الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر - القسم الثاني - اللغة و الحقيقة

عادل عبدالله

2020 / 3 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



أشّرنا في القسم الأول من هذه الدراسة، على الحدود الإبداعية لكلٍ من، الشاعر و المفكّر و الناقد الأدبي، لجهة بلوغ نتيجةٍ مفادها، أنّ أدونيس كان أن تعامل في مؤلفاته النثرية مع موضوعات فكرية، لكن بوصفها ناقداً أدبياً و ليس مفكّراً، كما يقتضي البحثُ المثمر ذلك.
في هذا القسم، سنعمل على إثبات ما كنا افترضناه من خلال إتخاذ بحثه " اللغة و الحقيقة " المنشور ضمن كتابه " النص القرآني و آفاق الكتابة " و كالتالي.
حين يكون عنوان بحثٍ ما " اللغة و الحقيقة " فلن يكون ذهنُ القاريء المتخصص مخطئاً في استحضاره، وبايحاء من العنوان نفسه، ذلك العدد المحدد من الدراسات والاعمال الشبيهة التي تحمل العنوان نفسه، قريبةً منه او متجاورة. ذلك لأنّ اللغة ، والحقيقة، هما من المفاهيم الكبرى، والموضوعات العصيّة الخاصة التي تمّ لنخبة من المفكرين مغامرة الخوض و البحث في علاقاتها، و ما تستدعيه تداعيات محتوياتهما، سواء ا كان الببحث خاصاً بأحد طرفي هذه العلاقة - اللغة والحقيقة - أم كان جامعاً لهما كاشفاً عن طبيعة العلاقة القائمة بين المفهومين وأثر كلٍّ منهما في الآخر.
من هنا، سيكون لزاما علينا ان نستذكر مبحثي هيدجر المدهشين ، جقيقة اللغة ، المبحث العميق الذي ينتهي الى النتيجة الرائعة التي تعرّفُ ماهية اللغة بانها ( لغة الماهية ) بعد رحلة معرفية عميقة لا نملك عميقة إلاّ قبولها مع هيدجر.
مثلما كان علينا ان نستذكر ايضا مبحثه الاخر الممتع ( ماهية الحقيقة ) وتحولات مفهومها من هيرقلليطس الى افلاطون وصولاً لمفهومه الخاص عنها، المفهوم الذي يعرّفنا عليه بوصفه إنارة الوجود او لا تحجّبه .
كان علينا ان نستذكر بحثوث (فتنشتاين) الوضعيّة في اللغة ونظريته الكبيرة ( language Game) . أنْ نستحضر عمل ( آير ) الرصين ( language , Truth & Logic) ، اللغة والحقيقة والمنطق ثم نستحضر في الوقت ذاته اعمال ومعالجات ميرلوبونتي ، سوسير، فوكو، راسل ، تارسكي في تفريقه بين ، اللغة ( language ) و ( Meta Language ) ما بعد اللغة او ما وراءها، وما علاقة كل منهما بمفهوم الحقيقة، ثم نستذكر قبل ذلك كله عبارات ( كانت ) التي استهل بها احد فصول كتابه ( نقد العقل الخالص ) العبارات التي توجز قيمة الحقيقة كمبحث من حيث علاقتها بالفلاسفة، يقول كانت - ان السؤال القديم الذي كان يتوخى الناس بطرحه حشر المناطقة في الزاوية الضيقة ومن ثم ارغامهم، إمّا على اللجوء الى مغالطات تثير الشفقة أو الى الاقرار بجهلهم ومن ثم بطلان كامل فهمه هو: ما هي الحقيقة ؟
ربّما كان لزاماً علينا أيضاً، أنْ تعرّف على رأي آخر الفلاسفة المعاصرين، أعني " ريتشارد رورتي " و هو يبحث في علاقة المفهوين مؤسساً دعامته الفلسفية البراغماتيه على نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهما.
اذن فقد كان لزاماً علينا أنْ نضع تلك البحوث المثيرة كلها، و ربّما الكثير سواها، مما يعالج الصلة بين المفهومين، حاضرا في الذهن، عندما يحالفنا الحظ في الاطلاع على بحث جديد يخصّ الموضوع ذاته، على الأخص إنّ كان هذا البحث الجديد ممهورا بتوقيع شاعر عربي كبير له باعه الطويل في التنظير والكتابة.
لكن، والسؤال هنا بعد الفراغ من قراءة نص أدونيس، هل حدث شيء من كل هذا الذي تم لنا ذكره؟ أعني، هل مسّ أدونيس في معالجته لمفهوم اللغة والحقيقة أيّاً من تلك الموضوعات التي سبق لاولئك المفكرين العظام ذكرها ؟ هل ذكَرنا باحد منهم؟ هل تعرض بالنقد لأحدهم أو حاوره في عبارة له، متفقاً أو مخالفا عندما كان يتحدث لنا عن الموضوع نفسه؟ هل استعاد أو وظّف فكرة ما من أفكارهم ؟، هل تمثّل موقفاً لإحدهم أو أشار اليه؟
ثم ، و هذا هو الأكثر أهمية، هل كان مبحث أدونيس في اللغة والحقيقة مبحثا فكريا رصيناً يتناول مفهومي اللغة والحقيقة من وجهة نظرٍ فكرية كما يفترض المفهومان مثل هذا السياق؟ أم كان له منهج خاص في بحثه؟
لا أعتقد أنّ أحد كان قد اطلع بعمق على بحث أدونيس قيد الدرس يمكنه أن يذهب الى مثل هذا الرأي او يدّعي حدوثه، حتى و إنّ كان هذا الأحد - غير المعرّف – هو أدونيس نفسه.
اذن فقد تعامل أدونيس - وهذا هو الذي اريد قوله - مع موضوع اللغة والحقيقة في اطارٍ و ميدان وصيغة غير فكرية في جوهرها، بل كان يسعى بارادة منه - واعية وغير واعية - الى الابتعاد ما استطاع عن هذا ميدان الفكر و الفلسفة، على الرغم من انه الميدان الحقيقي الوحيد لمعالجة مفاهيم كهذه. اقول الميدان الحقيقي الوحيد مفترضا نمط حضور أدونيس ونوعه المعرفي، أعني النوع الذي لم يعرّفنا به أدونيس، بوصفه لسانيا او عالم نفس او معنيا بعلم الاتصال. و هذه ميادين معرفية أخرى يمكن لها أن تبحث العلاقة بين المفهومين أيضاً.
أين تمت اذن معالجة أدونيس لمفهومي اللغة والحقيقة او العلاقة القائمة بينهما وكيف كانت هذه المعالجة وماهي نتائجها المعرفية.؟
هذا ما سنتعرف اليه في القابل من هذه الدراسة التي ساضطر خلالها الى المضي مع فقرات أدونيس واحدة تلو أخرى سبيلا لضمان الدقة والأمانة.
في الفقرتين الاولى والثانية من مقال أدونيس لم ترد وباي صيغة من الصيغ كلمتا، لغة وحقيقة. لم تتم الإحالة لأيّ منهما، بل ولم يكن الموضوع على علاقة ما بهما، تستحق الذكر. إذْ أنّ ما حدث في الفقرات الاربع المتقدمة كان بالصيغة التالية:
في الفقرة الاولى من المقال بفترض أدونيس محاورا له يلمّح الى عدم قدرة أدونيس على كتابة ما يريده حقا، لذا فهو يفحم أدونيس باسئلة ثلاثة مطروحة من طرف واحد مفادها:
( أنْ لا ثقافة بلا كتابة ،وما يكون الانسان الذي لا يقدر ان يفصح عن مكنونات جسده وفكره ؟ ) .
في الفقرة الثانية يردّ أدونيس على محاوره المفترض بالقول ( انه موجود وحاضر بقوة الكتابة وانه متوحد معها ) .
في الفقرة الثالثة يدعو محاور أدونيس المفترض الى الكتابة عن ذلك المكبوت في الفكر العربي لأنّ عدم الكتابة عنه مشاركة في إبادة الثقافة واللغة - و هنا ترد مفردة لغة لاول مرة - لكن، في هذا السياق الذي لا يقول شيئا .
في الفقرة الرابعة يكرر صديقُ أدونيس سؤاله عن المكبوت العربي، مسألة اللغة العربية وعلاقتها بالعالم واشيائه.
في الفقرة الخامسة نعثر و لأول مرة في المقال على ما يشير الى علاقة جادة بين اللغة والحقيقة، غير أنّ المفارقة، هي أنّ هذه العلاقة المطروحة مقدمةٌ من قبل مالارميه وليس أدونيس، كما يرد ذلك قي النص، يقول مالارميه في الفقرة الخامسة من مقال أدونيس ( اللغة والحقيقة ) متسائلا ( هل تستطيع اللغة ان تنقل حقيقة الشيء او العالم فيجيب مالارميه عن سؤاله كلا لأنّ اللغة لا تقدر ان تتجاوز السطح والباقي يظل بعيدا يلفه الصمت كأن الحقيقة اذن كامنة خارج اللغة ) .
