الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
التاريخ العام للاقتصاد المصري
محمد عادل زكى
2020 / 2 / 14دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
(1)
تعد مصر من أكثر بلدان المعمورة تعرضاً للغزو من الغرباء أو الأجانب أو الأعداء، وكلها كلمات تم استخدامها تاريخياً لتعبر عن الغزاة والمستعمرين؛ فخلال حكم الأسرات الفرعونية تعرضت مصر لغزو الهكسوس، ومع نهاية العصور الفرعونية خضعت، على التوالي، لحكم الفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والأتراك، والفرنسيين، والإنجليز. في جميع الأحوال تتطلب الأمر حدوث التفاعل الحضاري والثقافي بين المصريين وهؤلاء الأجانب، ولكن بقدر، وكان من المؤكد أن لدى هؤلاء الغزاة ما يضيفونه إلى مصر، كما كان من المؤكد أن لدى مصر ما تضيفه إليهم. مع الأخذ في الاعتبار أن العصور المختلفة الَّتي مرت على مصر لم تكن لتخل من بعض الاندماج بين الأجناس المختلفة ليس التفاعل الحضاري فحسب، وبصفة خاصة حينما جاء "الفتح" الإسلامي في القرن السابع؛ فلم يكن، ذلك "الفتح" مجرد احتلال كغيره، بل زاد على ذلك أنه كان اختلاطاً واندماجاً، فقد استقرت القبائل العربية في مصر، وبخاصة في الجنوب، وساكنت أهله. وبفضل لغة القرآن فرض العرب لغتهم، كما فرضوا ديانتهم كمنتصرين، وأدخلوا الكثير من أعرافهم، وبصفة خاصة جداً أدخلوا "قانون الغزوة"، فالقرى التي كانت يجاورها العرب كانت دوماً مهددة بأعمال السلب والنهب من قبل هذه القبائل العربية. وعلى العموم، فإن كثرة عدد المصريين، وعلى الأخص في القرى، بالإضافة إلى أن الغزاة كان همهم الأول السلطة والثروة، واكتفوا، في الغالب، باستغلال الشعب المصرى، والفلاح بالأخص، دون أن يلفت نظرهم الاختلاط بالشعب، ساهم بحسم في أن ظل عنصر المصريين، نسبياً إلى حد ما، موحداً ونقياً، ولم تصبح مصر مستعمرة بالمعنى الصحيح؛ إذ لم يجد هؤلاء الغزاة لهم مكاناً في الحياة المصرية لقلة عددهم، ولاكتفائهم، كما ذكرنا، بالحكم والسيطرة دون الاندماج في أهل البلاد، أو الحلول محلهم. فمثلاً في عصر المماليك، نجد أن مماليك مصر لم يختلطوا بأهلها بل ظلوا بمعزل عنهم محتفظين بجنسيتهم وعاداتهم... والمماليك على كل حال لم يتزوجوا من نساء مصر إلا قليلاً جداً، فتزوج بعضهم من بنات القضاة وكبراء المسلمين من التجار والأعيان ولم يتزوجوا من المسيحيات مع أن الإسلام يبيح التزوج منهن.(1)
وللإجابة عن: إلى أي الأجناس ينتمي المصري، المعاصر، والفلاح المصري بوجه خاص؟ نجد العديد من النظريات والفرضيات، لعل أقربها إلى المعقول هي الَّتي تفترض أنه في عصور ما قبل التاريخ لا بد أن تكون شعوب أسيوية، عرب أو بابليون، قد احتلت وادي النيل واختلطوا رغم سيادتهم بمن كانوا فيه وهم خليط من السكان الأصليين والأحباش، وبتقادم الزمن أصبحوا لا فرق بينهم وبين أهل البلاد، واندمجوا في كتلتهم. وهذه الفرضية، وفقاً لهنرى عيروط، لها ميزة أنها تسمح بدخول المصريين في مفهوم شعوب البحر الأبيض المتوسط السامية الَّتي تشغل أفريقيا وجزءً عظيماً من آسيا الوسطى وشواطيء البحر الأبيض المتوسط وتشمل شعوباً سوداء متاخمة مثل أثيوبيا. ومن ثم يمكن إرجاع المصريين إلى ثلاثة عناصر تكون منها شعب مصر على طول الحقب التاريخية: الساميون، وأبناء شواطيء البحر الأبيض المتوسط، والليبيون. كتب عيروط: "ومهما يكن الأمر. وإذا كنا لا نعرف شيئاً يقينياً عن أصل المصريين القدماء، ولا من أين أتوا، فنحن نعرف يقيناً أن سكان مصر الحاليين، الفلاحين منهم على الأقل... ينحدرون من المصريين القدماء من عهود الفراعنة، ويتصل نسلهم بدون انقطاع مدة خمسين قرناً لم يختلطوا خلالها بالأجناس الأخرى تقريباً".(2)
أما هيرودوت فيقول:
"أن المصريين وجدوا على الأرض منذ أن ظهر البشر على الأرض، ثم انتقل الكثيرون منهم بعد ما اتسعت أرض الدلتا بمرور الزمن وانتشروا في الأرض الجديدة، بينما ظل كثيرون منهم يمكثون حيث كانوا أصلاً، وكان اسم مصر يطلق في العصور الغابرة على طيبة".(3)
ومن زاوية ما، يصح أن يكون تاريخ مصر العام تأريخاً عاماً للبشرية، وتطورها الجدلي، على أقل تقدير يصح أن يكون تاريخ مصر تأريخاً لحضارات العالم القديم، إذ يرجع تاريخ مصر، الَّذي نعرفه، إلى عصور ما قبل التاريخ، ثم عصر الأسرات الفرعونية(3400 -525ق.م) ويتخلل هذا العصر غزو الهكسوس(1648-1540ق.م) ومع انتهاء عصر أسرات مصر القديمة يأتي الفرس (525ق.م-323ق.م) بحضارتهم الَّتي نهلت من حضارات الشرق القديم في بابل ومصر. ثم يأتي البطالمة (332 -30ق.م) ومعهم الحضارة الإغريقية الَّتي تتناغمت مع الحضارة المصرية القديمة واقتبست منها وأضافت إليها. ومن بعد الإغريق أتى الرومان (30 -639م) وشرائعهم الَّتي أبهرت العالم القديم، ولم تزل الشريعة اللاتينية العظيمة هي الأساس التشريعي للعديد من دول العالم، وفي مقدمتها فرنسا ومصر. ومن بعد الرومان تتأتي جيوش الإسلام (639- 868) كي تفتح مصر!، وتنشر الإسلام، بيد أن الجيوش الإسلامية لم تجد همجاً ورعاعاً عراة، وإنما وجدت حضارة عمرها، على الأقل، ثلاثة آلاف عاماً. وإذ تنتشر جيوش المسلمين في قلب العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تتشكل الدولة الأموية كإمبراطورية عالمية مهيمنة تبسط نفوذها على قلب العالم وأطرافه المترامية، بيد أن تلك الدولة سيرثها العباسيون، كخصوم تاريخيين، ومن ثم ستتحول مصر إلى ولاية من الولايات العباسية (749-1258). وحينما تضعف السلطة المركزية في بغداد سوف تبسط الدويلات نفوذها فتنشأ الدولة الطولونية (868-905)، ثم الفاطمية (953-1171)، ومن بعدهم يأتي الأيوبيون (1174-1252)، ثم دولة المماليك البحريين (1250-1382) ومن بعدهم المماليك الجراكسة (1382- 1517) حتى تظهر في الآفاق إمبراطورية جديدة تتمكن من إقصاء المماليك، ظاهرياً، والانفراد بحكم مصر، ومد نفوذها إلى بقاع بعيدة من قارات العالم الوسيط. إنها الدولة العثمانية.
(2)
وخلال خضوع مصر لسلطان العثمانيين، شكلياً، والمماليك واقعياً، جاء بونابرت بجيوشه (1798-1801) وسعى إلى إقامة دولته الاستعمارية في الشرق، كتب سوليه:
"ربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر: كانت هذه إحدى المهام التي عهدت حكومة الديركتوار بها إلى بونابرت. تم ذكر حفر قناة السويس صراحة في القرار الرسمي الصادر يوم 12 أبريل 1798: يستولي الجنرال قائد جيش الشرق على مصر؛ يطرد الإنجليز من جميع ممتلكات الشرق التي يستطيع الوصول إليها؛ ويهدم بنوع خاص جميع وكالاتهم التجارية على البحر الأحمر. يحتل برزخ السويس ويتخذ جميع الإجراءات اللازمة لتأمين امتلاك الجمهورية الفرنسية للبحر الأحمر بصفة مطلقة".(4)
جاء بونابرت وسعى إلى إقامة دولته الاستعمارية في الشرق إلا أن إنجلترا، سيدة البحار آنذاك، لم تترك له الفرصة وأغرقت أسطوله في موقعة "أبو قير"، وأخذت تتربص بمصر حتى احتلتها (1882-1922) وحولت الاقتصاد المصري إلى اقتصاد تابع كلية يصدر المواد الخام، وفي مقدمتها القطن، للاقتصاد المتبوع، بريطانيا، ويستورد السلع والمنتجات الصناعية (الَّتي يغلب عليها طابع المنتجات الاستهلاكية) وعلى الرغم من أن مصر استقلت في عام 1922 إلا إن بريطانيا لم تخرج فعلياً إلا مع ثورة الجيش بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في يوليو 1952.
