الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب الإيديولوجية الألمانية وبداية الأوهام الماركسية

فارس إيغو

2020 / 2 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أو بداية الإنزلاق نحو النزعة العلمية أو العلموية.
لقد ألف ماركس وأنجلز عدة مؤلفات مشتركة، ومن أهمها:
1ـ العائلة المقدسة (1845).
2ـ الأيديولوجية الألمانية (1846).
3ـ البيان الشيوعي (1848).
كتب ماركس وأنجلز في الأيديولوجية الألمانية (1) هذه العبارة ضد الفلاسفة الالمان المثاليين وضد الفلسفة المثالية التي تزعمها الهيجليين الشباب:
(إن الفلسفة عندما تدرس العالم الواقعي هي كالإستمناء إذا قارناه بالعشق الجنسي الحقيقي، أي هي فلسفة عقيمة)، أي فلسفة لا تحبل وتنجب سوى بالمفاهيم المُجرّدة المنفصلة عن عالم الناس العينيين.
بالنسبة لهذين المنظرين الكبيرين للشيوعية، فإن المسعى الفلسفي المادوي الذي ينفتح على البعد العملي، هو الذي له الأفضلية على التفكير التأملي العقيم.
عندما يسرف أحد الفلاسفة أو المفكرين في استعمال الكلمات الكبيرة وبأحرف كبيرة، ويبدو أن منطقه عويص، ومفصول تماماً عن الواقع، نقول عن هذا الفيلسوف بأنه يثير الأعصاب، ويُبعدنا عن الواقع الحقيقي، الواقع العيني.
في النهاية، نخلص إلى القول: كل هذا مجرد ثرثرة أو، بعبارة صريحة، إنه استمناء فكري.
هكذا نظر ماركس وأنجلز في كتابهم المشترك الأيديولوجية الألمانية الى الفلسفة التي سارت على خط الهيغلية، بالرغم من تقييمهما الإيجابي لفلسفة هيغل، حيث قام ماركس بعملية قلبها لتستوي واقفةً على رجليها بعد أن كان هيغل قد شيدها واقفة على الرأس، أي على الأفكار والمفاهيم والمصطلحات الكبرى.
في كتاب الأيديولوجية الألمانية، ماركس وأنجلز يتشاركان في هذه الرأي عندما يكتبان: ( إن الفلسفة عندما تدرس العالم الواقعي هي كالإستمناء إذا قارناه بالعشق الجنسي، أي هي فلسفة عقيمة ). وهذا هو أول إعلان ـ ولو ضمني ـ من جهة ماركس وأنجلز على نهاية الفلسفة أو نوعاً معيّن من الفلسفة، قبل عقود من الإعلان الصريح الذي أطلقته المدرسة الوضعية المنطقية، والتي هي امتداد للفلسفة الوضعية عند أوغست كونت، والتي تقوم على اعتبار الخبرة المحسوسة كمصدر وحيد للحقيقة، وكل ما عداها من القضايا خاطئة. وبالنتيجة، فإن المقولات التي ليس لها تحقق في الواقع التجريبي ـ وأولها الميتافيزيقا ـ هي عبارة عن هراء وكلام منمق لا يصلح لشيئ.
هل يعني ذلك، أنه يجب أن تترك الفلسفة جانباً، لا بل أن تُطّلّق، أي أن يوضع لها نهاية. في الحقيقة ماركس وأنجلز لا يستهدفان الفلسفة على العموم ـ فالماركسية هي الأخرى فلسفة تاريخية بصورة أو بأخرى، ولا يمكن لأحد اعتبارها استمناءاً فكرياً أو فلسفة عقيمة، إلا إذا كان متحيزا ومتعصباً ضدها ـ، لكنهم ينظموا سجالاً ضد بعض المفكرين الالمان من معاصريهم هم بوير وشتيرنر وفيورباخ، أطلق عليهم تسمية الهيجليين الشباب. هؤلاء الأخيرين تجرأوا على نقد النزعة المثالية عند هيغل، التي تعيّن هيمنة المفاهيم (الفكرة، الروح) والمفترض أنها ستقبض على الواقع في كليته. والحال أنه، بالنسبة لماركس وأنجلز، إن الهيجليين الشباب بقوا عالقين في فساد ورثاثة النزعة المثالية، لأنهم خلقوا مفاهيم جديدة تجريدية من دون أي حامل يحيل على الإنسان العيني.
ولنضرب أمثلة على ذلك، عندما يطرحون وجود الفرد المستقل والذي يتصرف فقط بصورة أنانية ويرفض الإستلاب للنسق السياسي والديني. إن ماكس شتيرنير (1805 ـ 1856) ـ وهو أحد الوجوه الحاملة للقب النزعة الفوضوية ـ لا يعمل سوى في إبتداع تعميماً آخر فارغ وعقيم، هو الفرد المستقل (2).
إن النقد الذي ساقه ماركس وأنجلز للفلسفة الألمانية يتكوّن إذن في ملاحقة، ونفي كل قيمة عن الأوهام الميتافيزيقية. ومن أجل دراسة العالم الواقعي، علينا أن ننزل (من السماء الى الأرض) بلغة ماركس وأنجلز، والاتجاه نحو الناس كما هم أو كما يبدون في عالم الشغل أو عالم الإنتاج. إنها مسلمة العلم الإنساني الذي يخضع الى (تصور مادوي للعالم)، والذي يصف العلاقات التي يعقدها الأفراد بين بعضهم البعض في التاريخ من أجل إنتاج شروط حياتهم. إن الفلسفة، مثل الدين والأخلاق والسياسة، ليست سوى الإنعكاس أو "اللغة" لهذه التشكيلات المحدّدة اقتصادياً. وفي لغة أخرى، إنها تترجم وتبرّر سلطة الطبقات المهيمنة: إن الفلسفة ـ يقول ماركس وأنجلز ـ ترجع الى فئة "الأيديولوجيا" (أي الوعي البائس).
لكن، حتى فكرة الأيديولوجية عند ماركس وأنجلز فهي تُخفض الى درجة اعتبارها مجموعة الأوهام والتضليلات التي تعتّم العقل وتحجبه عن إدراك الواقع والحقيقة، وهو ما يدفع الى اعتبار العلوم الإنسانية علوماً قادرة على اكتشاف قوانين التاريخ وحركة سيره الخطي المتقدم نحو العدالة الحقيقية أي التخلص من الإستلاب ليس على مستوى الديني والسياسي، بل على المستوى الاجتماعي الاقتصادي، أي في المجتمع الشيوعي هو الذي سينهي الصراع الطبقي بإنهاء الطبقات مع تحرّر الطبقة التي لا تملك شيئاً سوى قوة عملها، أي طبقة البروليتاريا.
وبديهي أن المنهجيات العلمية، قد تنقلب هي نفسها الى نوع من الأيديولوجيا عندما تغلو في الدوغمائية العلموية وتفترض أنها قادرة، في تحرِّيها عن الحقيقة في مجال الانسانيات والمعنويات، على الوصول الى درجة من اليقين تكافئ درجة اليقين في العلوم الطبيعية (3).
إن إتهام الأيديولوجية عند ماركس وأنجلز بأنها وراء كل الشرور في ميدان الخطابات الفكرية، هو نوع من السقوط في العلموية في ميدان العلوم الإنسانية، وبالنتيجة، هي الإعتقاد بوجود حتمية علمية في العلم الاجتماعي، أي قدرة هذه العلوم ـ إذا إنبنت على الأساس المادوي للتاريخ ـ أن تتوصل الى إكتشاف قوانين التطور التاريخي.
ويبدو أن الدرس الريكوري ـ من ريكور ـ قد أتى متأخراً حول مفهوم الأيديولوجيا، لكن أن يأتي متأخراً خيراً من ألا يأتي. لقد كشف بول ريكور في مقالات في الأيديولوجيا واليوتوبيا ـ الذي أعتبره من أفضل الكتب التي تم تأليفها في الفلسفة السياسية ـ أن المفهوم الماركسي للأيديولوجية كتضليل كما ظهر في كتاب الأيديولوجيا الألمانية لا يكفي لفهم كل آفاق المفهوم الأخرى. والمقاربة الجديدة التي يقوم بها ريكور تسمح له بالحفر العميق داخل مفهوم الأيديولوجيا، هذه المقاربة تقوم على اعتبار مفهوم الأيديولوجيا متعدّد الاستعمالات (أو الطبقات)، من المفهوم السطحي للأيديولوجيا بوصفها تشويهاً عند ماركس وأنجلز وألتوسير، الى المفهوم الثاني للأيديولوجيا، الأيديولوجيا بوصفها إضفاء للشرعية، وهنا نصل الى ماكس فيبر. وأخيراً، الأيديولوجيا بوصفها إندماجاً وهوية عند كليفورد غيرتز عالم الأنثروبولوجيا التأويلية، وهي مرحلة تصل الى مستوى الترميز، ذلك الشيئ القابل للتشويه والذي يضم داخله عملية إضفاء الشرعية (4).
إن هدف المسلك المادوي إذن، عند ماركس وأنجلز، ليس فقط نظري. إنه مسلك أو منهج خصب ومنتج ومكمل للمناهج الأخرى، فهو يفتح على البعد العملي للحياة، حيث أنه يفترض بأن الناس يمكنهم أن يحولوا، عن طريق أفعالهم الفعلية، حالة المجتمع الذي يعيشون ويتطورون فيه. إن الثورة هي في أفق كتاب الأيديولوجيا الألمانية، تتسجل في استطالة مع هذه الصيغة الشهيرة لماركس، أي الأطروحة الشهيرة رقم 11 على فيورباخ، والتي تقول: لقد اكتفى الفلاسفة بتأويل العالم، وقد حان الوقت لتغييره.
إنها برنامج كامل للإنسانية الجديدة التي بدأت ترى النور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والقائم على اعتبار إحدى "التأويلات" الجديدة للإنسان والعالم والتاريخ، وهي الماركسية، بمثابة "العلم الاجتماعي" بامتياز، وسنشهد طوال القرن العشرين على المآسي الكبرى التي تسببت بها الأنظمة التي بنيت على هذه النظرة "الأصولية" للمعرفة الإنسانية، والتي إنطلقت مع كتاب الأيديولوجية الألمانية والأطروحة رقم 11 على فيورباخ.
(1) إن كتاب ((الأيديولوجية الألمانية))، المترجم الى العربية، قام بترجمته الأستاذ فؤاد أيوب، والكتاب من منشورات دار دمشق، 1976. ويحتوي الكتاب بالإضافة لنص الأيديولوجية الألمانية على نصوص أخرى لماركس، مما يجعل الترجمة تحتوي على صعوبات بالنسبة للقراء والباحثين، بالإضافة الى الأسلوب الجاف والصعب والذي لم يساعد على فتح النص، على الرغم من المقدمة الجيدة التي كتبها الأستاذ فؤاد أيوب.
(2) هو يوهان كاسير شميتد المعروف بماكس شتيرنر، من الفلاسفة الالمان في القرن التاسع عشر عاصر كارل ماركس، ويعتبر من مؤسسي الفلسفة الفوضوية والعدمية مع نفحات وجودية بارزة، وفيها أفكار باكرة لما سيُرف لاحقاً بفلسفة ما بعد الحداثة والدعوة لمبدأ اللاسلطوية. تأثر ماكس شتيرنير بهيجل وفيورباخ؛ أما العمل الأساسي له فهو ((الواحد وصفاته)) نشر عام 1844.
توفي شتيرنر جراء لدغة حشرة معدية عام 1856 في برلين. وقيل إن الوحيد من الهيجليين الصغار حضر جنازته هو برونو بوير.
(3) جورج طرابيشي ((مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة)) (دار الساقي، الطبعة الأولى 1993)، ص: 53.
(4) بول ريكور ((محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا)) ترجمة فلاح رحيّم (دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة الأولى 2002، ص: 343 ـ 344).
هذه المحاضرات (28 محاضرة) كان ريكور قد ألقاها ريكور في جامعة شيكاغو الامريكية عام 1975، وقد صدرت لأول مرة في كتاب باللغة الفرنسية عام 1997، من منشورات دار النشر الفرنسية المشهورة ((سوي)).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. داعمو غزة يغيرون ا?سماء شوارع في فرنسا برموز فلسطينية


.. رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب




.. مراسل الجزيرة هشام زقوت يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع


.. القسام تستهدف ثكنة للاحتلال في محور نتساريم




.. واشنطن تطالب قطر بطرد قيادة حماس حال رفضها وقف إطلاق النار