ماذا يمكن أن لمثل هذه العبارات أنْ تخبرنا؟ ولماذا يصمت أدونيس عن اصلها ( الكانطي ) واضح المعالم و النَسب؟ و لماذا يتم لأدونيس طرحها واستعادتها من فم مالارميه الشاعر، وليس من اصلها وميدانها الفكري الحقيقي الذي وردت فيه بوصفها احدى تعاليم فلسفة ( كانط ) النقدية ؟
ما هو الفرق جوهريا بين العبارة التي قالها ( كانط ) وهي إحدى العلامات الكبرى لفلسفته، بل هي العنوان العام لفكره، يقول كانط ( إنّ الفكر غير قادر على معرفة الاشياء في ذاتها وان ما نستطيع معرفته هو الظاهر من الاشياء والعالم قثط ) وبين العبارة التي نقلها أدونيس عن مالارميه “ان اللغة غير قادرة على نقل حقيقة الشيء والعالم وانها لا تقدر ان تتجاوز السطح ، اي انها تنقل الظاهر فقط “ هنا يمكن القول وهو قول يستخدم لإدانة هذا اللبس الحاصل في عدم رؤية الفرق وليس الى تبريره.
يمكن القول إنّ ما يرد في جملة ( كانط ) هو عجز الفكر ، وان ما يرد في جملة مالارميه هو عجز اللغة، فما هو الفرق في المعنى العام للعبارتين - تحديدا - أ ليسَ الفكر هو الذي يستخدم اللغة لفهم الاشياء، أليست هي وسيلته التي يفكر ويعي بها نفسه والعالم ايضا؟ ثم اليس هو معنى واحد ان نقول عن المعنى نفسه - حسب مالارميه - ان اللغة لا تستطيع ان تنقل حقيقة الشيء والعالم.
ببساطة متناهية تقدم لهذه العلاقة وتحاول تفسيرها، نقول: ان مهمة اللغة هي نقل المعروف، المُدرك حسّياً، أمّا ذلك الذي لا يمكن معرفته فلا ينقل عبر اللغة، الامر الذي يعني أنّ الفكر - معرفة الشيء والعالم في الفكر - سابقة على عملية نقله لغويا لأنّ مهمة اللغة حسب ( فتنشتاين ) و ( راسل ) هي نقل الوقائع. لماذا حصل اللبس اذن وما الذي استدعى حدوثه وما هي النتيجة التي يؤشرها مثل هذا الحدوث؟
إنّها فرضية الناقد الادبي ذاتها، منطقة عمله وآليته الفكرية تلك التي سوّغت لأدونيس استلام العلاقة من مالارميه لا من كانط، ألأول ، بدلالته الشعرية، والثاني بدلالته على الفكر، ثم فهم هذه الرؤيا من خلالهما، أي من خلال اللغة وانماط ثقافتها الشعرية النقدية، أعني من خلال بديل للفكر الذي يجري التعامل ممعه هنا، وليس من خلال الفكر ذاته على نحو مباشر،كما اشرت الى ذلك.

في الفقرة السادسة من المقال، يطرح أدونيس دونما اي تعليق او تقديم منه ، فهم النقاد العرب لموضوع اللغة على وفق تناول مدرستَي الكوفة والبصرة مارّاً - دونما تعليق ايضا - بالعبارة الوحيدة التي تفتح المجال واسعا للحوار معه، اعني عبارة جابر بن حيان في تعريفه للغة بكونها ليست وليدة الاتفاق وليس هناك نظام يفسرها وانما هي انبثاق من النفس.

في الفقرة السابعة يتساءل أدونيس عن سبب انتقال المقال من الكلام عن المكبوت الى الكلام عن الكلام، لكن من دون أي ذكر لمصدر عربي أو أجنبي – على كثرتها - يمكن له إغناء هذه الفكرة، من خلال استحضاره لها.
