الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين صبح الخبز تجارة !

الفرفار العياشي
كاتب و استاذ علم الاجتماع جامعة ابن زهر اكادير المغرب

(Elfarfar Elayachi)

2020 / 2 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حين يصبح الخبز تجارة !
مساء اليوم في حديث مسائي مع احد الاصدقاء , نقاش حول التحولات المتسارعة و سؤال الهوية , الحديث كان عميقا لدرجة البساطة .
الحديث لم يكن منصبا على المؤشرات و الواقعة, وإنما حول منطق التحولات الطارئة على هوية الإنسان المغربي .
في خضم النقاش, صرح صديقي وهو يتحدث عن مرحلة في طور التلاشي , يتعلق الامر بموضوع القيم الاجتماعية الصلبة التي عشنا بها و عشنا عليها و كنا نعيش من اجلها.
قال, بصوت عميق انه يتذكر طقوس وجبة الفطور في الصباح, و كيف كانت الأم تجلس و أمامها صينية فضية و بها إبريقان, احدهما مملوء بالحليب و الأخر بالقهوة السوداء رائحتها تشم في كل ارجاء البيت, لان إعدادها يستغرق أكثر من نصف ساعة , و بالقرب منها طبق خبز مغطى, وصحن زيت و الكثير من الحب و التقدير.
القاعدة الذهبية التي كانت تؤطر وجبة الفطور: " عدم أكل خبز اليوم إلا بعد أكل البارحة " ؟
" مايتكال خبز اليوم حتى يتكال الخبز البايت "حكاية تعكس منطق القيم الاجتماعية و ترسخ الحكامة التدبيرية و الحرص على عدم التبذير و تقدير مجهوذات الآخرين و اعتبار الخبز رمز الحياة الكريمة من خلال :
1- لا شئ ينبغي ان يضيع !
2- من عيب رمي الخبز في القمامة !
3- الخبز ليس شيئا عاديا , انه نعمة من الله يجب الحفاظ عليها !
فاحترام الخبز يكشف طبيعة القيم الاجتماعية التي عاش عليها جزء كبير من المغاربة, و لو حدث اثناء الأكل ان سقط جزء من الخبز على الارض يتم التقاطه بسرعة و تقبيله مع دعاء من الله بالسماح على عدم تقدير النعمة.
السبب في تقديس الخبز و احترامه هو ان عملية إنتاجه و الحصول عليه كانت عملية صعبة و معقدة, و كانت الامر هي المسؤولة الاولى على انتاج خبز عبر مسلسل عمليات دقيقة و معقدة و مؤسسة على تقسيم العمل , حيت الأب يتكفل بإحضار القمح و الشعير و الكمون و العدس خلال فصل الصيف , ما يسمى "بمونة العام " , هنا ينتهي دور الاب ليبدأ دور الام عبر غسل الحبوب و تجفيفها ثم التنقية و التخزيين و الطحن و الغربلة تم العجين واخيرا عملية الخبز, تنظيم طريقة الاستهلاك و في حالة وجود فائض فوجية في نهاية الاسبوع يتم فيها تحويل الفائض من الخبز الى وجبة لذيذة .
الام هي المكلفة بنمط استهلالك الخبز, و هو ما يقود الى استنتاج اساسي حرصها الشديد على اكل الخبز البايت, و عدم بيعه او حتى رميه مع النفايات المنزلية.
تقدير الخبز في المنظومة القيمية التي حكى عنها صديقي تعكس تقدير جهد الاب و جهد الام . فكانت النتيجة الاساسية ان الخبز كان لا يضيع و لا يتحول الى نفايات , و انما ما يتم التعامل معه انه بركة ورزق من الله .
اليوم , مقارقة حادة , الخبر اصبح سلعة يشترى من اقرب متجر, لا احد يعرف مسار انتاجه و لا اين عجن و كيف عجن , مما يولد علاقة باردة معه و النتيجة كم كبير من فائض الاستهلاك , مما يقود الى انتاج اكوام من الخبز و الذي و جد السماسرة فيه فرصة للاغتناء عبر جمعه و بيعه كعلف للماشية !
ربما الفرق بين قيم الماضي و الحاضر, ان الخبز البائت كان لا يباع لانه مقدس و يحمل بركة الام و الاب, حتى ان "الطبيقة او الطبق المصنوع من القصب " التي كان يوضع فيه الخبز كانت ملونة و جميلة احتفاء بمصدر العيش الاساسي , اما اليوم فقد أصبح الخبز البايث من نصيب البهائم و البقر !
بغض النظر عن تبعات جعل الخبز اليابس مواد للعلف و نتائجها البيولوجية على حيوان عاشب , من خلال تحويل نظامه الغذائي و طبيعة هذا الخبز الذي اصبح يتضمن مواد كيمائية مما يساهم في بروز مواد سامة من نوع mycotoxine من شان ذلك الاضرار بصحة المواطن و صحة البهائم.
ان تصر إلام على احترام الخبز, هو حرص على احترام القيم الصلبة و التي ساهمت في بناء شخصية صلبة تحترم قيمها, و تدافع عنها بحرارة و ربما بشراسة, هي قيم يتم انتاجها و العمل على استدامتها عبر مؤسسة الام المدرسة الاولى. و يستمر مسال الانتاج و التكامل في وظيفة الانتاج داخل المؤسسات الحاضنة لها,و المسؤولة عنها كمؤسسات قوية و فاعلة و لها تاثير و مفعول على سلوك الافراد, فالاسرة و المدرسة و الحي و الدوار و الجماعة و القبيلة والعائلة كلها اطارات لبناء هوية تحترم المشترك الجمعي و تحافظ على القيم الاجتماعية و الاخلاقية كاطار للسلوك الجمعي, و هو ما انتج جيلا صلبا قويا , متحكم في جسده و في لباسه و حتى في عواطفه و قيمه و وطنه و ارضه .
اما التفريط في الخبز, جعله مجرد مادة تباع الى جانب الصابون و الشمبوان و العطر و ادوات الحلاقة و الايس كريم و غيرها من المواد الاستهلاكية فهو مؤشر على انهيار الهوية الصلبة, و استبدالها بهوية هجينة تصنع هناك و في مكان ما , وان شئنا التدقيق في اللامكان , انها هوية سائلة و ذائبة تنتج الكثير من السلوكات الرخوة مظاهرها تتجسد في انماط سلوكية غريبة تغزو شوارعنا و احيائنا مثل نوع اللباس و كيفية اللباس و نوع الحلاقة و كيفية الكلام ونوع الكلام و اشكال التواصل و الحوار و العلاقة مع المحيط و الاسرة, حتى العاطفة اصبحت عاطفة سيالة و رخوة , نسبة الطلاق عند الشباب كبيرة مما يعكس انه شباب بهوية سيالةوسائلة .
العولمة اخرجتنا من هويتنا الصلبة المسيجة بالاعراف و التقاليد و القيم المتوارثة واستطاعت ان تصنع لنا هوية سائلة جعلت من الخبز سلعة . فالهوية البديلة و السائلة هي عملية تذويب الثقافة المحلية و اعدامها من خلال تشجيع منطق الاستهلاك, عبر تكوين تقافة استهلاكية عالمية أحادية المصدر، جارفة، لا تبالي بتنوع القيم و لا باختلاف العادات و التقاليد تهدف الى هندسة مجتمعات مقولبة و سائلة بلا اصل و بلا تاريخ.
هي ثقافة تعادي كل من يقف امام الاستهلاك, لان العولمة نجحت في ربط اللذة و السعادة بالاستهلاك, فسعادتك رهينة بما تستهلكه لذا لا نفاجى ان المتاجر الفاخرة بواجهاتها الزجاجية تتكاثر, فالسعادة تعني القدرة على الاستهلاك و النتيجة تراكم الازبال لاننا نشتري اكثر مما نستهلك , فاصبحنا عاجزين حتى عن تدبير وجمع ازالنا ليس لان عمال النظافة لا يقومون بمهاهم و لكن لاننا ننتج الكثير من الازبال !
الاكيد ان العولمة نجحت في ترسيخ منطق الربح , و النتيجة ان الخبز الذي كان يعني بركة الام و مجهود الاب تحول الى مجرد سلعة يباع في المتاجر صباحا و يباع كخبز جاف لسماسرة العلف مساءا .
منطق العولمة , لا يهتم بالبعد الثاقي الذي يمثله الخبز في موروثنا القيمي و الثقافي و لا يميز بين البطبوط و المسمن و الشيار و الكرون و الملوي , الغرير , الرغايف, المحراش,البلبول, الشفنج , خبز الملة, و انما يهتم بالربح و لاشئ غير الربح .
تقافتنا كانت تحترم الخبز و تقدسه لانها تقافة مسؤولة و تقدر الجهد المبذول لانتاجه , فكان الخبز مرتبط بصدرالام و حنانها, هو ما عبر عنه محمود درويش في قصيدته الرائعة, احن الى خبز أمي !
وحتى وان بقي بعض الخبز, فالأمر يعني وجبة لذيدة, تصنع في نهاية الأسبوع و تسمة تردة, حيت يتم إعدادها من الخبز المتبقي مع العدس .
اما العولمة فقد جعلت الخبز سلعة يقدم ساخنا للإنسان و جافا للحيوان , المهم ان يستمر الربح و لو على حساب هويتنا و قيمنا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة