الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة امتحان أم محنة!

سهير فوزات

2020 / 3 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ندخل الحياة كما ندخل امتحانا بلا سابق إنذار، بعضنا مزود منذ الولادة بال(روشيتات)* والنصائح ودعم الأهل و(القلم)الذهب وكل الوسائل المُطَمئنة اللازمة، وأغلبنا بدل ذلك مزود بأثقال في معصميه... يتيم وابن الصدفة.
ما رأيته مشتركا بين البشر في كل المجتمعات رغم الفروق الواضحة بين ثقافة وأخرى هو التصنيف العمري للإنسان. في تجربة هجرتي عشت ثقافتين مختلفتين بين بلد مصنف كغني وآخر فقير، بين مجتمع مصنف كحرّ وآخر محافظ ووجدت أن التصنيف يخص المواصفات الجسدية والنفسية والطبقية بشريا وليس مجتمعيا. وكل البشر يعيشون هذه المراحل بوعي متفاوت وطبيعة قبول مختلفة:
المرحلة الأولى -الطفولة والمراهقة- هي "مرحلة التحضير" التي نمضي فيها الوقت في تدوين تفاصيل حياتنا على صفحات إحساسنا الكهرمانية غير مدركين أن وقت الامتحان يحسب علينا وغير مكترثين بالمستقبل، تركيزنا مع حاجاتنا الجسدية ولحظاتنا الراهنة. هي مرحلة الانطباعات البكر من ألم وفشل ونجاح وحب، مرحلة الأخطاء الأولى التي قد تكون قاتلة.
ثم مرحلة الشباب المبكر حتى سنّ خمس وعشرين سنة، ترانا نبدد الوقت ونستمتع بالتحديات ونعيش بتفاؤلٍ حالة الضياع التي يضعنا فيها كل سؤال، واثقين من الفوز النهائي وتحقيق النجاح الذي نضع حده الأدنى بناء على طموحنا وحاصل أمنيات من نحبهم ومن نحرص أن نرد لهم (جميل) إقحامنا في هذا الامتحان. قد نطرح الأسئلة الفلسفية ونحاول تحديد ملامحنا وتأكيد ذاتنا كما نريد لها أن تكون، عن قناعة أم وهم قناعة، إنها مرحلة "الأحلام الكبيرة"، وكلمة كبيرة هنا نسبية تماما فقد يكون حلم أحدنا/إحدانا أن يتزوج وينجب أو يحرز وظيفة مستقرة أو حياة آمنة، أو أن يسافر... لا أكثر، الهدف البعيد لتلك الأحلام هو التحرر من سلطة الأسرة والانفصال الجزئي أو الكلي عنها.
بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين نَعِي الزمن، نبدأ بمعالجة الأمور جديا والنظر إلى الأحلام ببعض الواقعية والتعقل. لا نكف عن تضييع الوقت لكننا نكف عن التمتّع بتضييعه. يصبح صرف الوقت اللازم أمام كل مسألة من مسائل حياتنا جزءا مدروسا من حلها لكننا مع هذا نظل كرماء فيه، إنها مرحلة "البطولة الفردية" وتحقيق الذات.
بين الخامسة والثلاثين والخامسة والخمسين هي مرحلة الخيبات، بدأ الوقت ينفد، وبدأنا ندرك أننا أجلنا الأسئلة الأعقد وأضعنا الوقت المهم في حل الأسئلة السهلة، تبدأ مرحلة اللهاث وراء الأحلام والشعور بضيق الوقت، بعد الخامسة والثلاثين ندرك أن ما تبقّى لنا مهما طال هو دوما أقصر من حلمنا بخطوة. يصبح وقت العبث بالكاد يكفي لتوازننا العاطفي مثل قطعة (كرواسان) صغيرة نلتهمها وقوفا لنسكت جوعنا وعيننا على المضمار، في هذه المرحلة قد نغيّر أحلامنا أو نقصّ لحاف الحلم على مقاس رجلي عمرنا. نكتشف بمرارة أن الوظيفة هي تحصيل حاصل، وأن الزواج والإنجاب أصغر من تسميته (حلم حياة)، وبأنه مجرد تمرير الشعلة لجيل جديد ورمي مسؤلية الامتحان عن عاتقنا، وأن السفر امتحان جديد يحتاج حياة أخرى كاملة لاجتيازه. ومع هذا ينجح أغلبيتنا في تجاهل الخيبة وفي تمثل القناعة كإجراء لا غنى عنه لتوازنهم الداخلي. لا يعني هذا أن جميعنا يعي خيبته طوال الوقت فقد يحدث أن يكتشف المرء في نهاية المرحلة أنه هدر كل الوقت المخصص في تفاهة اليومي والمستهلك دون حتى أن يعيش جمال التفاصيل.
بعد الخامسة والخمسين نعود لحالة الاسترخاء الأولى حتى نهاية العمر، هي مرحلة مراجعة الأجوبة وتبييض المسوّدة، قد تطول تلك المرحلة أو تقصر لا يهم فنحن نراجع ببعض الرضى وكثير الأسى منجزات حياتنا نمجّدها ونتوقف نهائيا عن ذكر ما أخفق من أحلامنا وقصّر عنه العمر، بعضنا يتوب عن أحلام الشباب الآثمة ويتجه للتعبد وبعضنا يتباهى بإنجازات أبنائه كما لو كانت إنجازه الشخصي. إنها مرحلة "عيش الموت" نمضيها وعيننا على المراقب الذي يحتكر التوقيت والذي سيسحب منا الورقة في أية لحظة.
هذا المدى العمري الذي افترضته قد يزيد مداه أو ينقص عدة سنوات لكل مرحلة، والاستثناءات التي ينجح أصحابها -بالعمل أم بالمصادفة- في تجاوز هذه الفئات هي مايبقى في ذاكرة التاريخ، لكن الاستثناء لا يكون وليد اللحظة كما في سحب ورقة يانصيب بل هو غالبا قطف ثمار متأخرة.
تقول إيزابيل الليندي التي دخلت عالم الكتابة بعد سن الأربعين:" في سن لا تطمح فيه نساء أخريات لأكثر من رفو جوارب أحفادهن اقتحمت الأدب " في إشارة منها لطبيعة هذا السن، لكن دخولها عالم الكتابة لم يكن بمعجزة بل كان حاصل عمر من تخزين التفاصيل وجمعها ومنح الوقت للقراءة والتأمل بدل النميمة على الأخريات، عمر من الموهبة المختفية خلف قناع البساطة.
غالبا تسعى الطبيعة عبر اللاعدالة الفجة لخلق نوع من التوازن المشبوه بين الناس فتجد الأشخاص المولودين بمواهب استثنائية بقيود في المعصمين وأغلال في الكاحلين وكأن فك تلك القيود هو جزء طبيعي من الامتحان بينما يولد آخرون بلا موهبة ولا (حِسّ حلم) بملعقة مذهّبة في أفواههم فيكسبون وقتا ليسوا بحاجته ربما.
يقول شكسبير: "عمري أطول بكثير من أن أقضيه دون فعل شيء وأقصر بكثير من أن أفعل شيئا مهما"
هذا التصنيف قد يبدو نكتة من وجهة نظر شخص عادي بأحلام صغيرة، وربما يكون لذوي الأحلام الكبيرة إنذارا مبكرا لمحاولة كسب وقت المرحلة الأولى.
المهم أن نحتفظ بحلم أن نكون الاستثناء ونتعلق بحبال الأمل التي تطول لحسن الحظ فتعطي لحياتنا بأكملها معناها الخفي الذي لا يمكن العيش دونه.
*روشيته كلمة فرنسية الأصل تعني الوصفة وهي في القاموس الطلابي السوري أوراق صغيرة الحجم تحوي معلومات مكتوبة بشكل منمنمات يدخلها الطالب معه الى قاعة الامتحان يلخص فيها أهم المعلومات التي قد تنفعه في الإجابة الصحيحة. وكان معظم أبناء المسؤولين يجدون فيها الإجابات الجاهزة للأسئلة المسربة إليهم بفضل نفوذ آبائهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال


.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار




.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20


.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من




.. السعودية تسعى للتوصل لاتفاقيات شراكة أمنية مع الولايات المتح