في الفقرة الثامنة يحاول أدونيس ليّ موضوعه حول اللغة والحقيقة لجهة موضوعه الأثير في ادانة المؤسسات والمجتمع العربي ثم الاشارة الى عدم قدرة اللغة على التعبير عن الحضور الحي، انما تعبّر هي عن وهم وجودنا بعبارة ثانية - يقول أدونيس - ( لم يعد لكلماتنا معنى هكذا نتكلم ونكتب لكي نضرب الكلمة بالكلمة ولكي نكفنها او لكي لا نقول شيئا ) ثم نكتشف في الفقرة ذاتها ان هذا الكلام الذي يمس اللغة حقا هو كلام للناقد الانكليزي ( جورج ستانير ) وليس لأدونيس - كما يشير هو - ولان هذه العبارات في فهمنا اهمية كبيرة فاني ساعود اليها لاحقا .
في الفقرة التاسعة يوجز أدونيس في نقاط اربع مقارنة بين اللغة العربية واللغات الاوربية من حيث قدم كل منهما في لغة البحث عن الحقيقة مشيرا في الفقرة التالية الى هذه النتيجة ( المغرضة ) المطروحة في شكل سؤال مفاده ( اذا كانت اللغة في اوربا قد شاخت في مستوى بحثها عن الحقيقة وهي بالقياس الى العربية طفلة فماذا يمكن ان نقول عن لغتنا التي يرقى البحث فيها الى حوالي 18 قرنا ) ينتقل بعدها أدونيس الى الاشارة الى الكشف العلمي التقني والحضاري والمعرفي الذي ( كان اكثر جذرية من اللغات الاوربية منها في اللغة العربية الامر الذي يوفر لها امكانيات مقاومة الشيخوخة بخلاف اللغة العربية التي تعاني ابداعيا حالة من الركود منذ حوالي الف سنة ) ثم يخلص أدونيس الى النتيجة القائلة بان مشكلتنا مع الحضارة هي ( اننا لا نريد الاعتراف بشيخوخة حضارتنا العربية بل اننا نجعل من الشيخوخة نظاما تؤسس عليه ) .
في الفقرتين العاشرة والحادية عشرة يقرر أدونيس باننا ابداعيا بلا لغة واننا لا نكتب بل نرسم الفاظا.
في الفقرة الاخيرة يحيي أدونيس سلالة الشعراء الذين انحدر منهم مباركا اصرارهم على الكتابة وانتماءه اليهم ثم باداء موغل في الذاتية يحوّل كل موضوعه ( اللغة والحقيقة ) الى اداء شعري يقول أدونيس فيه:
" أتعّلمُ الكتابة بُعد، ان الكتابة الاكثر بعدا هي الاكثر قربا اتعلم ان الوقت جرسا وانه لا يرن رنينه الموقظ المعبر على النحو الاكثر عمقا الا في الشعر"
هكذا انتهت مقالة أدونيس ، دراسته عن اللغة والحقيقة بهذه الطريقة من دون ان تقول لنا، تعرض او تتعرض ، تضيف او تحاور ايا من المفهومين وباي عمق يذكر او باي من الميادين الخصبة الصالحة لأن يثار الموضوع خلالها، الامر الذي يمنحنا مشروعية مناقشة هذا المقال بطريقة اكثر جدية تكشف عن الفضاء المعرفي الذي انتج فيه ، وعبر التسلسل التالي :
1- لم يكن العنوان الذي وضعه أدونيس لمقالته بدايةً ومستهلا على صلة ورابط داخلي يخص محتوى هذه المقالة حقا، اعني ان المكان المعرفي والعلة والبداية التي شرع أدونيس منها لكتابة مقالة لم تكن على وجه الدقة مشدودة الى معرفة ماهية اللغة والحقيقة ولم تكن هذه الكتابة - كتابة أدونيس لمقاله - منطلقة بغاية أنْ يتعرف الكاتب ويعرّف لنا طبيعة اللغة والحقيقة، الامر الذي يعني ان أدونيس لم يكن مشغولا، مهتما ومنصرفا بدوافع نفسية معرفية حقيقية لمعرفة ماهي اللغة والحقيقة، انه لم يسع الى كشف هذه العلاقة او اضاءتها. ذلك لان المقالة لم تمض بهدي عنوانها، العنوان الذي كان اهماله متعمدا مثلما لم يكن راسخا ولم يكن علة كتابة المقال مما يدعو الى القول دونما حرج بامكانية ان يكون أدونيس قد وضع هذا العنوان بعد الفراغ من كتابة مقاله بفقراته المنوعة الاثنتي عشرة، المقال الذي لا يعدو تداعيات واستذكارات يوجهها الراي الذاتي عند حدود الثقافة الادبية لهذه الموضوعات حسب.