ومنذ أن استقلت مصر، عسكرياً، عن بريطانيا، اتجهت للعمل نحو الاستقلال الاقتصادي، بالاتجاه نحو التصنيع، الأمر الذي بدا كإعادة هيكلة شاملة للاقتصاد القومي. واستطاع الاقتصاد فعلاً أن يحقق قاعدة صناعية حقيقية وتنمية ملحوظة وطفرات هائلة... إلا أن عقد السبعينات أثناء حكم الرئيس الراحل أنور السادات، وما تلاه من عقود تحت حكم الرئيس مبارك، وحتى الآن بعد سقوط جماعة الإخوان المسلمين، وعودة الحكم للمؤسسة العسكرية، لم تشهد مصر، في إطار تشجيع الاستثمار الأجنبي وتحرير التجارة الخارجية وحركة الرساميل عبر الحدود، سوى المزيد من الإدماج في السوق الدولية والنظام الرأسمالي العالمي. وإنما كأحد الأجزاء المتخلفة من هذا النظام. ونقول لم تشهد سوى"المزيد"من الإدماج، لأن مصر إندمجت، بالأدق أدمجت، فعلياً في السوق الدولية والنظام الرأسمالى العالمى منذ أول تعارف عدائي مع الرأسمال الدولي مع مجيء الحملة الفرنسية.
(3)
فقبل الحملة الفرنسية على مصر، أي قبل أن يتعرف المجتمع المصري على الرأسمالية العالمية وسوقها الناشيء، كان المجتمع المصري، في آواخر القرن الثامن عشر، بمثابة ولاية من الولايات العثمانية، يحكم قبضته عليها أحد الأتراك الذي يعينه السلطان العثماني في الآستانة، ومن الناحية الواقعية كانت السيطرة الحقيقية والسلطة الفعلية بيد فئة المماليك. كانت الأرض دائماً ملكاً للحاكم منذ عهد الأسرات الفرعونية.
وإذ ما نظرنا إلى الأرض في زمن المماليك تحت الهيمنة العثمانية، فسنجد أن الأراضي، بوجه عام، كانت مقسمة إلى أراضي الفلاحة التي يزرعها الفلاح، ويدفع عنها الضريبة، ولم تكن له عليها أية حقوق قانونية ثابتة. وأراضي الأوسية وهي التي تمنح من السلطان للملتزمين من المماليك، أو شيوخ البدو، وبعض العلماء، وهذه الأرض تكون معفاة من الضرائب. وإلى جانب نوعي الأراضي، يوجد نوع ثالث هو أراضي الرزق، وكانت هذه الأراضي معفاة أيضاً من الضرائب، وهي بقايا إقطاعات كان السلاطين قد أنعموا بها على بعض المقربين، وقد تحول معظمها إلى أوقاف.
ولم تكن أراضي الأوسية والرزق والأوقاف هي كل الأراضي المعفاة من الضرائب فقد امتدت الإعفاءات إلى أنواع أخرى فهناك مسموح المشايخ "العلماء"والذي كان في بعض الأحيان يشمل قرى بأكملها، إلى جانب مسموح البدو"العربان"، وهذا أيضاً شمل مساحات ليست قليلة. ولقد بلغت الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر، فى عهد المماليك تحت الحكم العثماني، مبلغاً ملحوظاً من الانحطاط والتدهور؛ فلقد هجرت بعض الأراضي الزراعية من قبل الفلاحين الذين أرهقتهم الضرائب والإتاوات، وأصبح الفلاح يجد صعوبة في الحصول على قوت يومه، في الوقت نفسه الذي أهملت فيه الإدارة الحكومية مشروعات الري والسدود والجسور، وما هو من الضروري واللازم من أجل النشاط الزراعي ككل؛ وهي مشروعات لا يمكن أن تتم بجهود فردية. وما يمكن قوله عن سوء أحوال الزراعة والنشاط الزراعي، يمكن، وبدقة، قوله بشأن الصناعة والنشاط الصناعي.
وبشأن التجارة، شهد المجتمع المصري أيضاً إنحداراً تاريخياً ومال إلى أن يمسي اقتصاداً معيشياً في بعض الأجزاء المتفرقة من البلاد. فالحرفيون الَّذين ينتجون بعض الصناعات الأولية كالحصر والسلال والأواني يقومون ببيعها بأنفسهم في الأسواق، والزراع كانوا أيضاً يبيعون ما يزرعونه إلى المستهلكين مباشرة، ويشترون ما يحتاجونه من الحرفيين الَّذين كانوا هم أيضاً يشترون حاجاتهم من هؤلاء الفلاحين. فالتبادل يتم دون وسطاء.
ولأن السادة الأتراك والمماليك لم يتركوا للفلاح من حاصلات زراعته ما يحفظ رمقه ويجعله من القادرين على الاستمرار في زراعة الأرض الَّتي لم يكن له حق ملكيتها أو التصرف فيها بأي طريق من طرق التصرفات القانونية، اضطر الفلاحون إلى تطبيق مبدأ الاكتفاء الذاتي بمعنى أن تكفي القرية نفسها بنفسها فهي تستخدم طمي نيلها في بناء أكواخها وتحصل من أشجار النخيل وغيرها على ما يلزمها من أخشاب لمساكنها ووقودها وسواقيها وتغزل وتنسج أصواف أغنامها وأوبار إبلها لتصنع لباسها كما أن لها الحداد والنجار، وهي إن لم تفعل ذلك فلن يفعله لها غيرها.(5)
(4)
ولقد نقل لنا علماء الحملة الفرنسية صورة اقتصاد أقرب إلى الاقتصاد المعاشي، على الأقل في مصر الوسطى، في مجالي الإنتاج والتبادل من خلال المقايضة طبقاً لقانون القيمة، إذ تتبادل السلع بالسلع، بالطبع وفقاً لمقياس يحدد قيمة السلع المتبادلة، وعندئذ لا يكون أمام المتبادلين سوى أن يقيم كل منهما سلعته بعدد ساعات العمل المبذول في سبيل إنتاجها، وحينما يحدث أي تغير في سوق هذه السلعة يؤدي إلى حدوث تغير في عرض السلعة أو/و الطلب عليها، تبعاً لتقلبات السوق، فإن بعض التغير، حين المقايضة، يطرأ على مادة السلع نفسها بالزيادة أو النقصان، وليس ثمنها، فوجه عام يمكن القول، مع بعض الحرص، إن المجتمع لم يعرف، باستثناء القاهرة، حتى هذه اللحظة التاريخية ظاهرة "الثمن النقدي" كظاهرة اجتماعية مرتبطة باقتصاد المبادلة النقدية المعممة، أو السوق الرأسمالية. الّتي سوف يتعرف عليها المجتمع مع الحملة الفرنسية. جاء في وصف مصر:
"وفي غالب الأحيان، فإنه تنهض كل ثمانية أيام في كل مدينة من مدن مصر العليا سوق يأتي إليها سكان القرى المجاورة ليبيعوا المواد والأقمشة التي يصنعونها. وينقل ما يفيض عن الاستهلاك إلى مناطق أخرى عن طريق التجار الَّذين يتجرون في هذا النوع من البضائع وهكذا يصدر إلى القاهرة سكر فرشوط وأخميم وجرجا، وزعفران طنطا، والأقمشة الكتانية من صنع أسيوط، وكذلك الغلال والفول والعدس وزيوت بذر الكتان والقرطم واللفت. وتستبدل بكل المنتجات الزراعية وكذلك مختلف الأشياء المصنعة... وما لم تكن ثمة ظروف خاصة تتناول هذه البضائع فإن هذا التبادل لا تتناوله إلا تغييرات طفيفة في المواد التي تكون موضوعاً لها".(6)
(5)
فقبل مجيء الحملة الفرنسية كانت مصر مكونة من: فلاحين، وعرب، وحضر. بكلمات أدق مَن يسكنون الريف، ومَن يسكنون الصحراء ومَن يسكنون المدن الكبرى مثل القاهرة. ويمكننا التمييز في داخل كل مكون من الثلاثة بين شرائح وفئات مختلفة، تؤلف في مجملها الكل الاجتماعي، إذ بداخل تلك المكونات نجد الأسياد والعبيد والملاك والأجراء والحكام والمحكومين والمصريين والأجانب ومع هيمنة نظام الالتزام، الذي بمقتضاه، باختصار، يلتزم أحد المماليك البكوات بجمع مبالغ نقدية، وربما محاصيل زراعية، سنوياً تورد إلى خزانة الوالي، ممثل السلطان، والذي بدوره يقوم بإرسالها إلى السلطان في الآستانة. والملتزم يقوم بجمع هذه الأموال، قهراً غالباً، من الفلاحين الفقراء والمعدمين من خلال أتباعه وموظفيه. نقول مع هيمنة هذا النظام تبلورت، على صعيد السلطة، بالمعنى العام للسلطة، الفئات المتدرجة اجتماعياً والطبقات المهيمنة نسبياً. فنجد: الوالي، الَّذي هو ممثل السلطان العثماني في مصر. وقاضي الشرع، وكانت وظيفة القاضي من أهم الوظائف المنوط بها إرساء النظام وإقامة العدالة في الريف. لكن جعل أجور القضاة على عاتق المتقاضين (العدالة على المقاس! كما يحدث في موضة التحكيم الآن) أدى إلى تدهور القضاء واستشراء الفساد، حتى في داخل مؤسسة العدالة.
وفي كل ولاية من ولايات مصر الخمس الكبرى، وهي: الغربية، والبحيرة، والشرقية، والمنوفية، وجرجا، كان يعين حاكم من بين الأمراء المماليك. ويعزز حكم هؤلاء الأمراء المماليك الأوجاقات العسكرية الَّتي كانت مقسمة عند بداية الحكم العثماني إلى ست أوجاقات، أضاف إليها السلطان سليمان أوجاقاً سابعاً، هو أوجاق الجراكسة. وهذه الأوجاقات هي: متفرقة، وعزبان، وجاويشان، ومستحفظان، وجمليان، وتفكجيان، وجراكسة. وقد تمتعت فرق الأوجاقات السبعة بالقاهرة بكثرة عددية ونفوذ لا مثيل لهما، ولقد بلغ هذا النفوذ حد التدخل في عزل حكام الولايات.
ومن ثم نجد أن الثروة، في مرحلة أولى، سوف تبحث عن السلطة، كما ستبحث السلطة عن الثروة، كي تتصادم معها في مرحلة ثانية، وتندمج معها فى مرحلة ثالثة، فسوف يعمل الحرفيون والتجار على الالتحاق بفرق الأوجاقات المختلفة، كما سيعمل الأوجاقات على مزاولة الحرف المختلفة. ولا ننسى أن نذكر أخيراً سلطة الديوان العالي بالريف.(7)
(6)
فإذ ما انتقلنا إلى تحليل القوى الاجتماعية في الريف، فسنجد عدة قوة فاعلة؛ فهناك شيخ القرية. والمسئول عن تسجيل الأطيان، ويسمى الشاهد. ويوجد الصراف، الَّذي كان وكيلاً للملتزم، وكان يهودياً في الغالب قبل أن تنتقل هذه الوظيفة إلى المسيحيين. كما نجد الخولي الَّذي يشرف على زراعة أراضي الوسية الخاصة بالملتزم. والوكيل الذي يعينه الملتزم للإشراف على حصة التزامه. أيضاً نجد المشد الذي كان مسئولاً عن استدعاء المتمردين من الفلاحين لعقابهم أمام الملتزم. كما يوجد الخفير والكلاف، والأول كان عمله أشبه بعمل الشرطة في الريف، أما الثاني فكان عاملاً من عمال الملتزم، وهو مسئول بصفة خاصة عن علف بهائم الأخير، وتحول في ما بعد إلى بيطري بهائم وأغنام للقرية ككل.(8)
وإذ ما انتقلنا، في مجرى تحليلنا للكل الاجتماعي، إلى فئة العرب، البدو الرحل، فهم ينقسمون إلى عرب مزارعين، وعرب محاربين، أو العربان الرعاة أو الرحل. والعرب المزارعون هم العائلات التي قدمت، في الغالب، من شبه الجزيرة العربية، مع دخول الإسلام، وعملوا بالزراعة بعد أن استقروا على شواطىء نهر النيل، أما القسم الآخر من العرب فقد تشكل من العرب الذين قدموا من شمال أفريقيا وشغلوا الشاطىءالغربي للنيل، وهم في غالبيتهم يقيمون تحت الخيام ويستزرعون أرضهم بواسطة الفلاحين أي أبناء مصر. ونذكر أيضاً عرب سيناء الَّذين قدموا كذلك من صحراء شبه الجزيرة العربية. فسكنوا مصر وسيناء وجنوب فلسطين. كتب نعوم شقير:
"... ومن أخبار المصريين القدماء أن أولئك الأقوام البدو كانوا يغرهم خصب مصر فكلما سنحت لهم فرصة غزوا أطرافها الشرقية فنهبوا وسلبوا وعادوا إلى صحرائهم. وذلك منذ بدء التاريخ حتى قيل أن الألهة كانت تحتاط لنفسها من غزواتهم".(9)
ولقد كان لهؤلاء العرب، بعد أن استقروا في مصر خلال مئات الأعوام، النفوذ الطاغي حتى في مواجهة السلطة المركزية. وسيكون لدى محمد علي الوعي بأن هؤلاء العرب قوة ليست هينة، فنجده في البداية يتبع مع القبائل العربية سياسة المهادنة، إلا أن تلك السياسة لم تحقق ثمارها التي رغب فيها، فعمل على قمعهم، وجعل شيوخ القبائل رهن الاعتقال لديه في القاهرة، ضماناً لعدم خروج أبناء القبائل عليه، من جهة، وضمان عدم ممارستهم لأعمال السلب والنهب اللتين كانتا بمثابة القانون العام الحاكم لحياة العرب في صحراء مصر. كتب كلوت بك:
"... في الوقت الذي تسلم محمد علي فيه زمام مصر، كان العربان قد بلغوا من الجبروت وشدة البأس النهاية. فقد كانوا يفرضون الإتاوات على سكان مصر ويضربون الفدية... بل كان لا يصدهم أحد عن الزحف على مدينة القاهرة ودخولها دخول الفاتح لسبي النساء وخطف الأطفال ونهب الأموال. وكان لا يجرأ أحد على زيارة الأهرام بغير رضائهم وأمرهم، وكانت القوافل التي تجتاز برزخ السويس تدفع لهم الفرض الفادحة من المال".(10)
كما جاء في وصف مصر:
"ويغير هؤلاء البدو من منطقة إقامتهم إذا ما بدت لهم منطقة أخرى أكثر وفرة في مراعيها أو في مياها أو أكثر مواتاة لمشروعاتهم ولأغراضهم في السلب وأعمال العنف، فهؤلاء في الواقع سواء في حالة حرب أو في حالة سلم يمارسون نفس القدر من أعمال السلب والعنف".(11)
وفي الجزء الخاص بوصف الحياة الاقتصادية والنظام المالي والإداري، كتب ب. س. جيرار:
"... وبخلاف الانتهابات التي كان يقوم بها المماليك والصيارف، فقد كان على الفلاحين أن يعانوا كذلك من غارات العربان الذين كانوا يغيرون ليغتصبوا منهم قطعان مواشيهم وكل ما أهمل الأولون أن يأخذوه".(12)
(7)
حتى الآن كنا نحلل تكوين المجتمع، بإيجاز بطبيعة الحال، في مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية، أي المجتمع المصري قبل تصادمه مع السوق الرأسمالية الدولية. فماذا مع الحملة؟ وماذا بعدها؟ يمكننا القول أن المجتمع المصرى لم يكن، بتركيبته الاجتماعية بكل خصوصيتها، ليتعرف في فترة تاريخية مبكرة على السوق الرأسمالية الدولية في توسعها المستمر؛ إلا من خلال الحملة الفرنسية. وهي الحملة العسكرية الَّتي مثلت أول تعارف، عدائي رسمي وصريح، بين المجتمع المصري والاقتصاد الرأسمالي "الصناعي" العالمي المعاصر، وتحول أرض مصر إلى أرض معارك ضارية بين قوى العالم الرأسمالي آنذاك. فلقد جاء نابليون بونابرت إلى مصر في أول يوليو من عام 1798، واستولى على الاسكندرية، ثم على القاهرة، بعد انتصاره على جيوش المماليك، ولكن القوى الإمبريالية الأخرى، أي بريطانيا، لم تجعل الأيام تمر حتى تمكن الأميرال نلسون من القضاء على الأسطول الفرنسي في معركة "إبو قير" البحرية، واستمر هذا الصراع بين قوى الرأسمال الدولي، من أجل فرض الهيمنة على سوق المواد الخام، والموقع الاستراتيجي، ولم ينته هذا الصراع، ظاهرياً بطبيعة الحال، إلا بإعلان انتهاء الحماية البريطانية على مصر في عام 1922. وإذ كان من أهداف الحملة الفرنسية تعويض الخسائر الفادحة الَّتي لحقت بفرنسا في حروبها الاستعمارية مع إنجلترا، مع ضرورة توفير الغذاء بعد ازدياد السكان وبصفة خاصة في الجنوب، بتحويل مصر إلى مزرعة هائلة، تمد الصناعات الفرنسية بما يلزمها، بالإضافة إلى جعلها منطلقاً استراتيجياً في البحر المتوسط، فإنه يتعين اتخاذ عدة إجراءات تخص إجراء المسح الشامل للأراضي المصرية ودرسها بمن فيها وبمن عليها، درساً علمياً، وهو الأمر الَّذي تحقق عملاً من خلال العديد من الدراسات، لعل أهمها: وصف مصر، كمجموعة من الأبحاث العلمية الاستعمارية (استلزم هذا العمل العلمي الموسوعي من أجل انجازه مجهود150عالماً، و2000 فناناً، ونحو25 عاماً من البحث) وهو الأمر كذلك الَّذي تطلب عدة أفكار وإجراءات تخص تنظيم الملكية العقارية، والأرض بصفة خاصة، والإدارة ونظم الضرائب، بصفة عامة، بما يحقق السيطرة على الإنتاج الزراعي بوجه خاص، ويكفل تعبئته نحو الخارج.
ومن أجل أن يتم ذلك بطريقة علمية تم إنشاء معهد مصر على غرار معهد فرنسا، وفي الجلسات الأولى للمعهد العلمي طرح بونابرت 12 سؤالاً عملياً، ذكرهم سوليه، تتلخص في:
- كيف يمكن تحسين أفران الخبز للجيش؟
- هل يمكن العثور على مادة بديلة لحشيشة الدينار لصنع البيرة؟
- هل توجد طريقة لتنقية مياه النيل ولتبريدها؟
- هل من الأفضل إقامة طواحين هواء أم طواحين ماء في مصر؟
- ما هي المواد المحلية الّتي يمكن استخدامها لصنع بارود؟
- كيف يمكن تحسين النظام القضائي والتعليم في مصر؟
- هل يمكن زراعة العنب في مصر؟
- هل يمكن حفر آبار في الصحراء؟
- كيف يمكن تزويد قلعة القاهرة بالمياه؟
- كيف يمكن الاستفادة من أكوام الأنقاض المحيطة بالقاهرة؟
- هل يمكن بناء مرصد؟
- كيف يمكن إقامة مقياس على النيل؟
ولا شك أن طبيعة الأسئلة ذاتها تزودنا بوعي حول أهداف الحملة بوجه عام، من جهة، ووعي مواز بذهنية المستعمر نفسه، من جهة أخرى.
(8)
ويمكننا التعرف إلى التكوين الاجتماعي المصري والطبقات المهيمنة حينما نزلت جيوش بونابرت أرض مصر، من خلال التعرف إلى الفئات والأطياف الَّتي ظهرت على المسرح الاجتماعي آنذاك.
أولاً: المماليك الَّذين كانوا الفئة الحاكمة، من الناحية الفعلية، ولم يكن موقفهم من الفرنسيين يختلف عن موقفهم من العثمانيين، وهو الوصول إلى نوع من المشاركة في السلطة والثروة مع القوات المعتدية.
ثانياً: البورجوازية الناشئة ممثلة في كبار العلماء والأعيان من جهة، والأقباط من جهة أخرى.
فمن جهة العلماء والأعيان كان من الواضح، باستثناء عمر مكرم، نقيب الأشراف، والسادات، أحد كبار مشايخ الصوفية، والمحروقي، كبير التجار، وأتباعهم، مقدار تفاهمهم مع الفرنسيين، وبصفة خاصة الشيخ الشرقاوي.
أما الأقباط، وعلى الرغم من أنهم استبشروا خيراً مع قدوم الحملة ومعها الفكر العلماني، الَّذي ربما يعيد صوغ وضعهم الاجتماعي، بعد أن قاسوا في أوقات كثيرة من بعض المعاملة التمييزية ضدهم من قبل النظام العثماني؛ إلا أن المكاسب التي حققوها على الصعيد الاجتماعي، وبصفة خاصة في الريف، بدا أنها صارت مهددة، الأمر الذي أدى إلى ارتباك العلاقة بين الأقباط والفرنسيين في بعض الأحيان، ونجد في موقف المعلم يعقوب حنا شبه بلورة لموقف الأقباط المصريين، حينما قام بقيادة أول وفد مصري يطالب بالاستقلال لدى فرنسا وإنجلترا.
ثالثاً: نجد أصحاب الطوائف الحرفية، أمثال محمد كريم، وحسن طوبار. ويرى صادق سعد أنهما أقرب إلى الأعيان، وأن مواقفهما من الفرنسيين كانت تمثل سياسة الأعيان وأصحاب الثروة المصريين أكثر من أنها مثلت سياسة الطوائف الحرفية. والواقع أنه رأي جدير بالتدبر.
رابعاً: أما البدو: فنراهم يشتركون في جميع المعارك ضد الفرنسيين، ربما يقال بدافع الوطنية، ولكنني أرى أن اشتراك العرب في هذه المعارك كان من مستلزمات حياتهم القائمة بالأساس، كما ذكرنا، على الغزو والغنائم.
خامساً: نجد الفلاحين، وإذ ما استثنينا كبار الملاك، ودققنا في حالة الفلاح المصري في ظل النظام العثماني، ربما نفهم أسباب مقاومة الفلاح للمستعمر الفرنسي؛ فلقد ساء وضع الفلاح كثيراً في ظل النظام العثماني، الَّذي أطلق يد المماليك، ثم أتى الفرنسيون بقسوة لا تقل عن قسوة المماليك في جباية الضرائب المتعددة، والأمرّ من ذلك أن الفرنسيين لم ينزلوا قرية إلا تقريباً خربوها وأعدموا المعترض!
(9)
وإذ ما أخذنا الوضع الاقتصادي والاجتماعي في مجموعه إبان هجوم الرأسمال الاستعماري يمكن أن نلحظ أنه في سياق الزراعة والنشاط الزراعي، كان استخلاص ريع الأرض من الفلاحين يعتمد على الحكومة المركزية، وليس على الوجود الإقطاعي. وكان استمرار الإنتاج في هذا النظام يرتكز على التعاون النشط من جانب أغنياء الفلاحين، والذي يتعين عليهم توفير وكفالة حاجات الزراعة، وربما معيشة المزارع نفسه، مع الاستئثار بالفائض.
وكان قطاع التجارة مقتصراً نسبياً على القاهرة دون باقي الأسواق في مصر، ولقد قام هذا القطاع منذ أيام الأيوبين وحتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي، بوظائف التوزيع والتمويل للطبقة الحاكمة، والَّتي تمثلت في نخبة المماليك، من جهة، وأثرياء التجار من جهة أخرى.
وإذ تنطلق الثورة الصناعية في غرب أوروبا، تأخذ قيمة الأرض في الارتفاع، إذ كانت تمد المصانع بمواد العمل، كما زادت المنافسة في قطاع التجارة خصوصاً بعد وصول التجار الأوربيين والتجار السوريين المسيحيين الذين قاموا بدور الوكيل للرأسمالية الفرنسية. وحينما يتولى محمد علي الحكم في عام 1805، بتأييد شعبي، فإنه يحصر أهدافه في ثلاثة أمور محددة بدقة:
أولاً: تصفية الطبقة الإقطاعة المهيمنة على الأرض، والتي تمثلت في المماليك بصفة خاصة.
ثانياً: تصفية الإقطاع نفسه، كنظام اجتماعي مهيمن.
ثالثاً: احتكار الاقتصاد، وإعادة تعبئة الفائض، من أجل نهضة اقتصادية/عسكرية شاملة. وقد نجح محمد علي في تحقيق أهدافه الثلاثة في زمن قصير، إذ حقق هدفه الأول وقضى على 400 من المماليك في مذبحة القلعة.(13)
وحقق محمد علي الهدف الثاني من خلال مجموعة من الإجراءات التي تمكنت من ضرب النظام الإقطاعي ذاته، وفي مقدمة هذه الإجراءات مصادرة أراضي الالتزام في الوجه القبلي دون تعويض، أما في الوجه البحري فقد صودرت أراضي الفلاحة وسمح للملتزمين بالاحتفاظ بأراضي الأوسية طول حياتهم فقط ومنح أصحابها حق الهبة والوقف، والبيع أيضاً، وإنما للحكومة فقط. كما تمكن محمد علي من تحقيق الهدف الثالث، وهو احتكار الاقتصاد، بما فرضه من هيمنة على علاقات الإنتاج، واحتكار وسائل الإنتاج، والتجارة.
ومن المهم أن نذكر أن تحليل نوعية الإيرادات العامة تظهر مقدار هذا الاحتكار؛ فقد احتكر محمد علي الأرز (وهو أول محصول تم احتكاره) والحبوب، والقطن، والنخيل، والحرير، والتيل، والجلود، والحصير، والصودا، والملح، والخيوط الذهبية، والمسكوكات، وسبك الفضة، والصيد ببحيرة المزلة، وبيع الأسماك وبيع المواشي بالقاهرة. والملاحظة المهمة هنا هي: أن إيرادات دولة محمد علي، عكس ما هو شائع، لم تمثل فيها أرباح الاحتكار إلا جزء يسيراً بالمقارنة مع الإيرادات الأخرى مثل: الضرائب العقارية، وعوائد نقل الحبوب، ودخل الحكومة من جمرك الاسكندرية والسويس والقصير وبولاق ومصر القديمة وأسوان، وكذلك رسوم الصيد في بحيرة المنزلة. فعلى ما يبدو أن الاقتصاد المصري لديه الميل التاريخي كي يصبح اقتصاداً ريعياً!
(10)
وبعد إلغاء نظام الالتزام قام محمد علي بتوزيع الأراضى على المزارعين الَّذين يقومون بزراعتها، وعلى الرغم من أن محمد علي استهدف عدالة التوزيع، إلا أن الواقع أسفر عن تكون طبقة من كبار ملاك الأراضي؛ بدأ هذا التكون مع إلزام محمد علي كبار الموظفين وكبار ضباط الجيش الذين تضخمت ثرواتهم وصاروا من الأثرياء بدفع متأخرات الضرائب على الأراضي الَّتي عجز الفلاحون عن سدادها بعد تراكم العبء الضريبي أثر الهروب من الأرض أو التجنيد في الجيش من أجل الحروب المفتوحة الَّتي شنها محمد علي، وأطلق على هذا النظام نظام العهدة؛ إذ يقوم كبار الموظفين وكبار الضباط بسداد الضرائب المستحقة على الأرض، ومن ثم يتملكوها بموجب هذا السداد لخزانة الوالي. من هنا بدأت تتكون طبقة عريضة من كبار الملاك، واستكملت هذه الطبقة تكونها التاريخي مع نظام آخر وهو نظام الأبعادية، وهي الأراضي الَّتي منحت لكبار الموظفين وكبار رجال الجيش أيضاً، مع إعفاء هذه الأراضي من الضرائب، بشرط التزام هؤلاء بإصلاحها وتحسينها وإعدادها للزراعة، وهذا أيضاً عزز بناء الطبقة الجديدة.
وإلى جوار العهدة والأبعادية، وجد الجفليك، وهو نظام يعد من أهم العوامل الَّتي أدت إلى تكوين الضياع الكبرى؛ فالقرى الَّتي هجرها أهلها، للأسباب المذكورة، كانت تضم إلى ملكية الأسرة المالكة(14)
ولعل أهم وأكبر توسع في منح أراضي الأبعاديات والجفالك حدث في عهد إسماعيل عام 1863 حتى نهاية 1870. وبعد إفلاس إسماعيل والحكومة المصرية في عام 1878 حدثت تغيرات هامة وملحوظة في توزيع الملكيات الكبيرة، إذ بيعت الأراضي ومنها أراضي الأسرة المالكة بالمزاد، وهنا نجد تكون جديد لطبقة جديدة وهي الَّتي اشترت هذه الأراضي، وكانت تتكون من طبقة الأثرياء من الأجانب غالباً، والمصريين أحياناً. وهي طبقة جديدة من جهة عدم انتمائها بأي حال إلى طبقة أصحاب النفوذ والسلطة الَّتي هيمنت قبل مرحلة الاحتلال البريطاني.
(11)
وفي إطار هذا التصور لتوزيع الأرض، فإذ ما نظرنا إلى التطور الَّذي لحق بالطبيعة القانونية للحيازة؛ فسنجد ثلاثة أنواع من الحيازات:
أولاً: الأراضي الخراجية، وهي الَّتي وزعها محمد علي على الفلاحين بعد تصفية نظام الإلتزام.
ثانياً: أراضي الأوسية، ولكن بشكلها الجديد وبصفة خاصة في الوجه البحري، إذ أن الأوسيات في الجنوب قد تم مصادرتها بلا تعويض.
ثالثاً: أراضي المسموح، وهي الَّتي أعطاها محمد علي إلى مشايخ القرى في مقابل الخدمات الَّتي يقومون بها للحكومة والأعباء الَّتي يتحملونها في استضافة عمالها الَّذين يمرون بالقرى أو ينزلون بها، وكذلك خصص لبعض الأعيان الَّذين يقومون بإطعام المسافرين والمترددين على القرى مساحات أخرى عرفت باسم مسموح المصاطب، وحددت مساحة أطيان المسموح بنسبة 4 أو 5 أفدنة عن كل 105 أفدنة من أطيان المعمور بالقرية، أما كبار المشايخ المعروفين "بالمقدمين" فخصص لهم 10 أفدنة عن كل 100 فدان من أراضي القرية.(15)
ويمكننا القول أن النصف الأول من القرن التاسع عشر، تحديداً في الفترة من (1811-1840) عرف، تجربة للدولة في مصر ابتغت بناء الاقتصاد السلعي المستقل في إطار السوق الرأسمالية في صيرورتها نحو العالمية. يتم ذلك عن طريق إعادة تنظيم النشاط الزراعي، على نحو يمكن من تعبئة الإنتاج الزراعي، الّذي يستخدم مباشرة، أو على نحو غير مباشر، من خلال التجارة الدولية، في تحقيق نوعاً من البناء الصناعي، بما يعني الإنتاج ابتداءً من طلب السوق، والسوق الدولية على وجه التحديد. فالأمر إذاً أقرب ما يكون، إلى إعادة ضخ للقيمة الزائدة المنتجة بفضل سواعد المصريين في مسام الاقتصاد المصري من خلال دولة مركزية طامحة إلى تنمية مستقلة معتمدة على الذات. كانت الدولة، في هذا الوقت تهيمن على ملكية الأرض، ولم يعد الأمر يتعلق بمجرد استقطاع الضريبة، أو جزء من الإنتاج. فقد كانت السمة الجديدة هي (احتكار الدولة للإنتاج، وللتجارة) هذا إضافة إلى (احتكارها لتحديد الأثمان داخلياً وخارجياً) بما يحوي بين طياته من فك للروابط التي قد يصنعها السوق الرأسمالي العالمي.
لقد بنى محمد علي سياساته بأكملها بهدف تحقيق الاستقلال الاقتصادي واحتكار كل ما يمكن أن يحتكر من مرافق الإنتاج، واعتمد محمد علي ومستشاروه من الفرنسيين على الأبحاث السابقة التي أعدها علماء الحملة الفرنسية على أسس علمية، وبصفة خاصة أبحاث وصف مصر، ويمكننا القول أن أثر الفرنسيين كان ظاهراً في سياسة محمد علي الاقتصادية. كما كان ظاهراً، بوجه عام، في ثقافة النخب من المصريين.
ففي الزراعة تحققت مشاريع الري الَّتي اقترحها علماء الحملة، وصارت الأراضي الزراعية ملكاً للحكومة واتبع في الوصول إلى هذا الغرض نفس الطريقة الَّتي اتبعها قواد الحملة من طلب مستندات الملكية والاستيلاء على أراضي الملتزمين من المماليك الباقين.
وفي الصناعة أقيمت المصانع الكبيرة واحتكرت الحكومة الصناعات الجديدة كما احتكرها الفرنسيون أو شرعوا في ذلك. وفي التجارة نفذت اقتراحات علماء الحملة من مد الطرق والجسور إلى تشييد القناطر وشق الترع الملاحية. كما احتكر محمد علي التجارة نفسها من أجل حماية الإنتاج المحلي أمام المنافسة الأجنبية. أما في الإدارة فقد احتذت الحكومة حذو الفرنسيين في قيامها بنفسها، من خلال موظفيها، بجمع الضرائب، والقضاء على نظام الالتزام، وفي ترتيب الميزانية وفقاً للطريقة الأوروبية والعمل على موازنة الإيرادات والمصروفات.
(12)
إن الاحتكار الَّذي فرض ابتداءً من عام 1808 على الحبوب، سوف يمتد فيما بعد ليشمل جميع المنتجات القابلة للتصدير، في محاولة للسيطرة على شروط تجدد الإنتاج الاجتماعي، وخلق نوعاً ما من الاستقلالية المستندة إلى فك الروابط وعزل الأثمان الداخلية عن الأثمان الخارجية، وبالتبع إنشاء دولة متطورة وقوة عسكرية متقدمة؛ وقد نجحت التجربة فعلاً؛ حتى كادت جيوش محمد علي، المصرية، أن تدخل الآستانة، ومن ثم يمكن أن تهدد المصالح الأوروبية، الَّتي هي متناقضة بطبيعة الحال، على صعيد السوق الرأسمالية العالمية، وبصفة خاصة تهديد الرأسمال البريطاني في شرق البحر المتوسط، الأمر الَّذي قاد إلى التدخل العسكرى ضد مصر ابتداءً من عام 1840. وتوقيع معاهدة لندن، بين الدولة العثمانية وكل من روسيا وبروسيا وبريطانيا والنمسا، ثم انضمت فرنسا، لكي يقضى على تلك المحاولة، الأولى من نوعها، الَّتي سعت كي تبني الاقتصاد المصري على نحو من الاستقلالية في إطار السوق العالمي.(16)
فحينما أسفرت تجربة التنمية المستقلة والمعتمدة على الذات الَّتي أقامها محمد علي، على أساس نظام الاحتكار، وإعادة ضخ القيمة الزائدة في داخل عروق الاقتصاد القومي، عن تعاظم نفوذ مصر كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية، تمتد حدودها إلى منابع النيل جنوباً وبلاد الشام شمالاً. وزيادة إنتاجها الزراعى خمس مرات على إيرادات حكومة القيصر في روسيا وما يعادل نسبياً إيرادات فرنسا؛ وهما قطران يفوق كل منهما مساحة مصر مساحة وعدداً(17) وحينما تسفر هذه التجربة، كذلك، عن امتلاء خزائن الحكومة بالأموال، والمخازن بالحاصلات، ومن ثم المضي قدماً نحو التصنيع، وبصفة خاصة صناعة الأسلحة والسفن الحربية والسلع الاستراتيجية. وحينما يسيطر المجتمع المصري، بوجه عام، على شروط تجديد إنتاجه، ويعاد ضخ القيمة الزائدة المنتجة بسواعد أبنائه في عروقه مرة أخرى؛ من أجل تجديد الإنتاج الاجتماعي المستقل والمعتمد على الذات. نقول حينما تسفر تجربة التنمية هذه عن كل ذلك، فلا شك في أن الدول الاستعمارية الكبرى ستعلن وعلى الفور قلقها من هذه القوة الجديدة الآخذة في طريقها نحو تهديد مصالحها في المستعمرات، وبصفة خاصة في البحر الأبيض المتوسط، وشمال أفريقيا. ولا شك أيضاً في أنها لن تترك هذا القلق ليستمر دون أن تقضي عليه بالقضاء على مصدره. أي بالقضاء على دولة محمد علي.
(13)
ويمكن القول أن تجربة محمد علي قضي عليها فعلياً بموجب الفرمان الهمايوني الصادر في 13/2/1841، والَّذي بمقتضاه تم منح محمد علي وورثته من بعده حكم مصر، في مقابل تنازله عن الشام، ووفقاً لهذا الفرمان فإن منصب الولاية لا يشغله إلا من تنتخبه الآستانة، من أسرة محمد علي. ويعاد تنظيم الضرائب وفقاً للقوانين السائدة في الممالك العثمانية. كما يتم تعيين مراقب للضرائب والميزانية يلقى قبول السلطان العثماني. وأن تتوافق العملة النقدية المضروبة في مصر مع العملة المضروبة في الآستانة من حيث العيار والهيئة والطراز. أما الجيش، فقد تقرر أن لا يزيد، في حالة السلم، عن18,000 جندياً، ويمكن بإرادة الآستانة أن يزيد العدد من أجل أغراض الدفاع عن السلطنة، كما اشترط الفرمان تجنيد نحو 4,000 جندياً من هؤلاء، تجنيداً إجبارياً في الآستانة لمدة خمس سنوات. كما تضمن الفرمان تحريم بناء سفن حربية أو منح رتب أكبر من ملازم بحرى أو برى. وبشأن السودان فقد نص الفرمان على انتهاء سلطة محمد علي في النوبة، ودار فور، وكردفان، وسنار، بموته؛ فلا تنتقل السلطة إلى ورثته من بعده.(18)
وعلى الرغم من أن العدوان الإمبريالي العسكري على مصر قد حقق أهدافه؛ وقضى على فكرتي الاستقلال الاقتصادي والتوسع الاستعماري، فإن محاولة السيطرة على شروط تجديد الإنتاج الاجتماعي وخلق تلك الاستقلالية تجاه الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، ونجاح تلك المحاولة إلى حد ما؛ قد ساهمتا بفاعلية في تهيئة الاقتصاد المصري وسرعة دمجه في السوق العالمية، وإنما كاقتصاد تابع، كي يخضع لسيطرة الرأسمال البريطاني، الذي سينشغل بإجراءات إلغاء الاحتكار الّذي فرضته الدولة في عهد محمد علي، وهو الأمر الّذي سوف يستتبع إعادة النظر إلى الأرض، بجعلها سلعة يمكن طرحها في مجال التداول بيعاً وشراءً ورهناً وإيجاراً، أي اخضاع الأرض لمنظومة قانونية تنتمي إلى أحكام القانون المدني الَّذي فيه يفرض الأقوى شروطه وفقاً لصنمية القاعدة الأصولية القاضية بأن العقد شريعة المتعاقدين. وذلك بعد أن كانت القوانين العثمانية تحدد معظم الأراضي القابلة للزراعة على أنها مملوكة للدولة وليست ملكية خاصة للفلاحين، أي لم تكن تندرج تحت أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بالملكية، ومن ضمنها أحكام الإرث في الإسلام.
