله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول
وتأكيد الخبر بـ ( أن ) ؛ لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف (إن).
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر لـ(لمبالغة) في قوة المعنى، أي : يعجب منه. ومعنى ذلك أنه (بديع) فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري [1061- 1141م] في شرح صحيح مسلم: لا بدّ لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم (حقيقة الإعجاز) و(شروط المعجزة) . وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول فإما أن يكون (الجنّ) قد علموا ذلك، أو علموا من كتب الرسل المتقدمة، ما دلّهم على أنه: (هو): النبيّ الأمي الصادق المُبشّر به.
وأنا أقول: حصل للجنّ علم جديد بذلك، بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها. إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها. وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإلهام (خلقه الله فيهم)، على وجه (خرق العادة)، كرامة للرسول وللقرآن.
والإيمان بالقرآن: يقتضي الإيمان بمن جاء به، وبمن أنزله. ولذلك قالوا ولن نشرك بربّنا أحدا
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن (شرف المعرفة) بالله وصفاته، وصدق رسوله وصدق القرآن، وما احتوى عليه ما سمعوه منه، فصاروا من خيرة المخلوقات، وأكرموا بالفوز في الحياة الآخرة، فلم يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم من الجن والإنس.
ومتعلق ( استمع ) محذوف دل عليه قوله بعده فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا.
والرّشد: بضم الرّاء وسكون الشين، أو: يقال بفتح الراء وفتح الشين هو الخير والصواب والهدى. واتفقت (القراءات العشر) على قراءته بضم فسكون.
وقولهم ولن نشرك بربنا أحدا ، أي : ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم (كانوا مشركين)، ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأبيد. فكما أكّد خبرهم عن القرآن والثناء عليه بـ (إن)، أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك بـ (لن)؛ وإنه تعالى جدّ ربّنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا.
هذا محكي عن كلام (الجنّ). قرأه الجمهور بكسر همزة ( إنه) على اعتباره معطوفا على قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا؛ إذ يجب كسر همزة (إن) إذا حكيت بالقول.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة، على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء؛ في قوله: فآمنا به. أي : وآمنا بأنه تعالى جد ربنا. وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل، جوّزه الكوفيون، على أن حرف الجر كثير حذفه مع (أن)، فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على التأويل.
قال في الكشاف: (أنه استمع) بالفتح؛ لأنه فاعل ( أوحي ). أي: نائب الفاعل. (وإنا سمعنا) بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي. فما كان من الوحي فتح؛ وما كان من قول الجنّ كسر. وكلّهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين: وأن المساجد لله، وأنه لما قام عبد الله. ومن فتح كلّهن، فعطفا على محل الجار والمجرور في: آمنا به؛ كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي.
والتعالي: شدّة العلو.، جعل شديد العلو كالمتكلّف العلوّ، لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس، فأشبه التكلف.
والجد ، بفتح الجيم : العظمة والجلال ، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ؛ لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها ، وكلّ ذلك من آثار الاحتياج ، والله الغني المطلق. وتعالى جدّه بغناه المطلق. والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه. وكلّ ذلك من الافتقار والانتقاص.
وضمير (إنه) ضمير شأن ، وخبره: جملة تعالى جدّ ربنا.
وجملة ما اتخذ صاحبة إلى آخرها: بدل اشتمال من جملة تعالى جدّ ربّنا.
وتأكيد الخبر بـ (إن) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة؛ لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من (الجنّ).
والاقتصار في بيان تعالي جدّ الله، على انتفاء الصاحبة عنه والولد، ينبئ بأنه كان شائعا في علم (الجنّ)، ما كان يعتقده المشركون: أنّ الملائكة بنات الله من سروات الجن. وما اعتقاد المشركين إلا ناشئ عن تلقين (الشيطان) وهو من (الجنّ)، ولأن ذلك مما سمعوه من (القرآن) مثل قوله: [ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة] في سورة الأنعام (6: 101)
وإعادة (لا) النافية مع المعطوف، للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله، لدفع توهّم نفي المجموع.
وضمير الجماعة في قوله (ربّنا)، عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره. فعلى تقدير أنه من كلام (الجنّ) فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد الطاهر بن عاشور [1879- 1973م] فقيه تونسي، تعلّم بجامع الزيتونة وأصبح من أساتذته. عمل قاضيا/(1909م) ومفتيا/(1932م). يعتبر أول من حاضر بالعربية في تونس القرن العشرين. كان ممن التقى الشيخ محمد عبده [1849- 1905م] خلال مروره بتونس، في رحلة منفاه. وله تفسير التحرير والتنوير، جامع بين النقل والاجتهاد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال




.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري


.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة




.. تعمير- د. عصام صفي الدين يوضح معنى العمارة ومتى بدأ فن العما