2- لم تكن معالجة أدونيس لمفهومي اللغة والحقيقة معالجة فكرية فلسفية تشيرـ تذكر، تحيل، او تستمد من اي من طروحات : افلاطون، لايبنتز، هيدجر، ميرلوبونتي، فتنشتاين ، تارسكي ،رسل ، آير ، فوكو، دريدا ، رورتي، باعتبار كتابة هذا الجمع المفكر - على سبيل المثال - لموضوعات من النوع نفسه مثلما لم تكن معالجته للمفهوميين في حيّز لساني على غرار معلجات سوسير، جومسكي ، ياكوبسن، لم تكن كذلك مذكرة باي من المعالجات النفسية للمفهوميين، فرويد ، لاكان.
ما الذي يمكن أنْ يكون عليه حيز المعالجة اذن، إنْ لم يكن منتميا الى كل هذه الميادين والحقول المعرفية المتنوعة ؟
ان الاجابة عن سؤال كهذا، إجابة منصفة، لا يمكن لها إلاّ ان تعترف بأن معالجة أدونيس لهذين المفهوميين إنّما كانت في حيز ( الناقد الادبي ) في بنيته العقلية وفي طريقة رؤيته الى الاشياء والعالم والمفاهيم والمعرفة ،هذه البنية التي تمس الاشياء من السطح دون قدرة على النفاذ والدخول في حوار حقيقي معها لانها كما اشرت تفتقر الى العمق الذي يوفره لها، ولانها مقطوعة عنه وتعمل وفق منظومة معرفية خاصة بها .
وهنا يمكن الاضافة الى ان الناقد الادبي يغادر - هنا - منطقة عمله التي هي حيز النصوص الادبية التي رهن عمله بها، لينظر ، يتطلع، ومن خلال هذا الوسط المغلق الى العالم والمفاهيم ذات الطبيعة الغريبة عنه ليكتب عن رؤياة عنه وعنها. فحسب
3- يمكن القول أيضاً، و من دون تجاوز او تعسف، دون افتراء او تحامل، انما يمكن القول استنادا الى واقع الحال وحقيقة القراءة التي يمنحها لنا مقال أدونيس عن اللغة والحقيقة، إنّ أدونيس الشاعر الذي يعرف هو قبل غيره المكانة الكبيرة التي يحتلها، لم يطّلع او يتعرف أو يصل الى العمق و الحد الكافي من كل تلك الاعمال المعرفية الرصينة - خصوصا الفكري منها - بحيث تتأهل وتدعي مقالته حقيقة الانتساب لها. لأنّ مثل هذا التعرف كفيل بتغيير نظرة المتعرف الى مفهوم اللغة والحقيقة، النظرة التي لابدّ من ان تحدث تاثيرها المعرفي البالغ في ذات المتعرف متجليا ذلك في عدم نسيان هذه الاعمال الكبيرة ودوام النظر اليها بهيبة ووقار ثم الامتناع - من جهة اخرى - عن المغامرة بكتابة اعمال تتناول ذات المفهومين دون رؤية جديدة مغايرة مجاورة تضيف وباي مقدار شيئا ما تمت قراءته والتعرف اليه.
4- في مقال أدونيس - اللغة والحقيقة - لم يرد التعرض الى هذين المفهومين بشكل جاد الا عبر ثلاث اشارات لم تكن ايا منها منتمية الى أدونيس صاحب المقال - كما يشير هو الى أصحابها - . فالعبارة الاولى التي تحدثت عن عدم قدرة اللغة على نقل حقيقة الاشياء والعالم كانت لمالارميه وكانت العبارة المهمة الثانية الجديرة بالمناقشة عن كون اللغة ليست وليدة الاتفاق مقولة من قبل جابر بن حيان، اما العبارة المهمة الثالثة والتي وعدت بالحديث عنها فهي لجورج ستاينر اذ يقول ( لم يعد لعباراتنا معتىً هكذا نتكلم او نكتب لكي نضرب الكلمة بالكلمة او لكي نكفنها او لكي لا نقول شيئا ) فماذا يعني ذلك ؟ اعني، ماذا يعني ان ترد في مقال لأدونيس يتحدث عن اللغة والحقيقة ثلاث عبارات فريدة تتحدث بجدية عن علاقة اللغة او الحقيقة وان تلتقي هذه العبارات الثلاث في كونها لا تنتمي الى قول أدونيس الخاص وليست من بنات افكاره بل هي على التوالي لمالارميه، جابر بن حيان وستاينر ؟ احيل تفسير هذه المقارنة الى القارئ الكريم وادع التعليق عليها له.
5- ان الناقد الانكليزي جورج ستاينر الذي استعاد أدونيس عبارته واستخدمها في غير الوسط والقصد الذي اراده ستاينر لها والقائلة بطريقة غير نصية في طريقة اقتباسها ( لم يعد لكلمتنا معنى هكذا نتلكم او نكتب لكي نضرب الكلمة بالكلمة او لكي نكفنها او لكي لا نقول شيئا ) .
اقول لأنّ هذه العبارات تصلح وتناسب بشكل مقبول لغة الناقد الادبي حين يتجاوز الحيز النصوصي ( النقد الادبي ) ويتطلع الى النظر الى العالم ومن ثم يحاول فهم هذا العالم الاشياء، والمفاهيم بادوات ولغة وفكر الناقد الادبي ذاته.
ذلك لأنّ مثل هذه النظرة ( النقد - ادبية ) الى اللغة والفكر، والتي تنطلق من ذهنية خاصة، ليست نظرة شعرية خالصة تأوّل موضوعات العالم الحسية ذهنيا من اجل انتاج قصيدة هي وسيلتها لفهم العالم، مثلما ليست هي النظرة الفكرية العميقة التي تسعى الى فهم العالم عقليا، بل هي اللغة الوسيطة التي تمتلك لا تأويلية الشعر ولا برهانية الفكر في سعيها لادراك العالم، إنّها لغة تصفية المفاهيم الكبرى بالطرق الاقرب للفهم، ادراكها بأوّل مناسبة تسمح بالتعرف اليها، انها لغة قبول الاشياء وعدم الخوض في مسألة فحصها، ولعلنا نجد في مقال أدونيس هذا تمثيلا جيدا لمسألة حل المسائل الكبرى، المفاهيم والحقائق بهذه الطريقة، بل لعلنا نجد خير تمثيل لها في عبارات أدونيس الموغلة في الذاتية التي يختتم بها هذا المقال كقوله ( اتعلم للوقت جرس لا يرن رنينه الموقظ .. ) او قوله ( اللغة هي وطني في هذا المكان العربي الاسلامي هي وطني مفتوحا على الجهات كلها وعلى الافاق جمعاء ) – مع التذكير بأن معنى هذه العبارة نسخٌ و تشويه لعبارة لهيدجر في دراسته لشعر هولدرلين - او قوله في دراسة اخرى له - مستقبل الشعر وشعر المستقبل - ( محاججا ) عملاق القلسفة هيغل، من دون اية حصانة معرفية او دليل عقلي، يقول أدونيس ( تعرفون قول هيغل ان الفن اصبح مسألة تنتمي الى الماضي، يطيب لي ان اقول انه ينتمي الى المستقبل بل ان أذهب أبعد من ذلك فاقول إنّ المستقبل هو الذي ينتمي الى الفن ) كأن عبارة هيغل قد قيلت بنفس طريقة قول أدونيس او كانها لم تكن النهاية المنطقية التي يقتضيها مذهب هيغل الجدلي والتي تنتمي لمجمل بنائه الروحي الهندسي القائل - عند هذا الحد - بضرورة انسحاب الروح من الغلاف الحسي الذي كان يغلفها سبيلا لانتقالها الى لحظة اخرى هي لحظة الدين ثم الفلسفة.
6- وهي ملاحظتي الاخيرة التي ادعو بها - من تعنيه مثل هذه الدعوة - الى دراسة كتابات أدونيس النثرية بدءً بالثابت والمتحول وانتهاء بالنص القرآني وافاق الكتابة، دراستها ، على وفق لنظرة التي تحدثت بها عنها، نظرة الناقد الادبي الى العالم وما يمكن ان يكون عليه النص المنتج وفق هذا المنهج، وسيجد من دون ريب ان معظم مؤلفات أدونيس النثرية المهمة مكتوبة تحت رعاية وبنية وتركيب هذا النوع المعرفي النقدي، نظرة الناقد الادبي لموضوعات الفكر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تنجح الجماعات الاستيطانية الإسرائيلية بإيجاد -موطئ قدم- ف


.. التناقض في خطاب عفيف.. بين وعود حزب الله وقبول التفاوض




.. المسافة صفر - أحلام عائمة


.. عاجل | دوي انفجارات في تل أبيب جراء تسلل طائرة مسيرة




.. الكابينت الإسرائيلي لم يصوت على قرار الرد على إيران.. وسائل