ولقد تحقق تحرير الأرض في عام 1855 مع إلغاء سعيد باشا الجزية التي كانت مفروضة على غير المسلمين، وحصول الرعايا الأجانب على حق شراء الأراضي، وكانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ مصر الَّتي تتحول فيها الأرض إلى جزء من الملكية الخاصة.
من هنا يبدأ الرأسمال الأجنبي في التغلغل، أساساً في شكله المالي، في مجالات البنية الأساسية للخدمات والتجارة، الأمر الَّذي يؤدي إلى فقدان المجتمع للسيطرة على شروط تجديد إنتاجه، على الأقل من جهة الأرض الَّتي صارت محلاً للتداول من خلال الرأسمال الأوروبي. ويتعمق تغلغل الرأسمال المالي الدولي في الاقتصاد المصري، بعد اتجاه الدولة إليه كمقترضة في عهدي سعيد وإسماعيل، وسلوك الاقتراض المفتوح على هذا النحو يأتي على نحو مختلف تماماً عن سلوك محمد علي؛ فلم يكن الرأسمال الدولي غير مرغوب فيه فقط في عهد محمد علي، وإنما كان أيضاً مستبعداً بقوة. ولقد بلغ الدين العام عند وفاة سعيد باشا11,160,000جنيهاً إنجليزياً، وبلغ في عهد إسماعيل سنة 1876 ما مقداره 126,354,360 جنيهاً إنجليزياً(19). أما دافيد لاندز، فيذكر:
"فبعد ثلاثة عشر عاماً من توليه العرش (يقصد إسماعيل) ارتفع الدين القومي في مصر من 3,300,000 جنيه إلى 91,000.000 جنيه".(20).
(14)
ويمكن القول أن مصر، آنذاك، دخلت حلبة الصراع بين الرساميل القومية، وبصفة خاصة الفرنسية والبريطانية، وبصفة خاصة أن الباب قد صار مفتوحاً أمام الأجانب من اليهود(22)، والأرمن(22)، واليونانيين(22)، وغيرهم من الفرنسيين والبريطانيين والألمان والروس والشوام والبلجيك والبلغار،... إلخ.
ومع تولي عباس باشا الأول (1848-1854) حكم مصر، عمل على عدم إزعاج الرساميل القومية الراغبة في المواد الأولية من أجل مصانعها، والباحثة عن الأسواق من أجل تصريف منتجاتها. ووجد أن هذه الرساميل تنزعج من تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، فقرر منع تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، فكانت سياسته بمثابة موافقة سلبية بالوجود الرأسمالي الغربي في مصر.
وحينما خلفه عمه سعيد (1854-1863) جعل الموافقة إيجابية، وقرر إلغاء جميع الضرائب المفروضة على كل الواردات الأوروبية، وقضى على البقية الباقية من الاحتكار. ولسوف يستكمل إسماعيل باشا، من بعده، مسيرة الترحيب بالرأسمالية الأوروبية، وسيفتح أبواب البلاد بشكل غير مسبوق أمام الأجانب الذين أخذوا يتدفقون على اقتصاد مصر، فعملوا في المهن التجارية والحرفية المختلفة، كما عملوا بالطب وبالمحاماة، مستفيدين بحرية التعامل بينهم وبين الأهالي، من جهة، وانخفاض الرسوم الجمركية وتنظيم حركة العمل بالجمارك، من جهة أخرى. بالإضافة إلى المجالس التجارية والامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة. فلقد تولى إسماعيل باشا الحكم في القاهرة خلفاً لسعيد باشا، وفي عصره شهدت مصر نقلة نوعية كبيرة وتطوراً اجتماعياً بارزاً، تمثل في إتمام حفر قناة السويس، وإجراء إصلاحات شاملة على الصعيد الإداري والقضائي، كما تغيرت معالم القاهرة والاسكندرية فصارتا أشبه بالمدن والعواصم في أوروبا وبصفة خاصة فرنسا.
وفي أوائل عام 1874 قام إسماعيل باشا بحركة إصلاحية كبيرة في التجارة وتشريعاتها كي تتلائم مع متطلبات الحرية الاقتصادية؛ فأنشأ الغرفة التجارية، وسن القوانين لأعمال السمسرة والصيارفة، كما وحد الموازيين والمقاييس كي يمكن للأجانب التعامل التجاري بشكل موحد. في الوقت نفسه أدخل إصلاحات مهمة في نظام الجمارك. وتم التوسع في إنشاء الشركات المساهمة. كما قام بمد وتوسيع شبكة المواصلات والبريد، وإنشاء العديد من معامل السكر (مع التوسع في زراعة قصب السكر عقب انهيار اسعار القطن بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية) ومعامل الورق، ومعامل القطن، ومصانع النسيج، ومصانع الطوب، ومصانع المعادن، ومصانع الفخار، كما وسع نطاق المطبعة الأميرية، وأتم إنشاء القناطر الخيرية، وجدد إرسال البعثات العلمية، وأنشأ الجمعية الجغرافية المصرية، ووزارة الزراعة، ودار الكتب المصرية، كما شهد عصره ظهور الصحافة الحرة حيث أصدر يعقوب صنوع، وهو يهودي مصري، بالإتفاق مع جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده جريدة "أبو نظارة" في عام 1877 لانتقاد أعمال إسماعيل نفسه، بعبارات تكتب باللغة المحكية، كما أنشأ الأخوان سليم وبشارة تقلا جريدة "الأهرام" في عام 1876، وأصدر إبراهيم اللقاني "مرآة الشرق" في أوائل عام 1879، وأنشأ ميخائيل عبد السيد جريدة "الوطن" في أواخر عام 1877، إلى غير ذلك من مظاهر النهضة، ولا نغفل بالطبع تسببه، بالاستدانة، في وضع الاستعمار البريطاني في حالة تأهب كي ينقض على البلاد.(21)
أعاد إسماعيل تسليح الجيش، مستفيداً بالامتيازات الَّتي منحها له الباب العالي ومنها زيادة عدد الجند حسب الحاجة، مكوناً جيشاً قوياً لإعادة الروح إلى المشروع التوسعي الاستعماري الذي بدأه محمد علي، فقد استعان بالجيش والأسطول التجاري في خطة توسع شاملة في الجنوب، فأرسل في عام 1868 حكمدار السودان إسماعيل باشا أيوب قائداً لجيش قام باحتلال أعالي النيل ودارفور، وكلف في عام 1869 صمويل بيكر بتوسيع الإمبراطورية في الجنوب والقضاء على تجارة الرقيق. وتولى المهمة بعد ذلك إنجليزى آخر هو تشارلز جوردون، الَّذي تمكن من إخماد التمرد في دارفور، وإعادة الهدوء الى الحدود الإثيوبية بعد أن فشل في غزوها، كما استطاع الى حد ما من تقليص حجم تجارة العبيد في الجنوب. ولم تكن إصلاحات إسماعيل وعمله المتواصل على تطوير المجتمع (وسيطرته على شروط تجديد إنتاجه بسيطرته على تسرب القيمة الزائدة المنتجة في داخل المجتمع المصرى، وهو الأمر الذي يتضح من تحليل حركة الصادرات والواردات) من دون اهتمام بالدائنين الأوربيين، إنجلترا وفرنسا، إلا خطوة على طريق الإقصاء، إذ أصدر السلطان في إستنابول قرار عزله في عام 1879، ولما علم جوردون أن إسماعيل تم عزله قام على الفور بتقديم استقالته، الأمر الَّذي بدا إعلاناً لتراجع الدور المصري العسكري في السودان، وربما انتهائه؛ إذ نهضت الحركة المهدية معلنة عن نفسها كحركة دينية ثورية هدفها إعادة صوغ الوعي الديني وتصحيح الأوضاع بالتصدي للفساد الفقهي الَّذي جاء به الغزو العثماني، ومن ثم التصدي، كذلك، للوجود الأجنبي وبصفة خاصة في الشمال.
وبتولي توفيق باشا الحكم (1879-1892) بعد إقالة إسماعيل، زادت حرية التجارة؛ إذ تم إلغاء العديد من الضرائب والرسوم، كما تم في عام 1890 توقيع اتفاقية للتجارة الحرة. ولكن، هذه الحرية لم تكن لصالح مصر ولم يستفد منها المجتمع، إذ حينما تولى توفيق باشا كانت مصر تحت المراقبة المالية، وخزائنها خاوية، والنفوذ الأوروبي يزداد يوماً بعد آخر، والأجانب يتميزون عن المصريين في كل شيء وبصفة خاصة في الجيش. الأمر الذي تسبب في ثورة عرابي، التي اتخذتها بريطانيا ذريعة لاحتلال مصر. ومع الاحتلال البريطاني تم ربط مصر، سياسياً واقتصادياً، بالاقتصاد البريطاني الاستعماري/ الصناعي. وصارت زراعة الأرض مرتبطة بما تحتاجه الأسواق البريطانية، ومن ثم السوق الدولية، وبصفة خاصة ما تحتاجه من محصول القطن، وهو الأمر الذي تأكد حينما تولى الخديو عباس حلمي الثاني (1892-1914) فقد تم توسيع الاهتمام بالزراعة فزادت مساحة الأطيان الزراعية من 5 ملايين فدان إلى 7 ملايين، وكانت الأراضي التي تزرع قطناً نحو900 ألف فدان فصارت مليون ونصف المليون فدان، وكانت غلة القطن سنة 1891 نحو 4 مليون و600 ألف قنطار فصارت 7 ملايين قنطار. كما تم إنشاء مدرسة الزراعة، وإنشاء المعارض الزراعية وتكونت الشركات الزراعية والبنك الزراعي والنقابات الزراعية. وكانت قناطر أسيوط وخزان أسوان من أهم مشروعات الري في تلك الفترة(22)
بيد أن كل تلك الطفرات كانت في إطار من هيمنة الأجانب على مساحات كبيرة جداً من الأرض؛ فإذا كانت ملكيات المصريين للأرض تقسم عادة بين صغيرة ومتوسطة وكبيرة فإن ملكية الأجانب كانت كبيرة جداً دائمة، سواء على مستوى الأفراد أو الشركات؛ ففي سنة 1919 بلغت نسبة الملكيات الكبيرة للأجانب 92,9% من مجموع الملكيات الأجنبية، و93,0% فى عام 1929، و91,2% في عام 1931 ثم وصلت إلى 90,9% في عام 1949، مع الأخذ في الاعتبار أن حجم ملكية الأجانب كان يتأثر ارتفاعاً أو انخفاضاً بالوضع السياسي في البلاد، ففي أعقاب معاهدة 1936 وإلغاء الامتيازات الأجنبية في 1937 بمعاهدة مونتريه، انخفضت نسبة ملكياتهم انخفاضاً كبيراً إلى حوالي70,000 فداناً، وإلى 10,000 فداناً في عامي 1948/1949 كما أن قانون الشركات الذي صدر في 1947 حد من نشاط الأجانب في امتلاك الأراض(23). ولسوف تشهد الفترة التالية لقيام ثورة يوليو في عام 1952، ليس الحد فقط من نشاط الأجانب وإنما كذلك خروجهم من البلاد، ويمكن أن نرى الفترة التالية على مرحلتين: الأولى: من 1952-1956، وكانت أغلبية المشروعات رأسمالية فردية، وبصفة خاصة في مجال الصناعة، وفي ظل تشجيع مبادرة الرأسمال الفردي، المصري والأجنبي، من قبل الحكومة، عزفت الأخيرة عن التدخل في الحياة الاقتصادية، ولم تمارس سوى الدور الرقابي على الاقتصاد القومي في مجموعه. أما المرحلة الثانية، من بعد عام 1956 فقد قامت الثورة بحركة تأميم شاملة للأراضي والمصانع والمنشأت والوكالات التجارية، في سبيل إعادة هيكلة الاقتصاد القومي على نحو صناعي؛ من أجل بناء اقتصاد مستقل، وإنما أيضاً في إطار السوق الرأسمالية العالمية. وأتصور أن هذه المحاولة، أي محاولة إعادة هيكلة الاقتصاد القومي المستقل والمعتمد على الذات، وإن كانت في إطار النظام الرأسمالي الَّذي تغلغل في المجتمع المصري، كان يوجد لها تمهيد ابتداءً من العشرينات بدءً بقيام بنك مصر، مع نهضة في الروح الوطنية، بإنشاء مجموعة من الشركات المصرية، تساهم فيها رساميل مصرية، منها: شركة مطبعة مصر1922، وشركة مصر لحليج الأقطان 1924، وشركة مصر للنقل والملاحة النهرية 1925، وشركة مصر لغزل ونسج القطن بالمحلة الكبرى 1927، وشركة مصر للكتان 1927، وشركة مصر لتصدير الأقطان 1930، وشركة مصر للطيران 1932، وشركة مصر للتأمين 1934، وشركة مصر للسياحة 1934، وشركة مصر للملاحة البحرية 1934، وشركة مصر لصناعة وتجارة الزيوت 1937، وشركة مصر لصناعة الأسمنت 1938، وشركة مصر للحرير الصناعي 1947.(24)
ولم يقتصر الأمر على بنك مصر، إذ حتى هذه الفترة لم يزل الأجانب، ولم يزل الرأسمال الأجنبي يهيمنا على العملية الإنتاجية في مصر، وبصفة خاصة على ما يتعلق بهذه العملية من نشاط اقتصادي في مجال الزراعة، وإنما تعدى ذلك إلى المطالبات المستمرة من قبل مجلس النواب بشراء الأراضي الَّتي يمتلكها الأجانب وتوزيعها على صغار الفلاحين بأسعار تقسط على آجال طويلة وبفائدة مخفضة.
وفي مارس 1948 أثير نفس الموضوع في مجلس النواب، حيث كانت المطالبة باستيلاء الحكومة على الأراضي بتحريم تملك الأجانب للأراضي الزراعية في مصر، ويضاف إلى ذلك مشروع القانون الذي تقدم به عضو مجلس الشيوخ عبد الرحمن الرافعي في شهر ديسمبر 1948وطالب فيه بجعل ملكية الأراضي للمصريين دون الأجانب.
عليه، يمكننا تحديد الخطوط العريضة الَّتي تحدد اتجاه الاقتصاد، بل والمجتمع، وخصائصهما الجوهرية خلال الفترة من الخمسينات إلى أوائل السبعينات من القرن العشرين كما يلي:
1- تم تحويل وسائل الإنتاج من ملكية فردية إلى ملكية الدولة عن طريق التمصير، وسلسلة التأميمات.
2- سيطرة الدولة على الصناعة والخدمات. فعلى الرغم من الحروب الَّتي دخلتها مصر في هذه الفترة وتوتر العلاقات مع الإمبريالية العالمية ممثلة في إنجلترا وفرنسا، مع وضع العراقيل أمام الاقتصاد المصري، فقد تم التوسع في البناء الصناعي، من خلال حركة تصنيع شاملة، وتمكنت المصانع المصرية من أن تنتج، ولأول مرة: السيارات وعربات السكك الحديد واسطوانات الغاز ومواقد وأفران وسخانات البوتاجاز ومحركات الديزل وماكينات الخياطة بأنواعها والدراجات والأسمنت الأبيض والدفايات والتليفزيونات والراديوهات وإطارات السيارات والأدوات واللوازم المنزلية. مع الأخذ في الاعتبار أن الاقتصاد تمكن من تحقيق الفائض، ومن ثم تصدير العديد من السلع منها: غزل القطن والأقمشة القطنية والأقمشة الصوفية والبصل المجفف والثوم المجفف والخضروات المجففة، والجمبري المجمد والسردين المعلب والنبيذ والسكر والنفط والأثاثات الخشبية والأحذية والأسمنت والإطارات وخام المنجنيز.
3- كان من أبرز الملامح فى خريطة توزيع الملكية الزراعية عشية 23 يوليو1952، التركيز الشديد في ملكية الأرض الزراعية، والتزايد المستمر والسريع في عدد صغار الملاك الزراعيين بالنسبة لرقعة الأرض الزراعية، فحوالي 0,4% من ملاك الأراضي الزراعية يملكون 34,2% من المساحة المزروعة في مقابل 72% منهم يملكون 13,1% من هذه الأراضي ويوجد من جهة ثانية حوالي 11 مليون مواطن معدم في الريف. وقد كان الفشل حليف جميع المحاولات المتعددة من قبل القوى الاجتماعية لإحداث التعديل في خريطة توزيع الملكية في الريف المصري قبل 1952، فقد أعلنت البورجوازية الحاكمة مراراً رفضها التام لأي تقيد للملكية الزراعية. وهو الإجراء الذي اتخذته حكومة الثورة، وقامت بإعادة توزيع نحو مليون فدان لصالح صغار الفلاحين مما أدى إلى توسيع قاعدة الملكية الصغيرة، في مرحلة أولى، ثم تفتيتها، في مرحلة ثانية، ثم تركيزها في مرحلة ثالثة، حينما ابتلعت الملكيات الكبيرة الملكيات القزمية(25).
4- ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي من 137,9 مليون جنيه (1952) إلى 545,8 مليون جنيه (1975)
5- زيادة الوزن النسبي للصناعة من 15% (1952) إلى 22% (1970) من الهيكل الاقتصادي.
6- ارتفاع نصيب الصناعات الاستهلاكية من إجمالي ناتج القطاع الصناعي الفردي إلى 86,1% عام 1972.
7- ارتفاع الناتج المحلي لقطاع الصناعة التحويلية من 213,3 مليون جنيه (1954) إلى 439,2 مليون جنيه (1975) وبصفة خاصة في مجال صناعات التبغ، والغزل والنسيج، والملابس الجاهزة، والورق، والمنتجات المعدنية، والماكينات، ووسائل النقل.
8- زيادة الصادرات من السلع نصف المصنعة والسلع تامة الصنع.
9- اتجاه قيمة صادرات القطن نحو الانخفاض من 82% (1959) إلى 75,1% (1970).
10- زيادة المساحة المزروعة من المحاصيل النقدية، مثل الفاكهة والخضروات، للتصدير. وهي العملية الَّتي احتكرها أغنياء الفلاحين؛ إذ تحتاج هذه المزروعات إلى تكاليف مرتفعة وحيازات أكبر.
11- انخفاض نسبة العاملين بالزراعة، على الرغم من الإصلاح الزراعي، من 58,4% (1947) إلى 46,6 (1974).
12- انخفاض القدرة الاستيعابية للقطاع الزراعي من 43,8% (1947) إلى 9,2% (1966).
13- ارتفاع القدرة الاستيعابية للقطاع الصناعي من 20,8% (1947) إلى 50,4 (1966).
14- اتجاه قوة العمل نحو قطاع الخدمات من 32,3% (1959) إلى 36,8 (1974).
(15)
ومع بدايات فترة السبعينات وازدياد العجز في الميزان التجاري من 78,6 مليون جنيه (1952) إلى 875,2 مليون جنيه (1977)، يأخذ الاقتصاد اتجاها مختلفاً نسبياً، نحو الانفتاح، فلقد شهدت حقبة السبعينات تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي، والَّتي بدت بمثابة إعادة تشكيل البنية الاجتماعية على نحو جديد، وأهم ما ميز هذه الحقبة أمرين: الأول: هو ذلك التسرب السافر للقيمة الزائدة المنتجة بفضل سواعد الشغيلة في مصر، من خلال التكون الواضح للرأسمالية الطفيلية، كطبقة ناشطة في حقل الاستهلاك، والاستيراد، دونما أي انشغال بحقل الإنتاج. ووفقاً لتصورنا عن ظاهرة تجديد إنتاج التخلف، يمكننا القول أن هذه الفترة شهدت النموذج الواضح بل الفاضح لظاهرة تسرب القيمة الزائدة إلى خارج الاقتصاد القومي من أجل شراء السلع والخدمات الاستهلاكية المنتجة في الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي العالمي. أما الأمر الثاني الَّذي تميزت به حقبة السبعينات، فهو: مساندة النظام السياسي لهذه الطبقة الرأسمالية الطفيلية، الأمر الذي أدى إلى انتشار التوكيلات التجارية الأجنبية الَّتي ساعدت التشريعات على ظهورها وانتشارها. هنا نجد ظاهرة ممارسة كبار العاملين، وكبار رجال الدولة لـ"بيزنس" ضخم من خلال هذه التوكيلات إما باسمائهم أو باسماء أبنائهم وزوجاتهم، وهو الأمر الذي أدى إلى نتائج كارثية على البنية الاجتماعية، فلقد سادت ثقافة الكسب السريع، غير المشروع، والإثراء الفاحش، وبالتبع سيادة أنماط الاستهلاك البذخي، في الوقت نفسه تدهورت مستويات المعيشة، وازداد الاستقطاب الاجتماعي، وتدهورت بالتالي القوة الشرائية للأجور، مما قاد إلى إحباط اجتماعي، وبصفة خاصة بين صفوف الشباب؛ فصار الشباب بين أمرين: إما أن يسلك سلوكاً انسحابياً تجاه المجتمع، والمخدرات بأنواعها كانت تتمتع بالوفرة النسبية، أو يندمج في جماعات التمرد والعنف، بحثاً عن الخلاص من سراب البحث في معنى الحياة والهدف منها!(26)
وعلى وجه الإجمال يمكن أن نميز بين بنيتين اجتماعيتين، الأولى في الريف، والثانية في الحضر، أما الأولى فهي تشمل كلاً من: أغنياء الفلاحين، ومتوسطي الفلاحين، والشرائح الوسطى من الإداريين والفنيين، وصغار الحائزين، والعمال الأجراء، وفقراء الفلاحين. أما الثانية فتشمل كلاً من: الرأسمالية المحلية في القطاع الخاص، والبيروقراطية، والمواقع الوسطي، والعمال الأجراء، وفقراء الحضر.(27) وكتب د. فؤاد مرسي:
"الصورة المألوفة والمعروفة للاستثمارات الأجنبية هي صورة تصدير الرأسمال من بلد رأسمالي متقدم إلى بلد متخلف، حيث يستثمر في مشروعات استخراج أو إنتاج لخامات معدنية أو زراعية، توضع في خدمتها بعض المرافق الأخرى الضرورية لاستخراجها أو إنتاجها كالبنوك والطرق والمواصلات على أن يتم تصدير الخامات إلى البلد الرأسمالي المتقدم حيث يعاد تشكيلها بالصناعة إلى منتجات تبلغ قيمتها أضعاف قيمة الخامات، وعندئذ يترك للبلد المتخلف أن يشتري من الخارج بدخله الضئيل الناتج من بيع خاماته قليلاً من المنتجات الصناعية المستوردة. إن التصنيع يتم عندئذ بشكل ناقص، فالرأسمالية العالمية إنما تريد في الواقع أن تتخلى لأسباب اقتصادية عن بعض الصناعات الثانوية غير الديناميكية، إما لأنه بسيطة تكنولوجياً، وإما لأنها تحتاج إلى أيد عاملة وفيرة، وإما لأنها صناعات تلوث البيئة، فقد ثبت مثلاً أن تكلفة القضاء على التلوث أعلى من تكلفة استيراد منتجات تلك الصناعات الملوثة للبيئة، من هنا تقبل الرأسمالية العالمية أن تنقل إلى البلدان النامية صناعات مثل السيارات وبعض الصناعات البتروكيمائية، بالإضافة إلى صناعة المنسوجات والملابس والصناعات الجلدية".(28)
(16)
ومع الثمانينات لن يتغير الأمر كثيراً. ويتعين أن ننتظر على الأقل نحو العشرين عاماً كي يمكننا أن نرى التبلور شبه الكامل لعلاقات الصراع والتواطؤ على صعيد السلطة/ الرأسمال. وهي الظاهرة التي تميزت بها حقبة الرئيس السابق محمد حسني مبارك. إذ في نفس الوقت الَّذي شهد التواطؤ السافر بين السلطة والرأسمال، كان هناك صراع مواز بين نفس الخصوم. والآن، في 2015، يمكن النظر إلى المجتمع المصري، على صعيد العملية الإنتاجية، كفلاحين، وعمال، وموظفين، وجنرالات، ورأسماليين، وفي داخل كل طبقة من هذه الطبقات نستطيع أن نميز بين شرائح وفئات مختلفة؛ فطبقة الفلاحين توجد بداخلها شرائح تمثل كبار ملّاك الأراضي، والطبقة الريعية، الذي عملت على تفتيتها ثورة يوليو في العام 1952، وشرائح أخرى تتمثل في صغار الملاك، والمزارعين الأجراء. دون إغفال المعدمين. وبداخل طبقة العمال نجد عمال النفط كفئات ذات امتياز نسبي، إلى جوار عمال المصانع وعمال اليومية المسحوقين، وبداخل الطبقة الرأسمالية نميز أيضاً بين الرأسمالية الصناعية والرأسمالية التجارية والرأسمالية المالية، وبداخل الموظفين نجد كبار رجال الحكومة كما نجد الموظفين تحت خط الفقر. أما الجنرالات والجيش فيمكن ملاحظة أن القوات المسلحة المصرية لا تعد قوات حرفية، بمعنى أن الأغلبية الساحقة، والَّتي تمثل القاعدة، هي أغلبية مجندة، أي تم إلحاقها إجبارياً بالخدمة العسكرية. وهو الأمر الذي يعني من جهة ثانية: أن تلك القاعدة، المجندة إجبارياً، إنما تمثل في واقعها الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب على اختلاف مهنهم وبيئاتهم، إذ هناك الحداد، والنجار، والمحامي، والطبيب، والمهندس، والشماس، وإمام الجامع...، إلخ. وهو الأمر الذي يؤدى من جهة ثالثة: إلى أهمية إعادة النظر إلى القوات المسلحة على أساس انقسامها إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول: قاعدة عريضة جداً تضم مختلف فئات الشعب، أما القسم الثاني: نخبة من الجنرالات، تمثل القمة، وترتبط مصالحها بالرأسمالية العالمية، بعد انخراط تلك النخبة من الجنرالات (كمؤسسة) في عالم الأعمال الدولي (البيزنس) ابتداءً من المشير أبو غزالة الَّذي أنشأ شركة لتوريد المعدات العسكرية للقوات المسلحة المصرية، وشركة أخرى لتوريد المعدات غير العسكرية. كما توجد شريحة وسطى بين القاعدة وبين القمة، وهي التي يتم الدفع بها نحو الحصول على مؤهلات علمية أعلى في تخصصات مختلفة كي يتم إلحاقها بمختلف مؤسسات ومرافق وهيئات ومصالح الدولة، بما يضمن ولاء تلك الشريحة، من جهة، وإحكام السيطرة على الدولة، بوضع مسامير القوات المسلحة في جميع قطاعات الحكومة، من جهة ثانية. ولم يزل الجرح نازفاً، ولم تزل شرايين مصر مفتوحة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - شكرا على المقال الدسم
محمود يوسف بكير
(
2020 / 2 / 14 - 19:43
)
أشكرك د. محمد عادل زكي على الجهد الكبير في اعداد هذا المقال . مع أطيب تحياتي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز