الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة المقدسة

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2020 / 2 / 10
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اتخذت الحضارات القديمة شكل الإمبراطوريات (تفاوتت في مقدراتها ومساحاتها)، وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد، بصلاحيات مطلقة، يصل مرتبه الإله أحيانا، وظل نظام الإمبراطورية سائدا إلى أن بدأت النظم الملكية تحل محلها تدريجيا، علماً أنّ الممالك كانت موجودة بالتزامن مع الإمبراطوريات، بيد أنها كانت صغيرة، أي دويلات، أو محميات تتبع إمبراطورية ما في مناطق نفوذها.. في القرون الوسطى كان ينافس الملك في سلطاته كل من الكنيسة والإقطاعيين والنبلاء.. ولإعطائه كل السلطات ظهرت مع بدايات القرن السادس عشر نظرية "الملكية المطلقة"، التي تجعل من الملك والدولة شيئا واحدا، والشعب مجرد رعايا، والملك فوق الشعب، وفوق القانون، وطاعته من طاعة الله، بصفته ممثلا لله..

بعد الثورة الفرنسية، والإطاحة بالإقطاع، أخذت تظهر نظريات جديدة تعطي للدولة مفهوما أحدث، مثل نظرية الدولة الدستورية، التي تجعل من الدولة خادمة للشعب، عليها واجبات تحقيق النظام، وحماية القانون، وتوفير الخدمات الأساسية، وتسمح بالمشاركة الشعبية، لدرجة أن الشعب بوسعه تغيير النظام.. ثم ظهرت النظرية الأخلاقية للدولة، التي تقول أنّ على الدولة أن تجسد روح الشعب ووحدته، وأن تحمل رسالة سامية تمثل قيم الأمة وأخلاقها.. ثم ظهرت النظرية الطبقية الماركسية، التي دحضت النظريات السابقة، وقدمت بديلها الشيوعي..

تاريخيا، مهما كان شكل الدولة أو اسمها، كانت مشكلتها الرئيسة وهمّها الأول كيفية تثبيت نظام الحكم، والحفاظ على امتيازات الطبقة الحاكمة، وإخضاع الشعب، والتحكم في مصيره.. وقد سلكت الدول طرائق شتى في كيفية تحقيق هذا الهدف: مثلاً الدول الديمقراطية (والتي أتت في مرحلة لاحقة) سمحت بأوسع قدر ممكن من المشاركة الشعبية، وحرية التعبير، ووفرت الحد الأدنى من الأمن والحياة الكريمة لمواطنيها (بعضها وفر الرفاهية والمساواة)، وانتهجت أسلوب التداول السلمي للسلطة، من خلال الانتخابات.. ولاحتواء أي معارضة، أو امتصاص أي نقمة شعبية كانت تلجأ للقوة الناعمة، وأهمها الإعلام، وتقريب المثقفين من السلطة، ولم تلجأ للقمع إلا في حالات استثنائية ومحدودة.

المشكلة كانت أكبر في دول العالم الثالث؛ فمع أنها في دساتيرها تتحدث عن الديمقراطية، والحريات، وواجبات الدولة، وحقوق المواطن، وفصل السلطات، ومكافحة الفساد، والعدالة.. بيد أنّ الواقع عكس ذلك؛ إذ فشلت في توفير حياة كريمة لمواطنيها، واستبد بها الفساد، وتحولت إلى نظم قمعية، وبعضها عمَّ فيها الخراب.. ومن أجل تثبيت أركان الحكم، وفرض الأمن (أي أمن النظام)، وحماية مصالح التحالف الطبقي الحاكم، والتحكم بالشعب، والتغطية على فشلها، لجأت إلى أساليب متعددة؛ منها استخدام الدين لتستمد شرعيتها منه، وتحتمي به. أو تقديس الدولة والحاكم، وجعل شعارات الدولة بمثابة دين. أو بالقمع والأجهزة الأمنية. أو بالاقتصاد، من خلال توسيع التحالف الطبقي عبر عمليات الخصخصة (النيوليبرالية). أو توظيف أدوات أخرى كالرياضة، والإعلام، وشعبنة العلوم.. وقد نتطرق لهذه الأدوات بشكل أعمق في مقالات قادمة..

استخدام الدين لتثبيت امتيازات السلطة ممارسة قديمة، لجأت إليها الدول التسلطية منذ أيام الفراعنة، مرورا بالممالك الأوروبية التي كانت متحالفة مع الكنيسة، ثم نظام الخلافة الإسلامية، التي منحت الخليفة سلطات شبه مطلقة، وانتهاء بالدول العربية والإسلامية الحالية، التي تقرب رجال الدين من السلطة، وتوظف الخطاب الديني لتبرير ممارستها، والتغطية على فشلها، بخطاب شعبوي عاطفي.

منذ بدايات القرن العشرين، ظهرت في العالم العديد من النظم الاستبدادية والشمولية، وهذه الدول لم تستخدم الدين، بل حاربته، لكنها ابتدعت دينا جديدا، إذ جعلت من النظام نفسه بمثابة دين، وأحاطته بالتابوهات والمقدسات، أي أنها استخدمت نفس الآليات، لكن بشكل ومحتوى مغاير.

فقد سعت الأنظمة الشمولية للتحكم في جميع مجالات الحياة، على المستويين الفردي والجمعي، بحيث صارت تحدد لكل شخص كيف يفكر وكيف يتصرف، من خلال الحزب الحاكم؛ فكل مواطن في الدولة إما عضوا في الحزب، أو عسكري، أو في جهاز أمني، أو موظف، أو نقابي ضمن نقابة يتحكم فيها الحزب، حتى الأندية الرياضية والجمعيات الأهلية والاتحادات جميعها تتبع النظام، ومن لم يكن ضمن أي إطار، فمن حوله المخبرين والعسس.. ويتم هذا بمساعدة الجهاز الإعلامي الذي يتبع الدولة بالضرورة، ومن خلال جهاز التربية والتعليم، والمنظمات الشبابية، يشمل ذلك الأوساط الثقافية والفنية وحتى الدينية.. وحجر الأساس في هذا النظام الشمولي هو القائد الأوحد.

ومن خلال هذه التراتبية النظامية شبه العسكرية، يتم التحكم بالشعب، وتشريبه أيديولوجية الحزب الحاكم، ومن أجل ضمان نجاح العملية يتم قولبة جميع المواطنين ضمن نمط موحد (باسم المساواة)، مثل توحيد الزي، وتوحيد الشعارات..

وبذلك تتحول أيديولوجيا الحزب الحاكم إلى دين.. وتستخدم نفس آلياته، فكما يطالب الدين أتباعه بالتصديق بكل الغيبيات، وتأدية الفروض الدينية، سيطالب الحزب الحاكم مواطنيه تصديق كل شعاراته، وتنفيذ قراراته، حتى لو كانت تؤدي إلى التهلكة.. وكما أن الدين لا يقبل بالشرك، ويرفض التعددية، ويقصي كل خصومه (بالتكفير) ويرفض التعايش مع الطوائف الأخرى (بالنسبة للأنظمة والأحزاب الدينية المتشددة والمتعصبة)، سيرفض الحزب الحاكم أية تعددية سياسية، وسيصفّي كل معارضيه (بالتخوين).. وكما أنّ للدين مقدسات ورسالة روحية، سيكون للحزب مقدساته (شعارات الحزب).. وكما في الدين "الشعب المختار" الذي سيسود على بقية الشعوب، لدى الحزب "العرق الأنقى" الذي سيقود البشرية.. وكما أن لكل دين أنبيائه، فللحزب شخصياته المقدسة (الزعيم).. وكما للدين طقوسه اليومية، للحزب أيضا طقوسه، مثل رفع العلم يوميا، وترديد النشيد الوطني.. وكما أن الدين هو المرجع الإلهي لتحديد الحق والباطل، ستصبح أيديولوجية الحزب هي المعيار الذي يحدد الخير والشر.. وكما يورَّث الدين من الأبوين، سيرث الفرد أيديولوجية الحزب وأفكاره، وسيتشربها في المدرسة، والمخيمات الكشفية، والمنظمات الحزبية.. وكما في الدين ثواب وعقاب ووعد في الآخرة، للدولة نظامها في العقوبات، ووعودها المؤجلة في رخاء الشعب إذا ما امتثل للنظام، وأطاع الزعيم.. وكما مارست الأديان حملات الجهاد، والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش لطرد الكفار والمنافقين، يمارس الحزب الحاكم العنف ضد معارضيه بحجة تطهير المجتمع من العملاء، والبرجوازيين، وأعداء الثورة والوطن.. ففي الحالتين ثمة سعي للوصول إلى المجتمع الطاهر والنقي والمتجانس..

ما تفعله الأنظمة الشمولية (من خلال تقديس الدولة والحزب ورموزهما، وجعلها بمثابة دين) يؤدي إلى تقديس السياسة نفسها، بعد تفريغها من مضمونها الحقيقي، أي بوصفها أداة لتحسين حياة المواطنين، وحل مشاكلهم، مثل البطالة والفقر، والاختناقات، وتوفير خدمات التعليم والصحة والإسكان والرفاه الاجتماعي، وتحقيق الأمن المجتمعي، وصون السلم الأهلي، ومكافحة الفساد، والاهتمام بالبيئة، وتطوير الصناعة والزراعة والسياحة.. وبهذه العملية، تصبح السياسة شيئاً مقدساً، من اختصاص الزعيم والطبقة الحاكمة فقط، ويحظر على المواطنين الاقتراب منها.. وبالتالي عدم مساءلة الحاكم، والخضوع لسياساته، وعدم الاعتراض، وقبول قرارات الحزب بيقينية ورضا إيماني، حتى لو كان المواطن يرى واقعه بعينيه كالجحيم ذاته.. وصولا للاستعداد للتضحية والموت في سبيل الزعيم والحزب (الثورة والوطن)..

في هذه الحالة يصبح كل الخراب والدمار وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والمحسوبيات، والفقر، والتضخم، والغلاء، وانقطاع الكهرباء، وتعطيل الانتخابات، وتراجع الفنون، وأزمات السكن، وتدهور البيئة، وتراكم النفايات.. كلها تصبح خارج نطاق السياسة، وليس للمواطن الحق بمناقشتها.. (وهي مجرد مؤامرة خارجية تستهدف القيادة)، ومن يحاول إقحامها في السياسة سيصبح طابورا خامسا، وخائنا، ويعمل لأجندات خارجية، يتوجب التخلص منه.

إليكم بعض الأمثلة لتبيان آليات عمل الأنظمة الشمولية في قهر شعوبها، وكيف نجحت نسبيا في عمليات غسل أدمغتها، وبرمجتها على نسق أفكار الحزب الحاكم وتوجهاته:

في ألمانيا النازية (وكذلك في إيطاليا الفاشية)، وبفضل الخطاب الشعبوي، وشعارات الحزب العنصرية، بتفوق العنصر الآري، وتقديس الحزب، تمكن "هتلر" و"موسوليني" من خطف قلوب الجماهير، وسوقها إلى الحرب، بكل ما تعنيه من دمار شامل..

في الاتحاد السوفييتي، اقترف "ستالين" مجازر دموية، ونفذ حملات إعدام وتهجير ونفي إلى سيبيريا طالت الملايين، بحجة تطهير الدولة والمجتمع، والقضاء على الثورة المضادة..

في الصين قاد "ماوتسيتونغ" ما أسماه الثورة الثقافية، والتي بسببها قضى نحو أربعة ملايين إنسان جوعا، وفي حملات تصفية داخلية، بحجة تطهير الثورة، والقضاء على البرجوازية..

في كمبوديا قتل "بول بوت" قائد "الخمير الحمر" أكثر من ثلاثة ملايين إنسان بالإعدامات الجماعية والتعذيب والأشغال الشاقة، حتى أنه فرَّغ العاصمة من سكانها، وأجبرهم على السكن في الأرياف، بذريعة التخلص من الممارسات البرجوازية، وفرض تعاليم الشيوعية. وفي سياق تنميط المجتمع واختلاق تجانس شكلاني له فرض زيا موحدا على جميع الشعب.

في كوريا الشمالية، يجسد الزعيم "كم جونغ أون" أوضح أشكال النظم الشمولية، وما زال يفرض على شعبه حكما دكتاتوريا قل نظيره، ويلزمهم بإتباع ممارسات وطقوس يومية لإظهار الولاء والطاعة، واضعا نفسه بمرتبة الإله..

في تركمانستان، نصّب "نيازوف" نفسه رئيسا للجمهورية، ورئيسا للحكومة، والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس مجلس الشعب، ومجلس النواب، وقاضي القضاة.. حتى أنه ألف كتابا، اعتبره الكتاب المقدس للتركمان، وأمر بتعليق صوره في كل مكان في البلاد.. ونذكر أيضا إمبراطور اليابان "هيراهيتو"، أيام الحقبة الكولونيالية، وحاكم رومانيا المطلق "تشاوشيسكو"، وسفاح أوغندا "عيدي أمين"، ودكتاتور تشيلي "بينوشيه"، ودكتاتور الأرجنتين "فيديلا"، ونظام الملالي في إيران..

هذا غيض من فيض، وفي الحقيقة، الأمثلة لا حصر لها، وقد ظهرت الأنظمة الشمولية في كل القارات، وعلى مدى التاريخ، وجميعها تشابهت من حيث آليات الحكم، وطريقة فرض هيمنتها على الشعب، وإسكات معارضيها، وإن اختلفت الأساليب والدرجات..

في البلدان العربية، كانت الأنظمة العربية الشمولية في بداياتها تعد شعوبها بغدٍ أفضل، وبتحرير فلسطين، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو، وبناء مجتمع اشتراكي، وتحقيق الرخاء، وخطط التنمية.. مقابل تقشفها وصبرها، ومنح ولائها للقائد.. وفي ظل تلك الوعود مارست قمعها، ونهبت البلاد وأفقرت العباد.. اليوم، معظم الأنظمة العربية صارت شمولية (حتى بدون حزب حاكم أوحد)، بيد أنها لم تعد تقدم أية وعود.. بل تفرض على مواطنيها السكوت والصبر والطاعة والتضحية ودفع المزيد من الضرائب مقابل أن يظل المواطن على قيد الحياة.. حتى لو عاش دون كرامة، ودون حرية..
في البدان العربية لا تقتصر المشكلة على النظم الشمولية، بل تشمل الأحزاب والنخب.. فأغلب الأحزاب السياسية شمولية، سواء تلك التي وصلت للحكم، أم تلك التي تسعى له؛ فبنية تلك الأحزاب (الدينية والقومية واليسارية) بنية شمولية، وممارستها وفكرها وخطابها الإعلامي وحياتها التنظيمية أيضا شمولية، حتى أن بعضها يطالب بإقامة دولة شمولية ولكن بأسماء أخرى، مثل المطالبة بالخلافة (مع وعود بضمان الحريات الدينية، وحماية الطوائف)، أو بدولة قومية (مع إدعاء بضمان حقوق الأقليات الإثنية والعرقية)، أو بدولة وطنية نقية.. لكن التجارب التاريخية أثبتت ترسخ العقلية الإقصائية والقمعية والديكتاتورية في فكر وممارسة كل القوى التي استلمت السلطة على مدى أزيد من ألف عام..

المشكلة تكمن أساسا في الإنسان العربي، الذي توارث نظما شمولية على مدى تاريخه الطويل، ولم يعرف غيرها، فبنى نظمه الشمولية الخاصة به؛ في شخصيته، وطريقة تفكيره، وتصرفاته، وفي بيته، ومع أسرته والمحيطين به..

لذلك، حتى حينما يصل إلى رأس السلطة شخص من عامة الشعب، أو إلى البرلمان، أو يتولى منصبا حكوميا رفيعا، سرعان ما يصبح جزءا من المنظومة الحاكمة بكل فسادها وقمعها، بل ويتحول إلى ركن من التحالف الأوليغارشي.. طبعا باستثناء حالات معينة.

للأنظمة الشمولية ميكانيزماتها، وللشعوب الحية إرادتها.. وما يجري في لبنان والعراق يعطينا بارقة أمل..


مصادر المقال: برنامج "ديستوبيا عربية"، للأخوين عمر، وبشر نجار. منشور على قناة يوتيوب، والتلفزيون السوري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنس الشايب يكشف عن أفضل صانع محتوى في الوطن العربي.. وهدية ب


.. أساتذة ينتظرون اعتقالهم.. الشرطة الأميركية تقتحم جامعة كاليف




.. سقوط 28 قتيلاً في قطاع غزة خلال 24 ساعة | #رادار


.. -لن أغير سياستي-.. بايدن يعلق على احتجاجات طلاب الجامعات | #




.. هل يمكن إبرام اتفاق أمني سعودي أميركي بعيدا عن مسار التطبيع