الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خيانة الكلمات

وائل المبيض

2020 / 2 / 28
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هل خانتك الكلمات يوما، في ذروة إحتياجك لها، لتعبر بها عن رأي ما أو حب ما، أو لتصف ظروف معقدة تعيشها !

باديء ذي بدء،

عرف الإنسان قديما بأنه حيوان ناطق، وهو نعت يضفي صفة أسبقية اللغة على الإنسان، والتي من طبيعتها تعددية الخدمات وتنوع الوظائف، فتارة تفيد التبليغ وتارة تفيد التعبير عما يختلج الذات من أحاسيس وأفكار، بما هي وسيلة توصيل المعنى المدخر في الفكر، فاللغة حسب هيغل هي التي تعطي الفكر وجوده الأسمى.

ففي كثير من الأحيان، تنتاب المرء أفكار وأحاسيس ولكن المفاجأة هي أننا نعجز عن إيجاد التعبير المناسب لها،كما يقول برغسون:"اننا نمتلك أفكارا أكثر مما نمتلك من أصوات"؛ من هذا المنطلق انبرى العديد من أهل الإختصاص"فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات" لبيان الشكل الحقيقي للعلاقة التشابكية بين الفكر واللغة منذ أفلاطون قديما؛ وتمحور السؤال كالتالي : هل يمكن للأفكار أن تتواجد بمعزل عن اللغة ! هذا يعيدنا إلى إشكالية أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة !

::

من المعلوم أن تعالقية الفكر واللغة كوجهان لعملة واحدة، من الثوابت في فلسفة اللغة، فاللغة بمثابة الوعاء الحامل للفكر، ليتحول من حيز الكتمان إلى حيز التصريح ؛ فالفكر بحاجة اللغة كحاجة السمكة للماء.يقول ستالين:"مهما كانت الأفكار التي تجيء إلى فكر الإنسان، فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلى على مادة اللغة". كما أرسطو أيضا:"ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية".

بيد ان الإشكالية في تعذر التعبير تكمن في ابتداء الفكر بخيانة اللغة، بمعنى أن خيانة الفكر للغة تكون قبل خيانة اللغة للفكر، فكيفما يكون مضمون الأفكار تطاوعه اللغة في التعبير عنها كشكل لغوي يحدد ثباته"الفكر"وليس اللغة. اللغة لا تستطيع تحديد الأفكار التي تعبر عنها، بينما الفكر بالضرورة هو من يحدد شكل اللغة في التعبير عن مضمون الأفكار.

في حين تكون اللغة محل عجز وإتهام وتقصير عندما تعجز عن كل تعبير عميق غير سطحي، لذلك فدائما ما تكون الأفكار الجوهرية الجديرة بالإهتمام غائبة عن التداول اللغوي الذي ينجذب نحو السهل في استهلاك المعنى،وهذا ما حدث مع سقراط.
وأعتقد أن هذا أيضا سبب إختفاء الفلاسفة منذ زمن، فنحن أمام أساتذة كبار أو فلاسفة بدون أنساق وأفاهيم لأسباب عدة : أهمها اللغة.

من هنا تتبدى لنا قيمة "فليقل خيرا أو ليصمت"؛
يكون الصمت هنا بمثابة الفكر الفائض المختزن الذي تراه موجودا في عقلك ولا تستطيع التعبير عنه في اللغة الكلامية، لذلك يلجأ البعض إلى وسائل بديلة للتعبير اللغوي كالرسم و الموسيقى؛ وهذا ما أكده برغسون:"اللغة عاجزة عن مجاراة الفكر".

يؤكد فنجشتين ذلك ويرى أن الحل الأمثل لهذه الإشكالية يتمثل في سياسة الهرب إلى الأمام، وبذلك نتدارك هفوات اللغة وعدم قدرتها على التعبير الملائم وعدم ايفائها باعطاء كل مدخرات الفكر للغة المراد التعبير عنها، فيقول :" أي شيء لايستطيع الإنسان التعبير عنه، فعليه أن يبقى صامتا".
مع مراعاة ان اعتماد الصمت " اذا كان الكلام من ذهب فالسكوت من فضة" في حياتنا ليس عجزا في تعبير اللغة، انما هو ارجاء مقصود لما يدخره الفكر من معنى فائض لا تدركه اللغة لأول مرة؛ بحيث يكون الصمت ناتج عن تضاد التفكير العميق مع سطحية اللغة؛ خير مثال على ذلك عبارة المتصوفة:"كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"، تدلل على التضاد المستمر بين الفكر ولغة التعبير.

مما سبق يتبين لنا انه ليس بمقدور اللغة دائما ان تعبر عن أفكارنا العبقرية بالشكل الذي يكون فيه الفكر منتشيا بالرضا حيال ذلك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات دفاعية في أوكرانيا تحسبا لهجوم روسي واسع النطاق


.. مدير وكالة المخابرات الأميركية في القاهرة لتحريك ملف محادثات




.. أمريكا.. مظاهرة خارج جامعة The New School في نيويورك لدعم ال


.. إطلاق نار خلال تمشيط قوات الاحتلال محيط المنزل المحاصر في طو




.. الصحفيون في قطاع غزة.. شهود على الحرب وضحايا لها