الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والمجتمع بين التشكل والتشكيل

صبحي عبد العليم صبحي
باحث بالفكر الإسلامي المعاصر

(Sobhee Abdelalem)

2020 / 3 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وفقا لوجهة النظر الإيمانية، جاءت الديانات كمحاولة لخلاص الإنسان من خلال بناء أنساق اجتماعية متزنة فيما بينها، لذا تتشكل عادة وفقا لظروف الاجتماع الذي تنشأ فيه. فالديانات في جزء منها هي رد فعل علي الاجتماع، ترفض بعضا من قوانينه وأعرافه، و تتبني بعضا أخرا، مما ييسر عملية قبولها واستحسانها داخل البيئة الاجتماعية المعنية بعلاجها وتطويرها.
يقول الفيلسوف الألماني هيجل " اللغة وعاء الفكر" فمن غير اللغة يظل الفكر قابعا داخل الذهن يعجز عن تقديم نفسه. هكذا يمكننا القول المجتمع وعاء الدين، من دون المجتمع يظل الدين عاجزا عن تقديم نفسه، وتقديمه لنفسه في ظروف اجتماع محددة لا تعني أبدا تقيده بهذه الظروف، بقدر ما تفيد في فهم غاياته التي يضعها في صورة تشريعية تراعي في بنيتها جوانب وهياكل الاجتماع.
ما يقره التاريخ، أن مراحل تكوين الديانة لا تنتهي بموت المؤسس، بل إنها تمتد حتي فترات التدوين، مما يجعلها عرضة أكبر لتلونها بلون عصر وظروف الاجتماع الذي تدونت من خلاله، وتتكون النصوص التأسيسية للدين في فترة التدوين، ومن ثم تصبح هي المتحكمة في الاجتماع والمقياس الذي من خلاله يتم الحكم علي تطور الاجتماع أو تأخره، فتصبح بمثابة المثال المنشود من قبل المجتمعات، وتظل هذه النصوص ثابتة بينما يتغير الاجتماع بطبيعة الحال ، وفقا لظروف الطبيعة المتغيرة والطبيعة الإنسانية التي تسعي إلي التطور. مما يجعل الديانات تتحول من سياق الخلاص ( باعتبارها احدى وسائل خلاص الإنسان ) إلى عبء على الفرد ومن ثم الاجتماع، فهي غير قادرة علي استيعاب التغير الاجتماعي، وكذلك الاجتماع غير قادر علي التشكل وفقا للقوانين التي تطرحها النصوص التي تكونت في شكل اجتماعي مخالفا له في العديد من الزوايا منها الزمانية والمكانية والسياسية والاقتصادية .. وغيرها. من هنا تصبح عملية الإصلاح الديني ضرورة تفرض نفسها علي المستوي الواقعي، فالواقع الاجتماعي يقر عجزه عن استيعاب أنماط التدين وفقا لظروفه المتناقضة مع هذه الأنماط، ويعبر عن هذا العجز من خلال الازدواجية والتشوش وعدم المنهجية التي تسوده علي العديد من الأصعدة، باعتباره عاجزا عن تبني وتطبيق أنماط التدين، وترفض أنماط التدين الخضوع والاعتراف بالتغير الاجتماعي.
الإصلاح الديني.
وفقا لما سردناه، تصبح عملية الإصلاح الديني "ضرورية" و"دورية"، كي تتمكن من استيعاب التغيير الاجتماعي، وتقوم بدورها في الحفاظ علي التوازن داخل البنية الاجتماعية. وهذا ما أفرزته الحداثة، باعتبارها أولي مراحل التغير الجذري في هياكل الاجتماع، والتي نبتت مع نتائج العلم التجريبي، ورفض الكنيسة العديد من نتائج هذا العلم باعتبار اللاهوت أولى مراتب العلم وتقاس عليه بقية النتائج التي تأتي بها بقية العلوم الأخرى، فظهرت محاولات زحزحة وتخلخل سلطة العقل اللاهوتي، التي تبدت في محاولات التأويل، والنزعة المنهجية التي حاولت فرض الموضوعية والحد من الذاتية داخل العلوم، لتقليص سلطة رجال الدين وإعلاء صوت العلم التجريبي. تتمخض عن هذه المحاولات وتقدم العلم التجريبي تغيرات جذرية في هياكل الاجتماع الكلية، من الاقتصاد والسياسة والصناعة ....إلخ، والتي تجعل الفكر اللاهوتي في مأزق أمام هذه التطورات، ومن ثم يكون مجبرا على الرضوخ لعملية الإصلاح الذي تبناها وأقرها الاجتماع، وإلا يتنحى تماما عن أي سلطة أو دور داخل الاجتماع.
تعد مسألة تخلي النظام الديني عن السلطة – التي تتخذ صفة الإطلاق- طواعية وقبوله بالإصلاح والتغيير ضرب من ضروب الخيال، لتغلغله داخل أنساق الاجتماع ( العائلة – العشيرة – القبيلة – الدولة) وتماهيه في العديد من الأحيان مع الأنساق الجمعية ( العرف- الأخلاق – القانون)، وطرحه لنفسه كمطلق من خارج الاجتماع لا يملك الاجتماع إلا مناشدته والخضوع له، ويصبح وفقا لإطلاقيته ثابتا أبديا، لا يقبل التغير، ويضع نفسه مقابلا للنظام الاجتماعي، حتي يجبره التطور الاجتماعي علي التنحي أو تبني الإصلاح والتغيير.
هيكلة الإصلاح الديني وألياته.
تنشأ عملية الإصلاح كرد فعل من قبل العقل الجمعي تجاه العقل اللاهوتي، الذي يفقد شرعيته شيئا فشيئا مع تطور الاجتماع ووضوح عدم صلاحية أطروحاته للنمط الاجتماعي القائم. ويلعب الفكر دورا هاما داخل هذه العملية؛ لقيامه بدور المحفز علي فهم واستيعاب التطور من خلال قراءة الدين داخل سياقه الاجتماعي، ليصبح أقرب لروح المعاصرة، ومن ثم لا يتنافى مع صلاحيته لكل زمان ومكان، حيث يصبح مجموعة من الغايات المحددة يمكن تطبيقها وفق لأليات الاجتماع المعني ببلوغ هذه الغايات، في أي زمان ومكان، وعادة ما تأتي هذه الغايات كغايات كلية يتفق عليها الاجتماع البشري ويكون راغبا فيها متعطشا إليها، لذا يجد العقل الجمعي نفسه ملزما بالبحث عن سبل وأليات تفعيل هذه الغايات علي المستوي الواقعي، وينشأ عن إصرار العقل اللاهوتي وتعنته ورفض رؤية الدين داخل سياقه الاجتماعي والتاريخي، صراعا بين هياكل الاجتماع والعقل اللاهوتي العاجز عن تبني واحتضان التغيير الذي يفرض نفسه علي الاجتماع بقوة الضرورة الواقعية، وطرحه لأليات تختلف جذريا عن أليات العصر المعني بالتغير ليضع نفسه مقابلا للتغير، فإما أن يقبله أو يتنحى كليا عن الساحة الاجتماعية.
ما لا يمكن إصلاحه يفنى.
يساند الاستقراء التاريخي وجهة النظر الاجتماعية، فضغوط التغير الجذرية تجبر المطلق علي الانحصار داخل مساحته التي يقررها التغيير، ولكنه يعجز في العديد من الأحيان عن نفي المطلق. التاريخ لا سيما التاريخ البيولوجي يخبرنا أن ما يعجز عن التطور فهو عرضة للانقراض، وتاريخ الديانات يوضح أن هناك العديد من الديانات القديمة لم يعد لها وجود اليوم، فتعنت العقل اللاهوتي وعدم خضوعه وقبوله بقوانين التغيير الاجتماعي عادة ما يؤدي إلى حتمية فنائه، وقد يلجأ الفرد للتخلي عن فكرة المطلق التي تطرحها بنية هذا العقل باعتبارها الفكرة الأوحد والصحيحة. قد لا يتمكن الفرد من نفي المطلق ككل، حينها ينتهي به المطاف إلى ديانة أخري تمثل المطلق ولكن بصورة تكن أكثر استيعابا لاحتياجاته.
من الزاوية الوضعية، الديانات جاءت برغبة إنسانية وحاجة الإنسان إليها، فأخترع الإنسان الديانات والآلهة علي شاكلته ووفقا لما يتخيله من القوى العليا والأمثلة عديدة علي هذا لعل أقربها آلهة الأولمب. لكن من الناحية الإيمانية و الأنثروبولوجية فالدين جزء مطمئن للغاية في الروح الإنساني، باعتباره وحده من يقر الخلاص من التناهي؛ كونه حاملا وعد الأبدية والخلود بلا ألم، قد يعجز الإنسان عن التخلي التام عنه، ولكنه أيضا يعجز عن قبوله ما لم يكن مراعيا لاحتياجاته، لعدم تمكن الإنسان من الانفلات الكامل من احتياجاته. لعل هذه ما يفسر إقرار الديانات التوحيدية الثلاثة الكبرى بالعرف ومراعاتها الشديدة لاحتياجات الإنسان، وتبني كل ديانة بعض أراء الديانات السابقة، والإقرار والاعتراف بها، فما يقره الواقع الأنثروبولوجي والاجتماعي، أنه لا يتسنى للإنسان قبول أمرٍ ما لم يكن مراعيا لاحتياجاته. هكذا يكون الأمر أيضا إذا عجز نمط التدين عن استيعاب التغيرات الاجتماعية والإنسانية ومحاولة احتضان وتلبية مقومات الاحتياج الإنساني يقضي علي نفسه بالفناء مهما طالت مدته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 -      -       
Matt ( 2020 / 3 / 20 - 01:14 )
Ahaa, its pleasant dialogue regarding this piece of writing here at
this website, I have read all that, so at this time me
also commenting here. Greetings from Idaho! Im bored at work so I decided to
check out your website on my iphone during lunch break. I enjoy the information you present here and cant wait
to take a look when I get home. Im amazed at how fast your blog loaded on my phone ..
Im not even using WIFI, just 3G .. Anyways, amazing blog!
I’ll right away grab your rss as I can not find your email sub-script-ion link´-or-e-newsletter
service. Do you’ve any? Kindly permit me recognise
in order that I may just subscribe. Thanks. http://alexa.com


2 - ebdsfvfdpionaBtjReoftd
Dbgvfrign ( 2021 / 9 / 19 - 09:45 )
ï»؟KeyWord dissertation for dummies

اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال